العدد 443 -

السنة الثامنة و الثلاثون، ذو الحجة 1444هـ الموافق تموز 2023م

مفهوم الدولة العميقة

نبيل عبد الكريم (أبو مصعب)

لقد تم استخدام مصطلح «الدولة العميقة» في التحليلات السياسية بشكل كبير وبطرق متعددة مما جعله محاطًا بشيء من الغموض، ويحمل دلالات مختلفة، وأغلب تعاريفه تشتمل على عنصري (الخفاء والمؤامرة). وقد جاء معنى هذا المصطلح تحت مسمَّيات عدة منها «الدولة الموازية» و«الدولة المزدوجة» و«مراكز القوى» و«الحرس القديم» و«حكومة الظل» وغيرها من المسمَّيات؛ لذلك سوف نسلِّط الضوء على هذا المصطلح لعلَّنا نصل به إلى بعض الوضوح لمن يقرؤه أو يسمع به.

إن نشأة هذا المصطلح قد تكون قديمة جدًا، لكنني سوف أتناوله من أقرب تاريخ؛ حيث يقول بعض المؤرخين إن أقرب تاريخ لوجود هذا المصطلح كان مع جمعية الاتحاد والترقي في تركيا؛ لأن مصطلح derindevlet ويعني الدولة العميقة، هو مصطلح تركي تم استخدامه من قبل الجمعية لإلغاء سلطة الخلافة وإنشاء الجمهورية التركية، فهو أحد مخرجات الدولة القومية، أو هو المولود الشرعي للدولة القومية الحديثة، وهو يعني قوى ومصالح وشبكات خارج المؤسسات المعلنة والمعروفة، وقد اعتمده الغرب للإطباق على دولة الخلافة حيث بنى دولة داخل دولة، وقد مارست هذه الدولة وسائل العنف بالضغط على الآخر بطريقة سرية في الأغلب للتأثير على النخب السياسية والاقتصادية لضمان انتهاج سياسات تحقق مصالح معينة ضمن إطار الديمقراطية ظاهريًّا، ولمصالح القوى السياسية العالمية حقيقةً، وهم يتحكَّمون بكل شيء بدواعٍ مختلفة، منها: الأمن القومي وضرورات اقتصادية وغير ذلك من العبارات، وهنا تمَّ استخدام مصطلح الدولة العميقة بشكل معاكس عما هو عليه الآن؛ حيث كان مِعولَ هدمٍ للدولة القائمة أي الخلافة العثمانية، وهو اليوم يستخدم كدرعٍ لوقاية الدولة ومصالح الدول الكبرى؛ حيث قيل عن مصطلح الدولة العميقة: هي مجموعة من التحالفات النافذة المناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسي، وتتكوَّن من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات (المحلية والأجنبية) والقوات المسلحة والأمن والقضاء والمافيا في كل مجال، فهي تشبه (دولة داخل دولة). وقيل: هي شبكة مصالح متشابكة ومترابطة لا يعرف أفرادها بعضهم البعض، ولكنهم يعملون لهدف مشترك وهو الدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم خارج القانون والمجتمع والدولة، بمعنى (دولة فوق الدولة) وتعرف بالمؤسسات غير المرئية.

وأوسع تعريف لها قيل هي: التحالف العميق الذي يجمع بين ظهرانيه بنيات الدولة المختلفة، أي مركب إداري وسياسي وإعلامي ومؤسسة عسكرية واستخبارات وقضاء ومثقفين ورجال دين… إلخ، يجمعهم جميعًا رابطة واحدة تقودهم وتبقي على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، ويُستثنَون من أي محاسبة في حال تغيُّر النظام، وهم مرتبطون بقوة أعلى من قوة الدولة ذاتها.

وقد ذُكر كثير من التعاريف غيرها تتقارب في أشياء وتختلف في أخرى، فالدولة العميقة هي شبكة الأشخاص الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمي له مصالحه الواسعة، وامتداداته العريضة في الداخل والخارج، ونقطة قوة هؤلاء هي أن لهم رجالًا في كل مؤسسات ومفاصل الدولة المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية، فهم قادرون على التحرك في كل الاتجاهات في آن واحد وعلى أعلى مستويات السلطة ويتحكمون بقرار الدولة السياسي، أو بمعنى آخر: لهم التأثير القوي على القرار.

