العدد 234-235 -

العددان 234-235 – السنة العشرون، رجب وشعبان 1427هـ، الموافق آب وأيلول 2006م

مع القرآن الكريم: الآثار السياسية للحكم بغير ما أنزل الله

مع القرآن الكريم:

الآثار السياسية للحكم بغير ما أنزل الله

 

الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، يقودون الأمم والشعوب الإسلامية بسياساتهم الجائرة إلى كوارث ونوائب لا طاقة لهم بها، وهم فوق ذلك كالسوس الناخر في عظامها، يلطخون حاضرها، ويشوهون ماضيها، ويغيِّرون هويتها حتى تسقط عند الله، فتجري عليهم السنن الجارية على المعرضين. إنهم يد مع الأعداء عليها في الوقت الذي يدَّعون فيه الدفاع والذود عنها، وهم ومن حولهم من عصابات النفاق والردة مسؤولون عن الهزائم المتتالية التي لا تكاد الشعوب الإسلامية في المشارق والمغارب تخرج عنها إلا إلى المزيد منها. حتى أصبح كيان الأمة كلها هزيلاً لا يُسمع له صوت، ولا تُحترم له كلمة، ولا يُصان له حق، وصار هؤلاء في الداخل عوناً لأعداء الأمة في الخارج، يفتحون أبواب حصونها أمامهم ويكشفون قلاعها أمام زحفهم، كل هذا والأمة مخدرة بدعوى حماية الدين في الوقت الذي يذبحون فيه حكمه ويبدلون شرعه.

ولقد جنت الأمة في العصور الأخيرة ثماراً مُرة من جراء هذه السياسات الخائنة لله ولرسوله وللمؤمنين. وعلى الأمة أن تتنبه لما يُراد لها، وأن تستقرئ كتاب ربها فإنه ينبه ويحذر من شر النفاق والمنافقين. قال تعالى: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون 4]. وقد فضح خباياهم الخبيثة فقال: ( وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران 118]. فالمنافقون والمرتدون، هم القنطرة التي تعبر من فوقها كل مخططات الأعداء إلى داخل الأمة.

وباستقراء آيات القرآن تنكشف تفصيلات من تلك الآثار التي يجلبها الحكم بغير ما أنزل الله… فمن ذلك:

1- تسهيل مهمة أعداء الإسلام:

ففي ظل الحكم بغير ما أنزل الله، لا تعد موالاة الكفار محرمة بل تعتبر مرغوباً فيها مدفوعاً إليها، بحكم الرغبة أو الرهبة. والله تعالى بعد أن أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) -والمؤمنين من ورائه- بالحكم والتحاكم إلى ما أنزل الله، حذر من موالاة الأعداء من اليهود والنصارى الذين يؤازرون المنافقين أولياءهم ليتآمر الجميع ضد هذه الشريعة ليفتنوا الناس عنها. فقال تعالى: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ @ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ @ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ @ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة 49-52].

فإذا كان المنافقون الكارهون لشريعة الله يسارعون إلى الأعداء في حال استضعاف النفاق وخفوته، فكيف بهم، إذا توسدوا الأمور، وارتكبوا الكراسي، إنهم وقتها لن يقصروا في تقديم كل معونة في تسهيل خطط الأعداء التي عجزوا عن تنفيذها بأنفسهم، يقول سيد قطب، رحمه الله،: «أحسب والله أعلم، أن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين كليهما، قد يئسوا من هذا الدين في المنطقة الإسلامية الواسعة، في أفريقيا وآسيا وأوروبا، كذلك يئسوا أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد عن طريق المذاهب المادية، كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار.

ذلك أن الفطرة البشرية ذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه، حتى بين الوثنيين فضلاً عن المسلمين، وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام أو حتى ورث الإسلام. وأحسب -والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود الصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية، أو عن طريق التبشير، فعدلوا إلى طرائق أخبث وإلى حبائل أمكر، لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين جملة… ثم هي تحت هذا الستار الخادع تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير. وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل.

إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام، أو على الأقل تعلن احترامها للدين، بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله، وتقصي شريعة الله عن الحياة، وتحل ما حرم الله، وتنشر تصورات وقيماً مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية، وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية، وتنفيذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونية».

ولا شك أن تسهيل مهام الأعداء وأهدافهم في بلاد المسلمين، لن يجد مناخاً أيسر ولا أنسب من المناخ الذي يسيطر فيه المبدلون للشريعة على مقدرات الأمة، فيقتلون فيها كل روح تنـزع إلى المقاومة أو الخروج من رسف الأغلال.

2- تسلط الكفار وتوالي المصائب:

تعيش هذه الأمة في استقلال وعزة طالما اعتزت بهذا الدين، فإذا ما بحثت عن العزة في غيره لم تجد إلا الهوان، كما قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله» (الحاكم).

ويمكن القول إنه ما من مرة في التاريخ فرطت هذه الأمة في رسالتها وانحرفت عن شريعتها إلا وسلط الله عليها غيرها.

وفي وقت مبكر من حياة الإسلام، لُقن المسلمون هذا الدرس، فقد كانت مخالفة أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -مثلما حدث في أحُد- درساً متجسداً باقياً. يُعطي للأمة في كل أجيالها المؤشر الدقيق والميزان المرهف الذي يمكن أن تقيس به حالها، لقد هُزم الجيش الإسلامي حينذاك على الرغم من أن الجنود كانوا من خير القرون، وقائدهم خير البرية. حدث هذا ليستقر في تصور المسلمين أن عقوبة المخالفة هي مصائب عاجلة تتناسب مع قدر المخالفة ومكانة المخالِف، وهذه الأمة المناط بها القيام بأعظم رسالة، تؤخذ بما لا يؤاخذ به غيرها -على الأقل في هذه الدنيا- وقد تنَزَّل القرآن إبَّان «مصيبة أحد» يهدئ من روع المذهولين ويجيب على استفهامات المتسائلين عن سبب الهزيمة وعلة المصيبة ليخاطبهم قائلاً: ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران 165]. إنها قاعدة مطردة وسنة جارية… إن ما يصيب المسلمين من مصائب لا يكون من قِبَل قوة الأعداء ولا بسبب خذلان الأصدقاء، إنما الذي يؤتى المسلمون من قِبَله هو نفوسهم ذاتها: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال 53].

إن هذا الدرس الذي تلقاه المسلمون الأوائل، ظل على مدى التاريخ الإسلامي هو الدرس نفسه، فالصليبيون تسلطوا على المسلمين في أواخر القرن الخامس الهجري في وقت كان بيت المقدس محاطاً بالعديد من الإمارات المتهالكة على السيطرة، المتنافسة في معترك الأهواء، وفي الوقت الذي كان يبدو فيه أن العباسيين شغلتهم شواغل أخرى عن الإعداد للصليبية المتربصة حتى دهمتهم آخر الأمر في زحف لا ينقطع مدده أشعل الحرب في ديارنا قرنين كاملين، وما ندري ما هذه الشواغل. لقد كانت الأهواء متغلغلة في جسد الأمة حتى وصلت عناصر من المبتدعة الضالين بل الملاحدة المارقين إلى سدة الحكم في كثير من الديار الإسلامية، فاستولى العبيديون على مصر ومناطق من الشام والمغرب العربي لعقود طويلة، ومن سوء الحظ أنهم كانوا في بيت المقدس وقت أن دهمها الصليبيون، فكيف كان يمكن الانتصار عليهم وقتها؟!

وكذلك سُلط النصارى على المسلمين في الأندلس، فهل كان هذا الأمر بعيداً عن حال الحكام والمحكومين هنالك وقتذاك؟ بالقطع لا، فالأمراء الذين بدأوا فكانوا لله خلائف، انتهى الأمر بهم إلى أن أصبحوا ملوك طوائف يبحثون عن اللذات، ويتحركون بالعصبيات، ويقدمون الأهواء على الشرائع في الحكم، وانتهى من حياتهم ذكر القيم الأولى وذكر الأجداد الكبار، وجاء التتار فاجتاحوا بلاد المسلمين، حتى لم تنج منهم عاصمة الخلافة نفسها، ولم يفلت من بأسهم حتى خليفة المسلمين، فهل كان هذا من فراغ؟ لقد «طال عهد العباسيين (132 – 656هـ) فوصل إلى ما يقرب من خمسة قرون وربع وضعفت دولتهم في آخرها، إذ زاد ظهور العصبية فقامت دول على أساسها، ولم يكن داع لقيامها لولا العصبية التي حملتها واللغة التي أحيتها من جديد. فظهرت الدولة السامانية والغزنوية والخوارزمية، ولا شك أن الطموح السياسي كان أساساً في نشأتها، ثم نما باسم العصبية التي لم تعدم متعصبين لها، كما انفصلت أجزاء عن الدولة رسمياً، وأعلنت عن قيام خلافة مستقلة فيها، فكانت الخلافة الأموية في الأندلس والفاطمية في مصر وأجزاء من أفريقيا، ولم تكن هذه الدول على تفاهم فيما بينها، بل على العكس كانت معادية بعضها لبعض، وكل منها على صلة بأعداء الأخرى، فالعباسيون في بغداد يصادقون حكام الفرنجة خصوم أمويِّي الأندلس. هذا مع العلم أنه لا ينبغي في درا الإسلام سوى خليفة واحد، وهذا يدل على ضعف الروح الإسلامية لدى المسلمين في ذلك العهد بالنسبة إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل في الصدر الأول». والإسلام ليس مسؤولاً عن الممارسات التي أوصلت إلى هذه الحال، ولكن ولاة الأمر وقتها لا يعفون من المسؤولية على أية حال.

وفي العصور المتأخرة، وبعد ما دب الفساد في أوصال أجهزة الحكم العثمانية، وبالتالي في القواعد العريضة -للجماهير التابعة لها- تراجع العثمانيون وهزموا في معارك عديدة أمام النصارى الأعداء، وتقهقر المماليك سريعاً أمام (نابليون) فكان ذلك مؤشراً مفزعاً على الحال التي وصلت إليها الأمة وما بلغته من هوان على الله، حتى ولت الأدبار أمام زحف الكفار.

إن من سنن الله تعالى المستخرجة من حقائق الدين والتاريخ أنه إذا عُصِيَ الله تعالى ممن يعرفونه، سلَّطَ عليهم من لا يعرفونه.

وفي العقود الحديثة التهمت أوروبا النصرانية القطعة إثر القطعة من بلاد المسلمين، حتى كادت تستولي على الحرمين الشريفين بعد الحرب العالمية الثانية التي قسمت بلاد المسلمين بمقتضى معاهدة (سايكس بيكو) بين الكاثوليك والبروتستانت، كان ذلك في وقت ضاق العرب ذرعاً بالخلافة الإسلامية في تركيا، وضاقت تلك الخلافة ذرعاً بهم بسبب اتباع ما استحدث من ابتداع في الشريعة والعقيدة بالاجتماع على القوميات والوطنيات المنافية للإسلام، المقوضة لرابطة الإخاء الإيماني. وانتهى الأمر بإسقاط دولة الخلافة الإسلامية العثمانية على يد يهود الدونمة بالتعاون مع النصارى ومظاهرة من منافقي العرب. ومن يومها والمصائب تتوالى على المسلمين الذين استسلموا لأنظمة حاكمة بغير ما أنزل الله. ولم يعد الأمر، أمر دروس أو عبر، بل صار أقرب إلى الانتقام الإلهي منه إلى التذكير. لأن الشقة قد بعدت بين المسلمين وبين حكم الإسلام، حتى لم يعد الظالمون يكتفون بإقصاء الشريعة وإبعادها عن الحكم، بل صار ديدنهم محاربتها وإدانة من يطالب بها.

ولهذا سُلطت كل الأعداء، وأطلقت كل الأيادي، لتنال من أطراف ديار المسلمين، وصدق في الأمة قول المعصوم (صلى الله عليه وآله وسلم): «يوشك أن تدَّاعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينـزعنّ الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» (أحمد وأبو داود).  وعظمت المصيبة بتسليط الأمة الذليلة على الأمة التي كانت عزيزة بالإسلام، فذاق المسلمون على يد اليهود ألواناً من المهانة والذل في ميادين القتال وساحات المعارك.

ولا يمكن أن يكون عصر الهزائم هذا إلا أثراً من آثار الانحراف عن الشريعة الذي غرقت فيه الأمة إلى القاع، وتغلغل فيها حتى النخاع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *