«طوفان الأقصى»… منعرج تاريخي استثنائي في مسار صراع الحضارات
2024/08/03م
المقالات
670 زيارة
المهندس وسام الأطرش
ولاية تونس
إن الصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر، حقيقة قائمة منذ نزل الإسلام في مكّة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل هو سنةٌ ماضية باقية ما بقي على وجه الأرض طائفة على الحق ظاهرة. قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ). وقال تعالى: (وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ). بل إن سنة الله عز وجل في الصراع القائم بين الحضارات بشكل عام هي سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولو نظرنا قبل التاريخ الإسلامي لوجدنا أن كثيرًا من الحضارات كانت في حالة تصارع وتدافع كي تطبق جملة الأفكار والمفاهيم والقناعات على الشعوب، فكانت صراعات الفرس والروم والفينيقيين وغيرهم عبر التاريخ دليلًا على هذه السُنّة. قال تعالى: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ).
إن طوفان الأقصى جاء ليسقط القناع عن غرب صليبي حاقد طالما تمسح بأكذوبة التعايش الحضاري، فيعيد إلى الواجهة حقيقة هذا الصراع الحضاري، بل ليشكل انعطافًا تاريخيًّا ونقطة تحول مهمة في الوعي الجماعي العالمي، لا بطبيعة ما يجري في الأرض المباركة أو بطبيعة كيان يهود ووحشية جيشه الهمجي الإرهابي فحسب، بل بحقيقة الغرب المفلس حضاريًّا والمستمر في مد هذا الكيان بكل أسباب البقاء رغم الرفض الشعبي العابر للقارات، وذلك من أجل درء خطر قيام الحضارة الإسلامية من جديد، الحضارة التي يُتوقّع لها أن تغزو عقول الأوروبيين والأمريكيين على حد سواء. فما هي أهمية «طوفان الأقصى» في الجولة القادمة من الصراع الحضاري مع الغرب؟ ولماذا يمكن اعتباره منعرجًا تاريخيًّا بالفعل في مسار هذا الصراع؟
تاريخ الصراع الحضاري مع مبدأ الإسلام
إن الصراع مع الإسلام لم يهدأ طوال قرون، إلا أن أشكال وأوجه ومستويات الصراع مع الإسلام قد اختلفت من زمن إلى آخر، باختلاف قوى الكفر المتربِّصة بالإسلام واختلاف كيدها في محاولة إطفاء نور الحق. قال تعالى: (إِنَّهُمۡ يَكِيدُونَ كَيۡدٗا ١٥ وَأَكِيدُ كَيۡدٗا ١٦ فَمَهِّلِ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَمۡهِلۡهُمۡ رُوَيۡدَۢا١٧). وقال سبحانه: ( يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٣٢).
فقد تصارعت الأمة الإسلامية مع أعداء حضارتها ودولتها صراعًا مريرًا وطويلًا عبر التاريخ منذ فجر الإسلام، وتمكَّنت من هزيمتهم وصدّ عدوانهم في معظم الأحيان، وكانت الغلبة لأهل الإيمان، قال تعالى: (إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ).
فكانت القادسية ضد الفرس وكانت اليرموك ضد الروم في السنة نفسها (15هـ / 636م). وكانت معركة حطين (583هــ / 1187م) التي قادها قاهر الصليبيين ومحرر القدس صلاح الدين الأيوبي، وذلك بعد غزو صليبي استجاب إلى دعوة أطلقها البابا أوربان الثاني في عام 1095م لاستعادة الأراضي المقدسة (القدس) من المسلمين. وكانت أيضًا معركة عين جالوت (658هــ / 1260م) بقيادة سيف الدين قطز والتي وقعت بين مدينتي نابلس وبيسان في الأرض المباركة فحطَّمت الأسطورة المغولية وشكَّلت منعطفًا حاسمًا في التاريخ الإسلامي.
ثم وصل الأمر لاحقًا بعدد من الدول الأوروبية النصرانية بدعوة من البابا إنوسنت الحادي عشر إلى خوض (حرب التحالف المقدس) ضد الخلافة العثمانية ظنًّا منهم أن دولتها باتت ضعيفة على خلفية فشلها في فتح فيينا بعد حصارها للمرة الثانية، ورغم استمرار هذه الحرب من عام 1683م وحتى عام 1699م، إلا أنها انتهت بهزيمة الدول الأوروبية المتحالفة وتقهقرها. بل حين أراد نابليون بونابرت زعيم الجمهورية الفرنسية الأولى إثبات قدرته العسكرية من خلال حصار عكا في الأرض المباركة والتي كانت حينها إحدى ولايات الدولة العثمانية، اصطدم نابليون بقلعة عكا عام 1799م وعجز عن تخطيها نتيجة التخطيط العسكري الاستراتيجي للقائد أحمد باشا الجزار.
وهكذا، يتجلى بوضوح أن الصراع مع الإسلام والعداء للمسلمين ظل قائمًا، لا يخفت إلا من باب تحيّن الفرص، لا فرق في ذلك بين حكم الكنيسة وزعامة البابا أو حكم الدولة العلمانية المتمسكة بمبادئ الثورة الفرنسية والقائم على عقيدة فصل الدين عن الحياة، بل لقد جاءت عبارة «اذبحوا الأمة الملعونة» التي خاطب بها الأديب الفرنسي الشهير فيكتور هيجو جيش فرنسا عند غزوه للجزائر؛ لتشكل أرضية فكرية فلسفية وتنظيرًا علمانيًّا بغيضًا لاستنساخ ممارسات محاكم التفتيش نفسها ضد المسلمين في الأندلس وما رافق ذلك من وحشية ودموية، تكرَّرت مشاهدها الفظيعة ضد المسلمين رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة. قال تعالى: (قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ).
فالعلمانية الكافرة والرأسمالية الفاجرة بقيت عاجزة عن صناعة عقيدة قتالية لدى الجيوش الغربية، فكان لا بد من إحياء عقيدة الصليب لخوض المعركة الحضارية ضد الإسلام والمسلمين! وبينما كانت تروِّج هذه الحضارة الفاسدة للديمقراطية وحقوق الإنسان في أوروبا وتخادع شعوبها بهذه الشعارات الزائفة، كانت ممارساتها ضد المسلمين تناقض كل معاني الإنسانية، ولا أدلُّ على هذا التناقض الصارخ من إنشاء فرنسا سنة 1937م لمتحف“الإنسان”، وهو متحف بحجم فضيحة حضارية عالمية، تتباهى فيه فرنسا إلى اليوم بعرض نحو 18 ألف جمجمة بشرية للثوار المسلمين الذين قطعت رؤوسهم في الجزائر.
ويمكن القول، إنه منذ مؤتمر وستفاليا المنعقد سنة 1648م، والذي أسفر انعقاده عن انبثاق الأسرة الدولية لدول أوروبا الغربية النصرانية لتقف في وجه الدولة الإسلامية وأسفر عن انبثاق القانون الدولي، وإلى أن انعقد مؤتمر فيِنَّا سنة 1815م لتنظيم شؤون العائلة الدولية، ثم تبع ذلك معاهدة إكس لاشابيل سنة 1818م التي اتفقت فيها الدول الكبرى على التدخل المسلح لقمع أي حركة ثورية تهدد النتائج التي انتهى إليها مؤتمر فيِنَّا… منذ ذلك الحين، والدول الصليبية تخوض صراعًا عقائديًّا حضاريًّا محتدمًا ضد الحضارة الإسلامية، بعد أن ورثت من الكنسية العداء للإسلام، فظهر ما بات يُعرف بــ»المسألة الشرقية»، أي أوضاع الدولة العثمانية في السياسة الأوروبية بعد اضمحلال قوتها وبداية معاناتها من التحلُّل السياسي والعسكري التدريجي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ثم تُوّج هذا الصراع الوجودي الذي تبحث فيه الدول الصليبية عن معركة الحسم النهائي، بمخرجات مؤتمر كامبل في لندن سنة 1907م، وهو مؤتمر استعماري خطير نُسب إلى رئيس الوزراء البريطاني هنري كامبل بنرمان، وقد دام عامين وجمع عددًا من الدول الأوروبية، ثم تمخَّضت عنه خطة شيطانية مرعبة تزعمتها بريطانيا آنذاك؛ حيث اعتبرت أن منطقة شمال أفريقيا وشرق البحر المتوسط هي الوريث المحتمل للحضارة الغربية(حضارة الرجل الأبيض)؛ لأن المسلمين يشكلون فيها مجموعة حضارية واحدة، فيها قابلية التوحُّد ضد أوروبا وتهديد مصالحها؛ ولذلك اقتضت الخطة زرع جسم غريب يفصل بين شرق بلاد المسلمين الآسيوي ومغربها الأفريقي، ونادت بضرورة إقامة دولة عازلة، تكون عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية النصرانية الداعمة لها.
وهكذا نُفِّذت هذه الخطة الخبيثة مع اكتشاف النفط وإرساء أسس السيطرة عليه وعلى البلاد الإسلامية التي تم تقسيمها وتفتيتها من خلال اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م، ووعد بلفور عام 1917م، ومؤتمر فرساي عام 1919م الذي أسس وأرسى بدوره قواعد الهيمنة والسيطرة الغربية على العالم، من خلال ما يتغنى به حكام اليوم من مسميات “الشرعية الدولية” و”القانون الدولي”، وأعطوا الاستعمار الجديد اسم “الانتداب”.
ثم جاء مؤتمر سان ريمو في عام 1920م، الذي حدَّد مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية، وكانت خلاصته وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع العراق وفلسطين وشرقي الأردن، تحت الانتداب البريطاني، مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور.
وبعد أن وقف القائد الفرنسي غورو على قبر صلاح الدين قائلًا : “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، مشيرًا إلى فوزهم في الحرب الصليبية من جديد، الحرب العالمية الأولى، بعد ذلك استطاع الجيش البريطاني أن يحيط بمدينة القدس ويتفوَّق على الحامية العثمانية تمهيدًا لاستيلاء اليهود على أراضي فلسطين؛ لتبقى كلمة الجنرال البريطاني إدموند أللنبي التي دونتها الصحافة البريطانية تتردد في أذهان المسلمين حين دخل القدس ماشيًا من باب الخليل سنة 1920م، وقال: “الآن انتهت الحروب الصليبية”.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة والضربة القاصمة لظهر “الرجل المريض”، حين تُرجم هذا الصراع الحضاري سياسيًّا بهدم دولة الخلافة العثمانية سنة 1924م بعد خلخلة أركانها في الداخل وإضعاف نفوذها في الخارج؛ لينزع عن الأمة درعها الواقي أمام الهجمات الحضارية الغربية المتتالية في مستوياتها الفكرية والثقافية والسياسية والعسكرية، وتصبح مكشوفة الظهر أمام أعدائها. وهكذا حقَّق الغرب غايته وألحق الهزيمة الحضارية بالأمة فأنهى وجود الدولة الإسلامية التي كانت حاضنة لهذا المبدأ العظيم وهذه الحضارة العريقة. ولم يقف الصراع عند هذا الحد، بل لقد استمر دون أن يكون للمسلمين كيان وأن يكون للإسلام سلطان. نعم، لقد استمر الغرب الصليبي في تنفيذ مقررات مؤتمر كامبل، إلى أن اتخذت الأمم المتحدة، قراراتها بتقسيم فلسطين، وإعلان دولة(إسرائيل) بتاريخ 14/05/1948م.
وهنا حصلت النكبة، وتمت جريمة زرع كيان يهود في أرض الإسراء والمعراج، نكاية في الأمة ودينها، مع تهيئة الأجواء لدمجه بالمنطقة تدريجيًّا؛ لتتناوب على حراسته أنظمة وظيفية تمنع عنه بطش الأمة وجيوشها وتعطل جهادها، بل تمنع تحركها في اتجاه نصرة قضاياها المركزية، وفي مقدمتها قضية الأرض المباركة)فلسطين).
هذه القضية، لمن يدرس التاريخ جيِّدًا، ظلت عنوان المعركة الحضارية تاريخيًّا وموطئ الصراع الحضاري عبر قرون؛ إذ لم يكن اختيار فلسطين لزرع هذا الكيان الهجين أمرًا عبثيًّا بالمرّة، بل كان أمرًا مدروسًا بعناية فائقة من قبل شياطين الإنس وقادة الصراع الحضاري ضد الإسلام؛ ولذلك ظلت هذه القضية بمثابة محرار للأمة وموضوع اختبار لها منذ فتح بيت المقدس وصياغة العهدة العمريّة، تُنتزع منها إذا ضعفت واستكانت، وتعود إليها متى وحَّدت صفّها واعتصمت بدينها واستقوت بالله على أعدائها، وها نحن نرى اليوم كيف عادت هذه القضية للواجهة لتكون مجدَّدًا محور الصراع الحضاري والوجودي مع أكبر أعداء الأمة؛ أمريكا وربيبتها كيان يهود. فهل يمكن الوقوف في وجه مشروع الهيمنة الحضارية الأمريكية؟
أمريكا ومسار الصراع الحضاري مع الإسلام
وجدت أمريكا هذا المجتمع “الوستفالي”الدولي وهذا الإشراف الأممي جاهزًا، وحاولت جاهدة الحفاظ عليه بل وتطوير نسخة منه؛ من أجل حمل لواء الصراع الحضاري في العالم، مستغلة تفوقها العسكري وخروجها بأخفِّ الأضرار الاقتصادية عقب الحرب العالمية الثانية.
أقامت أمريكا صرح الهيكلية الدولية بتشكيلة هيئة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي للتدخُّل في شؤون العالم كله في القضايا السياسية، مع افتعال الحروب والأزمات، في حين كان لصندوق النقد الدولي دور كبير في القضايا الاقتصادية والنقدية. وبهذه الأمور مجتمعة تكون قد أمسكت بكافة الخيوط التي تضمن لها السيطرة على العالم سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا. ومنذ غدت الدولة الأولى في العالم وهي تتطلع لأن تكون الدولة التي تتفرد برسم السياسة العالمية دون منازع على غرار الدولة الإسلامية سابقًا، حتى تحقق لها هذا الأمر عام 1990م، من خلال انهزام المبدأ الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي وسقوطه المدوِّي في معركة صراع الحضارات، رغم امتلاكه لأحد أكبر الجيوش في العالم عدةً وعتادًا فضلًا عن ترسانته النووية الضخمة، ومع ذلك لم تنجح فلسفته وحضارته ممثلة في مجموعة المفاهيم عن الحياة في قيادة الشعوب، وهذا هو سبب التداعي والسقوط؛ لأن الدول والحضارات لها أعمار، وهي تُبنى وتقوم على أساس الأفكار التي تقنع الإنسان فتقوده فكريًّا، لا على القوة العسكرية التي ترغم الشعوب على اعتناق أفكار فاسدة لا تصلح لرعاية شؤونهم.
والملاحظ في سياق الحرب الحضارية، أنه حتى في ظل وجود الاتحاد السوفياتي واستمرار غياب كيان للمسلمين، فإن الغرب وفي مقدمته أمريكا ظل يبني سياساته على أساس أن الحروب الصليبية ضد الإسلام وأهله لا تزال مستمرة، وأن هذا يجعل أمريكا تقف بالضرورة إلى جانب العالم الغربي وكيان يهود.
هذا ما يظهر من خلال متابعة خط سير أمريكا في تعاملها مع بلاد المسلمين، وهذا هو عين ما صرَّح به أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م، حيث قال: «يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة (المسيحية). لقد كان الصراع محتدمًا ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف، خضع الإسلام لسيطرة الغرب وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي. إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالعالم الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها».
بهذا القدر من الوضوح، يحدد روستو أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام كيان يهود هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمرارًا للحروب الصليبية؛ ولهذا استمرت أمريكا منذ ذلك الوقت في الإمساك بملف ما أسموه قضية الشرق الأوسط وقضية فلسطين، وجعلهما أولوية في سياساتها مع البلاد الإسلامية، مع محاولة فرض رؤيتها لحل الدولتين على الجميع.
وفيما اعتبر مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية منذ سنة 1952م أن الشيوعية لا تعد خطرًا على أوروبا مقارنة بالإسلام الذي يعد تهديدًا مباشرًا للحضارة الغربية لقدرته الفعلية على إزالة قواعد الحضارة الغربية وإلحاق رسالتها بمتاحف التاريخ، فإن الساسة والمفكرين الأمريكيين قد اتخذوا من الإسلام عدوهم الحضاري الأول والأساسي بمجرد سقوط الاتحاد السوفياتي.
ففي أوائل عام 1990م، ذكر الصحفي دافيد هاول في مقاله الذي نشرته صحيفة واشنطن تايمز وصحيفة جابان تايمز بعنوان «تحول في مسار التاريخ» أن العدو الآن بعد اندحار الشيوعية هو الإسلام وحضارته. كما ينسب إلى شمعون بيريز رئيس وزراء كيان يهود الأسبق قوله: “لقد أصبحت الأصولية الخطر الأعظم في عصر ما بعد انهيار الشيوعية”. (مجلة العربي عدد 514، سنة 2001)
ولذلك تميَّزت مرحلة التفرد الأمريكي منذ تسعينات القرن الماضي بتقسيم العالم وتحشيده ضد البلاد الإسلامية تحت غطاء محاربة الإرهاب، فعدلت أمريكا بوصلتها على إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين، ثم تحدَّدت عقيدة المواجهة الحضارية مع الإسلام بعد عولمة الإرهاب واستنفار الجميع لمحاربته في مقولة بوش الابن”من ليس معنا، فهو ضدنا”؛ وهو ما مهد لحروب صليبية جديدة قادتها أمريكا ضد بلاد إسلامية بعد افتعال أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001م.
أما الغاية من هذه الحرب الاستباقية المعلنة، بزعامة صانعة الإرهاب أمريكا، فهو الحيلولة دون قيام الخلافة الإسلامية التي تعيد انبلاج فجر الحضارة الإسلامية القادرة على هزيمة الغرب الصليبي وإعادته أمام العالم إلى حجمه الحقيقي، وهذا ما أشار إليه داهية السياسة الأمريكية هنري كيسنجر حيث أشار في خطاب له ألقاه في الهند بتاريخ السادس من تشرين الثاني عام 2004م في مؤتمر هندوستان تايمز الثاني للقادة “إن التهديدات ليست آتية من الإرهاب، كذلك الذي شهدناه في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، ولكنّ التهديد آتٍ من الإسلام الأصولي المتطرف الذي عمل على تقويض الإسلام المعتدل المناقض لما يراه الأصوليون في مسألة الخلافة الإسلامية، فالعدو الرئيسي هو الشريحة الأصولية الناشطة في الإسلام التي تريد في آن واحد قلب المجتمعات الإسلامية المعتدلة وكل المجتمعات الأخرى التي تعتبرها عائقًا أمام إقامة الخلافة”.(مجلة النيوزويك في عددها الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر(2004
هذا الانتباه السياسي العميق إلى صحوة الأمة وحركيتها ووعيها على ذاتها وعلى مشروعها من قبل الدولة الأولى في العالم، والذي أدى إلى التجييش الإعلامي والعسكري ضد جزء كبير من البلاد الإسلامية بزعم الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تنشرها أمريكا بتركيز المزيد من القواعد العسكرية، سينعكس في المستقبل عليها بلا شك، ولكنه يعكس في الآن ذاته حجم الهزيمة النفسية ومدى الإفلاس الحضاري للغرب الذي خسر معركة الأفكار فانسحب في وقت مبكر من ميدان الصراع الفكري، ولم يجد من سبيل للمواجهة غير وضع المسلمين جميعًا في قفص الاتهام مع تشويه الإسلام ووسمه بالإرهاب وإعلان الحرب عليه في عقر داره، قبل أن تصل أفكاره المطابقة لواقع الإنسان إلى بلاد الغرب، فتعيد بناء الإنسان الغربي وصياغة وعيه من جديد، بعيدًا عن الخداع والتضليل والتزييف وعن كل المغالطات التي ينسج خيوطها هذا المجتمع الدولي الرأسمالي الذي تقوده أمريكا.
هذه الهزيمة التي يتجرَّع قادة الغرب مرارتها يوميًّا، فلا يزيدهم ذلك إلا إشهارًا لسيوف العداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عبَّر عنها صامويل هنتنغتون في قراءته الموضوعية الشهيرة التي رد فيها على النظرة القاصرة لتلميذه فوكوياما حين اعتبر أن “الديمقراطية الليبرالية بإمكانها أن تشكل فعلًا منتهى التطوُّر الأيديولوجي للإنسانية والشكل النهائي لأي حكم إنساني”، ليطلعه عن تاريخ الإسلام ويلخصه بجملة واحدة يقول فيها:”الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتين”.ثم يخبره بكل ثقة وكل بساطة عن مرحلة ما بعد النزاع الرأسمالي الشيوعي قائلًا: “صحيح أن جوانب من الحضارة الغربية وجدت طريقها في حضارات أخرى؛ ولكن قيم الديمقراطية وسيادة القانون والسوق الحر قد لا تبدو منطقية في عقلية المسلمين؛ ولذلك فإن الصراع القادم سيكون بين “العالم المسيحي”بقيمه العلمانية من جهة، و”العالم الإسلامي” من جهة أخرى”.(من كتاب صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي، الذي ألفه ليتوسع في مقالة له نشرتها مجلة “فورين آفيرز” حول حتمية صدام الحضارات).
وبناء على كل ما تقدم، يمكن تلخيص مرحلة الصراع الحضاري الغربي ضد الإسلام بقيادة أمريكا في النقاط التالية:
1- الغرب يبني سياساته مع البلاد الإسلامية على أساس أن الحرب الصليبية مستمرة وأمريكا تتزعم قيادة هذا الصراع نيابة عن الغرب.
2- الإسلام هو الخطر الحقيقي بعد سقوط الشيوعية.
3-أمريكا استشعرت خطر أفول حضارتها وتراجعها أمام المد الإسلامي، وأدركت حقيقة حتمية صراع الحضارات؛ ولذلك اختارت أن يكون الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، واستعْدت شعوب العالم ضد الإسلام والمسلمين، في إعلانها الحرب ضد الإرهاب، وسخرت كل جهودها السياسية والعسكرية والدبلوماسية في هذا الاتجاه.
4-هذه السياسات عمَّقت من حجم الإفلاس الفكري والحضاري في مواجهة الإسلام، بعد أن صارت بلاد المسلمين أولوية السياسات الخارجية للدولة الأولى في العالم، رغم أنه لا يوجد للمسلمين كيان يجمعهم، في المقابل، خفت بريق الديمقراطية عالميًّا وتراجع الاهتمام العالمي بمنظومة القيم الغربية بشكل عام وضعفت الثقة بقدرة النظام الرأسمالي على حل مشاكل البشرية.
تصدع جدران البناية الحضارية الغربية
كل هذا المكر الغربي بقيادة أمريكا، كان قبل مرحلة “الربيع العربي” التي عزَّزت الشعور لدى الإدارة الأمريكية بقرب خروج المارد الإسلامي من القمقم، فراح قادتها يسابقون الزمن من أجل منع خروجه الحتمي المرتقب ويخمدون بكل الوسائل والأساليب تلك التحركات الشعبية الراغبة في التحرر الفعلي من ربقة الاستعمار ومن تسلط النظام الدولي بقيادة أمريكا، حيث جابت الثورات عواصم البلدان العربية رافعة شعارات الإسلام بكل وضوح ومنادية بالخلافة في بلاد الشام من منطق إسلامي عقائدي ضديد للمشاريع الاستعمارية في المنطقة، الأمر الذي جعل أمريكا تسارع إلى إيصال الإسلاميين المعتدلين إلى الحكم في أكثر من بلد من أجل إفراغ الإسلام من مضامينه؛ وذلك بالتوازي مع استغلال النسخة المشوَّهة للخلافة المعروفة اختصارًا بـ(داعش)، ثم إلى إنشاء التحالف الدولي ضد (داعش)الذي مهَّد لسطوة أمريكا على المنطقة وإشراك روسيا في أعمالها العسكرية بغطاء صليبي معلن يجهر بالعداء للخلافة فضلًا عن إشراك تركيا الملتحفة بعباءة الإسلام المعتدل وذلك بغاية وأد الثورة السورية.
هذه الثورة التي شيبت رأس أوباما، وأسماها داهية السياسة الخارجية الأمريكية كيسنجر بطوفان سوريا في كتابه “النظام العالمي، أفكار حول طبيعة الأمم ومسار التاريخ” والذي حذَّر فيه من تراجع الاهتمام بالديمقراطية وخسارة دعاتها في البلاد العربية. ومع ذلك، لم تجد أمريكا من خيار سوى دعم أنظمة الطغيان في سوريا ومصر وإلى تفكيك ليبيا والسودان، وتطويق المنطقة بالاتفاقيات العسكرية، إمعانًا منها في كسر إرادة الأمة وقتل الأمل في التغيير الجذري على أساس الإسلام، في وقت يفترض فيه أن تنشغل أكثر بمشاكلها الداخلية.
بهذا القدر من الغرور والطغيان، فقد الغرب بزعامة أمريكا من رصيده الحضاري الكثير في مرحلة ما بعد الثورات، وتورَّطت أمريكا في إراقة المزيد من الدماء، وبرَّرت بقاء قواتها في المنطقة بالقول إن “العراق وسوريا يشكلان خطرًا أكبر على أمريكا من أفغانستان” كما جاء على لسان بايدن. في المقابل، شهد الاقتصاد الأمريكي إثر جائحة كورونا أسوأ تراجع له منذ أزمة الرهن العقاري في 2008م، وشهدت السياسة الأمريكية انقسامًا واضحًا أحدث شرخًا حقيقيًّا داخل المجتمع الأمريكي، وهذا كله أدى إلى تصدُّع جدران البناية الحضارية الغربية التي تحرسها أمريكا، وإلى تراجع الثقة عالميًّا في المبدأ الرأسمالي وفي قدرته على توفير مناخ استثماري مستقر في الوقت الذي يتغذى فيه من صناعة الحروب والأزمات. وما الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها العالمية عنا ببعيد، ومن يدري ما الذي سيحدث بين الصين وتايوان أمام استمرار التآمر الأمريكي. في المقابل، تعددت الثقوب التي اخترقت هذا البناء الغربي المتآكل من الداخل؛ ما دفع الشعوب الغربية إلى إعادة النظر في علاقتها بحكوماتها من جهة، وفي علاقتها بالإسلام والمسلمين من جهة أخرى.
وما التحركات الشعبية التي شهدتها عواصم الغرب خلال العشرية السابقة إلا مظهر من مظاهر الانحدار الحضاري، والشك في المسلمات الفكرية لدى الغرب، ومقدمة من مقدمات التمرد على النظام الدولي بنسخته الحالية؛ على أمل ظهور نظام عالمي جديد يرفض منطق الوصاية الأمريكية وينقذ البشرية من وحشية الحضارة الرأسمالية وجبروتها، وهذا يحمِّل الأمة مسؤولية أعظم ويتطلَّب منها استعدادًا أضخم. هذا هو الوضع الذي كان سائدًا قبيل أحداث“طوفان الأقصى”، قبل أن تعمق حرب غزة هذا الشرخ وتبرز صورة المنظومة الحضارية الغربية كما لم يرها أحد من قبل. فهل تسير البشرية بعد هذا الحدث العالمي الخطير نحو إعادة تشكيل النظام العالمي من جديد؟.
طوفان الأقصى، مقدمة لنظام عالمي جديد
في مقابلة مع ماتياس دوبفنر، الرئيس التنفيذي لشركة أكسيل سبرينغير الإعلامية الألمانية بعد يومين فقط من انطلاق طوفان الأقصى، حذَّر كيسنجر من أن”هناك خطر تصعيد الصراع في الشرق الأوسط وتوريط دول عربية أخرى تحت ضغط الرأي العام”. وأضاف داهية السياسة الأمريكية قائلًا: “إن العدوان الروسي المستمر في أوكرانيا، إلى جانب هجوم حماس على(إسرائيل)، يمثل هجومًا رئيسًا على النظام الدولي”…
هذه العبارة تلخص طبيعة المعركة الحضارية مع الغرب، حيث يرى كيسنجر أن طوفان الأقصى هو اعتداء على النظام الدولي الذي أوجد كيان يهود، وليس مجرد هجوم مسلح استهدف جيش الاحتلال، أو ردة فعل على جرائمه المستمرة طوال 75 سنة في حق أهل فلسطين، وهذا ما يفسر الحالة الهستيرية التي دخل فيها الغرب برمّته، لأن التهديد يطال نظامه ومبدأه ووجوده.
لقد كشفت حرب غزة حقيقة الحضارة الغربية المجرمة؛ حيث تهاوت الأقنعة وأزيلت الرتوش ومساحيق التجميل عن وجوه الأدعياء، وتبخَّرت القيم الإنسانية ومبادئ الحرية والعدالة، وغير ذلك من العناوين التي جعلت منها دول الغرب الرأسمالي أدوات لاستعباد الشعوب الفقيرة وامتطاء ظهور أنظمتها الاستبدادية ردحا من الزمن. كما سقطت خلال هذه الملحمة الكثير من النظريات العسكرية وتلاشت كل قواعد الاشتباكات المسلحة وترنحت معادلات التفوق العسكري المطلق، أمام عمليات “المسافة صفر” وأمام ذلك الصمود الأسطوري لمجاهدي غزة وأبطالها المتسابقين على جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
ولذلك يمكن القول إن صورة المجاهد المسلم الواثق في ربه وهو يواجه عدوه الصهيوني الواثق في التطور التكنولوجي أو في الدعم الأمريكي، تختزل طبيعة المواجهة الحضارية التي ينتصر فيها المسلم بسلاح من صنع يديه على عدو متحصِّن في دبابة تعجز عن صد هجمات “المسافة صفر”، كما تعجز عقول أصحابها عن استيعاب مفعول العقيدة الإسلامية في قلوب المجاهدين الصادقين.
وهكذا فإن “طوفان الأقصى”، فوق عبقرية التسمية وضخامة الحدث، كان صورة ناصعة ومصغرة من ذلك المد الإسلامي العظيم الواثق الذي نبع كالنهر القوي الدافق من جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانطلق فاتحًا الأمصار وهاديًا الأمم، رغم تشكيك المرجفين والمتخاذلين، وهذا من شأنه أن يعيد تشكيل الوعي الإسلامي بما يجدِّد ثقة الأمة بدينها ويدفعها نحو استعادة مجدها والدفاع عن نفسها بإقامة كيانها الجامع والذود عن قضاياها المصيرية، فتندفع بكل طاقاتها في هذا الاتجاه؛ حيث أحيا”طوفان الأقصى” مفهوم الجهاد في سبيل الله، وكثر الحديث عن ضرورة الوحدة لمواجهة أعداء الأمة وكسر شوكتهم، وصار الحديث عن ملاحم آخر الزمان وعن الخلافة أمرًا مستساغًا ومطلوبًا، واشرأبَّت الأعناق لبيعة خليفة المسلمين.
في المقابل، لا يزال العالم يعيش منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م طوفانًا من الحقائق اليومية ومن الصدمات التي تعيد تشكيل وعي الشعوب الغربية ونخبها الأكاديمية على حضارتها البائسة الداعمة للإجرام الصهيوني، وتشعرهم بخزي وعار الانتماء إليها، فترسم لهم صورة تزداد وضوحاً كلما استمرت الحرب، كما تكشف لهم حالة التخبط التي صار يعيشها قادة وزعماء يسكنهم الارتباك والتذبذب في المواقف والتصريحات وتحركهم عقلية صبيانية حاقدة على الإسلام تجعلهم يبتهجون بالتقاط صورة مع مجرم الحرب نتنياهو. هذه الأحداث تعيد أيضًا تشكيل وعي الأمة على حقيقة الأنظمة المتحالفة مع كيان يهود، وتدفعها دفعًا للخروج من دائرة العجز والبحث عن حل جذري يوقف شلالات الدماء التي تراق في بلاد الإسلام لا في غزة فحسب، خاصة بعد أن وجدت نفسها عارية تمامًا عن كل أدوات القوة التي تمكنها من مباشرة فعل التحرر.
إذًا، نحن اليوم أمام مسارين متضادين متمايزين: مسار انحدار الحضارة الرأسمالية الشاذة وتآكل لمنظومة قيمها، مع تسارع لنسق تصدع هذه البناية الحضارية بعد طوفان الأقصى بشكل يستحيل معه الترميم، مقابل بروز الإسلام كفكرة سياسية قادرة على تخليص الأمة وإنقاذها من براثن الاستعمار الصهيو-صليبي وجرم آلته العسكرية، وخاصة إذا اضطلعت الجيوش بالدور المنوط بها، باعتبارها حجر الزاوية في تركيز المشروع الإسلامي وتفعيله، وقد جاء طوفان الأقصى ليقرب هذه الصورة بوضوح إلى الأذهان، كما برز الإسلام عالميًّا كعقيدة روحية سياسية وفكرة قادرة على قيادة البشرية جمعاء، فكان طوفان الأقصى سببًا لتجديد الإيمان عندنا ولاعتناق الإسلام عند غيرنا.
إن زمن المفاصلة الحضارية قد حان، وإن انهيار الغرب وسقوطه هي حتمية تاريخية باتت وشيكة، قد يسرعها قيام دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، إذ يُعتقد أن يكون خبر إعلان قيامها حدثًا مزلزلًا للغرب الرأسمالي برمته بعد أن عجز عن صنع صورة انتصار وهمي لكيان يهود أمام الصمود الأسطوري لأهل غزة ومجاهديها.
فهذا الصمود التاريخي لا يعني سوى عجز يهود ومن خلفهم بقواهم الضخمة عن الانتصار عليهم، وهذا بدوره كسرٌ لهيبة الغرب كلِّه أمام صمود غزة، بل هو هزيمةٌ ساحقة لكل من دعم هذا الكيان، وهو ما يُجرِّئ المسلمين على مواجهته وليس مواجهة كيان يهود فقط، وهذا تهديدٌ حقيقيٌّ للنظام الدولي؛ ولذلك راح العديد من المفكرين أمام هول ما يرونه اليوم يحدثون أنفسهم بإمكانية تحقق تلك الأطروحة الشائعة منذ قرن، والتي ابتدعها المفكر الألماني أوسفالد شبينغلر في كتاب الصادر سنة 1918 تحت عنوان “انحدار الغرب”.
بل لقد صار بعضهم يحدث نفسه بقرب معركة هرمجدون ويحذرون من خطورة استمرار الحرب، فقد تحدث عنها إيهود أولمرت قائلًا إن حكومة بنيامين نتنياهو تؤمن بفكرة معركة هرمجدون التي تشير إلى حرب نهاية العالم. وتداولها أيضًا العقيد الأمريكي المتقاعد دوجلاس ماكجريجور في تعليقه على إصرار نتنياهو على اجتياح غزة قائلًا:”أعتقد أننا على طريق خطير للغاية نحو هرمجدون”، كما أشارت إليها صحيفة تلغراف البريطانية في التقرير الذي كتبه كبير مراسليها روبرت مينديك للتعليق على الحالة النفسية المتأزمة التي يمر بها عناصر جيش كيان يهود. وأقوال الغرب في التحذير من الخلافة وقيامها أكثر من أن تحصى أو تعد، تترجمها سلوكيات بعض الدول الغربية في التعامل مع دعاة الخلافة وفي مقدمتهم بريطانيا التي سارعت إلى حظر حزب التحرير بعد أحداث طوفان الأقصى.
إن الخلافة الإسلامية أسقطت بعد عقود بل قرون من المؤامرات، وبعد حروب مدمرة، وانقلابات مدبرة وتدخل مباشر وغير مباشر من القوى العالمية الكبرى آنذاك؛ لكن النظام الرأسمالي العالمي بصدد السقوط، وهو يتمتع بحماية أفتك الأسلحة وأعتى الجيوش وأكبر التحالفات وأقوى الأجهزة وأكثرها تطورًا؛ ولكنه يتهاوى اليوم أمامنا ويسقط فكريًّا وأخلاقيًّا وقيميًّا من تلقاء نفسه في عز جبروته المادي والرمزي، وفي أوج تفوقه العسكري وطغيانه البشري؛ لأنه ببساطة يقوم على فكرة لا تصلح لقيادة البشرية ولا لرعاية شؤونهم. وهذا ما يبعث أكثر الأسئلة وجاهة حول جدواه وقدرته على الصمود أمام إكراهات الزمن والتاريخ بل أمام ممكنات السياسة وحتميات العقيدة لدى المسلمين. قال تعالى: (قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ ٢٦). [النحل: 26].
نعم، الخلافة الإسلامية أُسقطت قسرًا وقهرًا، بينما النظام الرأسمالي قد يسقط تلقائيًّا؛ لأنه ببساطة يحمل في صميم تكوينه عوامل زواله وفنائه؛ ولكن احتكاكه بالإسلام وأهله وخوضه للصراع الحضاري مع هذا المبدأ العظيم يسرع من هذا السقوط بإذن الله، ليترك المجال أمام نظام عالمي جديد يعيد تشكيل العالم وصياغة الأعراف السياسية بمنهج خير البرية، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ». قال تعالى: (بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ١٨) [الأنبياء: 18].
طوفان الأقصى إذًا هو محفز مهم لعملية التفاعل الحضاري بين الإسلام والرأسمالية، وهو منعرج تاريخي في مسار صراع الحضارات ببعده العقائدي وبرمزية الزمان والمكان، كما أنه سنَّة من سنن التغيير وجزء من مخاض عسير جاءت أحداثه بمثابة تهيئة ربانية لحكم رشيد وفصل جديد في تاريخ الأمة سيضطلع فيه رجالات الدولة القادمة قريبًا بإذن الله بمهمة إلقاء الحضارة الرأسمالية في هاوية سحيقة، بعد استعادة السيطرة على أخطر منطقة في العالم جيوسياسيًّا، وأهمها على صعيد تحقيق المصالح ورسم الاستراتيجيات، كما أشار إلى ذلك بريجنسكي في كتابه: «رؤية استراتيجية: أمريكا وأزمة السلطة العالمية»، والذي حذَّر فيه من تنامي الصحوة السياسية العالمية التي يغذيها «التطرف الإسلامي» بزعمه.
ولذلك فإن الحرب الجارية الآن على غزة والمنطقة هي فرصةٌ حقيقية وتاريخية للانقضاض على كيان يهود والقضاء على هيمنة أمريكا واستكبارها، ولتحويل طوفان الأقصى الذي زلزل كيان يهود إلى طوفان أمّة يشدخ نافوخ الكفر، ويسقط النظام العالمي الغربي برمته، ويستأصل كيان يهود من شأفته، ويستعيد عزَّ الأمة الإسلامية وانتصاراتها ومجدها، وهو شرف لا يناله المطبِّعون والمتخاذلون عن نصرة هذا الدين. قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥) [القصص: 5].
2024-08-03