والدولة العميقة نوعان: دولة عميقة داخل الدولة القومية وضمن حدود الدولة القومية على مستوى القرار والتنفيذ. ودولة عميقة على مستوى القرار العالمي، وهو الذي يتحكم بجميع القرارات، وهو يسيطر على الدولة العميقة الداخلية القومية، ونبدأ بالنوع الأول:

۞ النوع الأول: الدولة العميقة داخل الدولة القومية:

إن من أهم أعمال الدولة العميقة كي تحافظ على شبكات المصالح بداخلها هو استخدام العنف في إطار حالات استئثانية خارج إطار القانون، وهو ما يعرف (بحالة الاستثناء) والتي يتم فيها اتخاذ العديد من الإجراءات الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر المحدق به، وأنه هناك دائمًا عدو متربص بها؛ لذلك تقوم دائمًا بقمع المعارضين وكل من لا يشعر بالرضا من أداء الدولة بشكل عام وسياستها بشكل خاص، وهم يستخدمون القانون لهذه الحالات الاستثنائية، فهم رجال يأخذون مواقف قمعية خلال فترة قصيرة جدًا، ويعلمون أن لهم الصلاحية وأنهم محميون من أي تعقُّب أو عقوبة؛ لذلك هم مدربون بشكل خاص، ويعلمون مدى القوى التي تقف وراءهم، ويحتاج بناؤهم إلى زمن طويل، وهذا ما يجعلهم عملة نادرة يجب الحفاظ عليهم، ولهم أذرع كثيرة نذكر أهمها:

الذراع السياسي: وهو أخطر سلاح في معركة البقاء؛ حيث إنهم يسيطرون على كل مفاصل السياسة، حتى الأحزاب المعارضة نجد أنها تتبع لهم؛ بحيث يُحدثون تناغمًا بين الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، ويقودون الدفَّة بين الأخذ والعطاء والقبول والرفض لتحقيق مصالح الدولة القومية ومصالح القوى الخارجية.

الذراع العسكري: حيث تقوم المؤسسة العسكرية بكل نشاطاتها بشكل روتيني؛ ولكن مفاصل القيادة وتحرك المركبات مع المخابرات العسكرية جميعها تحت سيطرة الدولة العميقة؛ حيث يتم تعيين القيادات عبرها، وتؤخذ القرارات منها، وهي التي تطّلع على أصغر التفاصيل، وتنفِّذ كلَّ أوامر رجالها حتى لو لم يتمَّ فهمها. فالدولة العميقة بيدها كل التفاصيل وأدقِّها؛ ما يجعل حركتها في تنفيذ القرارات سريعة ومنظمة ومنسجمة بحيث يسبق أي تحرك إن وجد، أو يشلُّ حركة أي تحرك غير مرغوب فيه داخل الدولة. ودائمًا هناك فرقة أو تشكيل خاص تحت قيادتهم للتدخل السريع، وله صلاحيات كبيرة وميزانيات مفتوحة.

الذراع التشريعي (القضائي): فالذراع التشريعي يتلقى كل أوامره من الدولة العميقة، والأحكام والتشريعات يُصادَق عليها من الدولة العميقة ويتم إرسالها كأحكام قضائية جاهزة، وعمل القاضي هنا فقط قراءتها ولو لم تكن قانونية، وهي تشرف عمليًّا على تعيين أهم القضاة، فهي خارج روتين الدولة القائمة، وتمتلك شبكة معقَّدة من العلاقات الداخلية ما يجعلها تستطيع قراءة الواقع بشكل صحيح وواضح، وتمتلك القدرة على تمرير أي قانون أو تعطيل مروره دون الالتفات لاعتراض الجميع؛ ولهذا فلا يوجد معترِض أصلًا.

الذراع المالي: إن الاقتصاد يشكل قوة لا يستهان بها؛ لذلك نجدهم يستحوذون على المال بشكل بشع يفوق كل التصورات، ويقودون مافيات حقيقية داخل جسم الدولة في كل المجالات، ويسمح لهم بغسيل أموالهم وأموال خاصتهم، وأيضًا لهم القدرة على إرضاخ أي شخص بالمال أو التضييق عليه عبر المؤسسات المالية التي زمامها بأيديهم، ناهيك عن التمويل الخارجي والحسابات الخارجية وتأمين المصالح الأجنبية بشكل واضح.

الذراع الإعلامي والإلكتروني: على اختلاف وسائله فهو يعتبر السلطة الرابعة بعد السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهو ذو أهمية عالية لما يؤثره على الرأي العام الوطني والقومي، ورسم شخصيات على حسب الرغبة.فلها قدرة على تلويث القيم والأخلاق وتبديل المفاهيم الصحيحة بمفاهيم مغلوطة، وترفع حثالة المجتمع ليكون لهم شأن يذكر ويصبحوا نجومًا. ويساعد الإعلام على إيجاد رأي مطابق لرأي الدولة وليس الرأي الواجب أن يكون، حتى إنه واكب تحكمها التطور فأنتجت جيشًا إلكترونيًّا للمراقبة والمحاسبة وبثِّ الفرقة والإشاعات وجسِّ نبض الشارع وغيره الكثير.

الذراع التنفيذي والأمني:

هو الذراع القادر على تنفيذ أي أجندة داخلية أو خارجية، وقد بني بشكل دقيق وممنهج لأنه صمام الأمان لهم، واليد الفعلية التي تتحسس ضغط الشارع، وهي التي تبطش بالشارع في حال التهديد؛ لذلك تكون جميع أذرع الأمن وإن تنوعت تسميتها هي حصرًا تحت سيطرة الدولة العميقة، ويكونون محصَّنين ويصعب المساس بهم.

وعبر هذه الأذرع تكون الدولة العميقة قد غرست أنيابها في جسد الدولة، فإن إمكانياتها وقدراتها تفوق قدرة الدولة ذاتها، فضلًا عما تتميز به من سرعة اتخاذ القرار والتنفيذ تحت ضغط تهديد وجودها، وهي قدرة جبارة، فهي تأخذ قرارات عنيفة دون الإحساس بالمسؤولية تجاه ذلك القرار لما لديها من قوى داعمة ومصالح يجب الدفاع عنها، ولعلمها أنها مهما فعلت فهي غير محاسبة فهي تستطيع الانتصار على الشعب في جميع القرارات، ما عدا إذا كانت هناك ثورة شعبية عامة، فهنا لا تنفع المواجهة لأن الشعب يقلب كل المؤسسات رأسًا على عقب، فهم يلجؤون في هذه الحالة إلى العنف المفرط لأنهم يعتبرون المسألة مسألة وجود كما في سوريا، إلا إذا تمَّ الالتفاف عليها كما حصل في تونس ومصر والسودان والجزائر.

وعادة لا يعلم الناس عن وجودها شيئًا حتى قيام الثورة التي تكشف أسرارها بالتفصيل، وقد حدث هذا في ثورات الربيع العربي حيث تم التعرف بشكل صريح على مصطلح الدولة العميقة، وقد تولَّد شعور لدى كثير من الناس أن هناك أياديَ خفيةً تعبث في المجتمع والدولة، وهذه الأيادي ذات عمق وتجبُّر وسيطرة.

ومن هنا يمكن تحديد بعض صفات الدولة العميقة ورجالها بما يلي:

إن الدولة العميقة تعتمد على قوى خارجية. وهذه القوى مرتبطة بمصالح النظام العالمي، وهذا سوف نشرحه لاحقًا في النوع الثاني من الدولة العميقة.

صعوبة تغيُّر الأوضاع بوجودهم؛ لأن تغيُّر الأوضاع يأخذ طابعًا عنفيًّا كما تشهده سوريا كمثال واضح.

تتعاون الدولة العميقة مع كل فاسد في الدولة من رجال أعمال وإداريين ورجال دين فاسدين وتوسع أعمالهم وصلاحياتهم لتكسب ولاءهم، فأعضاء الدولة العميقة يجدون الأوكسجين لهم في كل انحطاط وفساد؛ لذلك فكل من يتعاون معهم لا يستطيع الخروج من قبضتهم لما سوف يناله في حال فكر ولو للحظة أي تفكير خارج إرادتهم.

تعتمد على تغيير القواعد الأخلاقية والدينية بشكل يخدم مصالحها وإضعاف الاهتمام بها، ووضع مفاهيم جديدة تجعل نسيج الشعب متفرقًا ممزقًا أمامها وراضيًا بالبقاء تحت ظل الاستبداد. فالدولة القومية عندها هي بمثابة الإله، فإنها تتحكم بالناحية الدينية وتسخرها لمصالحها بعدة مسميات (طاعة ولي الأمر، أعداء الدين، الخوارج، الإرهاب…).

القانون صنع بنانهم في جميع الحالات حيث يمكنهم محاسبة كبار الشخصيات وذوي السلطات العليا؛ ما يجعلهم القوة التي ليس فوقها أي قوة.

جعل جميع الأجهزة في الدولة تتقبل أي وضع يصدر عنهم دون أي سؤال أو استفسار عما يحدث وكأنها مسائل لا تهمُّ أحدًا مثل اغتيال أو اعتقال إخفاء أحد ما.

تبقى جميع مؤسسات الدولة بصلاحيات ضعيفة أمامهم، وهي مثل الدمى بأيديهم، فهم يستطيعون عرقلة أي مشروع أو تطور أو أي تغير لا يناسب توجُّهاتهم.

وإذا أردنا تفكيك الدولة العميقة، فمن حيث المبدأ لا يتم تفكيكها إلا إذا تم تفكيك السبب الذي أوجدها، وهو القوى الخارجية التي تدعمها، وكذلك فأكثر أجهزتها وأفرادها يعملون في الخفاء؛ لذلك للتخلص من هذه الدولة العميقة يجب التخلص من جميع الرموز التي خدمت تحت سلطتها مهما كانوا، وهذا لا يتأتى إلا بانقلاب كامل وفعلي، وبعد هذا الانقلاب يتم محاربة القوى الخارجية. وهذا طبعًا لا يتم إلا إذا كان الانقلاب لا يمتُّ للنظام العالمي بأي صلة، بل هو نظام عالمي جيد يقوم على مبدأ جديد لا يقبل بالوسط القديم مطلقًا، ولا يعتمد على أي قواعد للنظام العالمي، بل يكون ندًّا له ويعمل على إزاحته.

هل أثرت الدولة العميقة بالربيع العربي؟

في الحقيقة لقد تمَّ الالتفاف بشكل دقيق ومتقَن من قبل الدولة العميقة على الثورات التي قامت في كل من تونس ومصر والجزائر والسودان، على خلاف ما حدث في الدول ذات الصراع الدولي كليبيا واليمن، أما ما حدث في سوريا فله واقع مختلف كثيرًا لا بد من التعريج عليه:

إن ما حدث في سوريا كان له وضع خاص؛ لأنهم لم يكونوا قادرين على الالتفاف عليه؛ وذلك لطبيعة الشعب المختلفة والوعي الذي كان موجودًا في أول الثورة ولامس الخطوط الحمراء التي لا يرغب الغرب حتى الاقتراب منها؛ لذلك كانت أوامر بالقبضة الحديدية وجر الثوار إلى العسكرة حتى يتاح لهم بأدواتهم كبح تقدم الثوار، وقد واجهوا صعوبة بالغة طيلة السنوات السابقة مما أضعف الدولة العميقة وأفقدها أغلب أذرعها؛ لكن الغرب تصرَّف مع ثورة الشام بحنكة، وكانت عليه عصية. فوزع أزلام الدولة العميقة بين المعارضة عبر الانشقاق المدروس، وعبر سحب بعض الرجالات إلى أماكن آمنة، كفاروق الشرع مثلًا الذي مكث في روسيا طيلة هذه الفترة لتبقى يداه نظيفتين، وأيضًا عبر المحافظة على قيادات الفروع الأمنية المرموقين كعلي مملوك. ورغم ما اعترض الدولة العميقة من ضعف إلا أنها قد تستطيع ترميم نفسها إذا ما عاد الناس إلى الهدوء والرضى بالواقع؛ ولكن هذا سوف يتطلب منهم سنوات حتى تعود القبضة كما كانت؛ لذلك نجد تأخرًا في إنزال الحل السياسي لأسباب كثيرة منها محاولة ترميم بعض الأذرع، ومع ذلك نجد أنهم سوف يعتمدون على الدستور الجديد في فرض أجندات جديدة تتيح لهم إعادة البناء، وفي حال حدوث أي خلل سيجعلون في الدستور موادَّ تستطيع تفتيت النسيج السوري وتقسيمه بحدود الدم، وطبعًا فإن ما نقوله الآن هو مكر الغرب وعملائه، وليس الواقع أو الذي سيكون. فإن الناس تستطيع قلب الطاولة على الجميع بشرط أن تسلِّم قياداتها لمن يعلم أصول التعامل مع النظام العالمي والتصدي له، ويحمل المبدأ البديل، وقادر على قيادة الدفة إلى برِّ الأمان وإقامة الحكم بما أنزل الله، على أن يكون انقلابًا جذريًّا لا وجود لأي من رجال الدولة العميقة السابقة وأعوانهم في بنية الدولة الجديدة لأنهم سوف يعملون معول الهدم فيها من جديد.

۞۞ النوع الثاني: الدولة العميقة على مستوى العالمي:

فهي القوى الداعمة لجميع الدول العميقة في الدول القومية، وهي التي تسيطر على مستوى أي قرار داخل هذه الدول؛ لذلك هي تحقق الهيمنة عليهم عبر هذه الشبكة اللامتناهية العلاقات مع اختلاف عمالة الدولة، فإن أهم رجال الدولة العميقة لهم اتصال مباشر أو غير مباشر مع الدولة العميقة العالمية، وهي التي تتحكم بجميع مؤسسات النظام العالمي الحالية مثل: الأمم المتحدة، مجلس الأمن، البنك الدولي…إلخ، على نفس الهيئة ونفس الأذرع، وهم من أسَّس النظام العالمي الحالي أي النظام الرأسمالي، ويحكمون العالم وَفقه. وقد يتمثلون بالمؤسسات الحاكمة عالميًا، أو العوائل التي تسيطر على السلطة والمال بآن واحد، مع أن أفرادها لا يظهرون مطلقًا ولا في أي منصب، وإنما لهم وجود خفي وقوي جدًا، ولهم سيطرة غير عادية على جميع السلطات العليا في العالم في جميع المجالات دون أي استثناء مطلقًا. وهم الذين يخطِّطون على مدى سنوات طويلة ويدرسون كل شيء بطريقة علمية ليبنوا مخططات محكمة. والإسلام كمبدأ يضعونه نصب أعينهم وخططهم ليحولوا دون ظهوره على الساحة ولا بأي شكل من الأشكال، بل يعملون على تشويه صورته. وهنا سوف أسرد مثالًا حاليًا ومثالًا مستقبليًا أتوقعه:

فتنظيم الدولة الذي ادَّعى إنشاء دولة الخلافة كيان جديد مجهول، ومع ذلك تلقَّى الدعم من كل دول العالم مع تفرقها حتى تكاد تتوه في معرفة من الذي يدعمه، وقد نفَّذ أجندة غربية لتشويه الإسلام بشتى الصور حتى يجعلوا مسمى الخلافة غير مقبول عند الأمة، وفي لحظة انتهاء دوره لاحظنا أن الجميع شارك في إنهائه مع أن الخطر الذي يشكله، لو تفلّت، كبير جدًا؛ لكنهم قاموا بدراسة مستفيضة له مستخدمين مكرًا كبيرًا يفوق خطط الدول المحيطة به.

والمثال الآخر المستقبلي الذي أتوقعه هو أنهم يعلمون أن دولة الخلافة الراشدة بإذن الله قادمة؛ لذلك هم يقربون شخصية حاكمة لتكون قريبة للأذهان العامة على أنه يصلح لأن يكون خليفة وهو أبعد ما يكون عن ذلك، والذي هو الرئيس التركي، وذلك لأمر خفي قد يكون صمام الأمان لهم عند قيام دولة الخلافة الحقيقية، فيعلن هو أيضًا قيام خلافة إسلامية، ويطبق الشرع بغية خنق الخلافة الحقيقية وتشتيت الأنظار عنها، وهو معروف للناس ومسوَّق له سابقًا. والخلافة الحقيقية قد تكون جديدة على الساحة، ومع وجود نصوص صريحة منها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا». إلا أن بُعد الناس عن الدين عبر مئة عام ويزيد جعل في أذهانهم ضعفًا لا يضعون معه هذه النصوص موضع التطبيق.

وإذا أردنا القضاء على هذه الدولة العميقة العالمية فهو مستحيل بالنسبة إلى الأفراد والدول التي تنتمي إليها، لذلك يجب أن تكون هناك حرب مبدئية تقضي على وجودها وعلى شبكتها العنكبوتية المسرطنة، وهذا والله أعلم لن يتأتى إلا بوجود دولة الإسلام التي سوف تمزق أوصالها وتتبر ما علو تتبيرًا.

إن ظاهرة الدولة العميقة بهذا المفهوم هي نتاج النظام الرأسمالي؛ لأنه يجب عليه حكم العالم بالحديد والنار والمكر الذي تطبقه فئة قليلة من البشر لنهب ثروة العالم وترك البشرية تعيش التعاسة والفقر. أما نظام الإسلام الرباني الذي يجلب الخير للعالمين فليس فيه هذه المنظومة التي عملها الحقيقي إضلال البشرية؛ وذلك لأن الدولة الإسلامية تقوم على العدل والمساواة ورعاية شؤون البشرية وتطبيق قيم هذا الدين الحنيف الذي ينقل العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ونوره، وما أحوج العالم اليوم إلى دين الله ليخرجهم مما هم فيه ويضيء له عقولهم وأبصارهم.

إن العمل على عودة الإسلام إلى معترك الحياة هو مطلب البشرية وليس المسلمين فقط؛ لأن العالم وصل إلى مراحل الدرك الأسفل. وإننا على أبواب التغيير؛ لذلك نقول للعاملين خاصة وللمسلمين عامة أن عليهم أن يغذُّوا السير لنصل في الوقت المناسب ونكون بأتم جاهزية لخوض معركة البقاء، ونشهد إن شاء الله بزوغ فجر الإسلام لينير العالم بعدله ونوره، ونعود كما كنا خير أمة أخرجت للناس. قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٣٢).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *