العدد 436 -

السنة السابعة والثلاثون – جمادى الأولى 1444هـ – كانون الأول 2022م

قواعد الانحراف عند العلمانيين الدينيين

(عقوبة الردة مثالًا)

أيمن صلاح – الأرض المباركة فلسطين

كان الصراع الفكري في القرن العشرين يتم بين الإسلام والمبادئ الأخرى، أي بين الإسلام والكفر، وهو صراع انتهى إلى ظهور بطلان وفساد الاشتراكية والرأسمالية، وظهور صحة الإسلام عقيدةً ونظامًا، فسقطت العلمانية بسقوط المبدأ الرأسمالي الذي يقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة، وارتسمت صورةٌ قبيحةٌ للعلمانية والعلمانيين في أذهان عوام المسلمين. فقد كان العلمانيون على الأغلب غيرَ متدينين، أي لا يلتزمون بمظاهر التدين الفردية كالعبادات، فالفكر العلماني نشأ منابذًا للخيار الإسلامي، والعلمانيون يظهرون رفضَهم الخضوعَ للنصوص الشرعية في الحياة ويستهزئون أحيانًا بأحكام الإسلام. ولذلك لم يحدث نقاشٌ فكريٌ يذكر بين المسلمين في قبول العلمانية أو رفضها، ولم يكن الصراعُ الفكري مع العلمانيين حول التطبيقات العلمانية في التشريع والحياة العامة، وإنما كان الصراع بين الإسلام بوصفه مبدأ وبين الرأسمالية بوصفه مبدأ والعلمانية جزء منه. أما المسلمون فكان عندهم رأيٌ واحدٌ وهو رفضُ العلمانية ووجوبُ تطبيق الإسلام في كل شؤون الحياة. ولما أدرك العلمانيون خسارةَ معركتهم مع الإسلام عندما يجاهرون بالدعوة إلى العلمانية ونبذ هذه الأحكام الشرعية لجؤوا في العقود الأخيرة إلى تسويق العلمانية عن طريق الدين ومسايرة النصوص الشرعية، وصاروا يقدمون أنفسَهم مجتهدين في فهم النص الشرعي ومستمسكين بتفسيرٍ من تفسيراته ومعتمدين على أقوال المذاهب وفتاوى العلماء، فيقومون بتفسير الأحكام الشرعية التي تنظمُ الشأنَ العام في المجتمع وتحكمُ النظامَ السياسي بأنها اجتهادات بشرية وليست اجتهادات شرعية، أي جزءًا من الشريعة. فبدلًا من التعبير عن رفض الشريعة بشكل مباشر وصريح يتم الالتفافُ عليها بمثل هذه الطريقة.

إن هدف العلمانية هو منع تأثير الأحكام الشرعية في حياة المسلمين، أي منع تطبيق الإسلام في نظم الحكم والاقتصاد والتعليم وفي العلاقات التجارية في المجتمع والعقوبات وفي العلاقات بين المسلمين وأهل الذمة في البلاد، حتى يصبحَ الدينُ علاقةً فرديةً بين العبد وخالقه ولا يكونَ له شأنٌ بالنظام العام ولا علاقةَ له بالنظام السياسي. وبعد رفض الأحكام الشرعية بحسب قواعد الانحراف والضلال التي يعتمدُها العلمانيون يأتون لملء الفراغ بتشريعات من الأنظمة الغربية، فيسعَون إلى تحقيق هذه الأهداف بدون الإعلان عن الدعوة إلى ترك هذه الأحكام أو فصل الدين عن الحياة. فأصبحنا نجدُ مسلمين تظهرُ عليهم مظاهرُ التدين يدعون إلى تطبيقات علمانية على اعتبار أنها هي الإسلام! وذلك بوضعِ واختراعِ قواعدَ وأصولٍ للدين تحققُ أهدافَ العلمانية وتؤدي إلى جعل الدين كهنوتًا مفصولًا عن الحياة، وتُبعدُ أحكامَ الشريعة عن الحياة وتجعلُ مفاهيمَ العلمانية داخلةً في مفهوم النص الشرعي، وأصبحت هذه الانحرافاتُ الفكريةُ تُقَدَّمُ في قوالبَ شرعية، ليسهلَ تلبيسُها على الناس لظنِّهم أنها موافقةٌ للدين ولما يريدُه الله ورسوله.

ومع تنوعِ قواعدِ الدين عند العلمانيين وكثرتِها نجدُ أنها تستهدفُ عددًا من الأهداف في صميم الإسلام، أهمها:

العبثُ بمصادرِ التلقي الشرعية (القرآن والسنة) وبمناهجِ الاستدلال.

رفضُ أو إنكارُ بعضِ الأصول والأحكام الشرعية الـمُحكَمة.

قبولُ مفاهيمَ معاصرةٍ تتصادمُ مع قطعياتِ الشريعة، وتحاولُ اختراعَ مستنداتٍ شرعية لها.

التهوينُ من الالتزام بأحكام الشريعة، وهزُّ الثقةِ بكمالها وقدرتها على معالجة مشاكل الحياة.

وسنعرض نموذجًا من الأحكام الشرعية التي كَثُرَ البحثُ فيه في مقالات العلمانيين، وتأثَّرَ بأبحاثهم كثيرٌ من الباحثين المسلمين، والغرضُ من عرض هذا النموذج هو بيانُ طرائقِ العلمانيين في رفض أحكامِ نظام الإسلام والتأصيلُ للانحرافات الفكرية. وهذا الحكمُ الشرعي هو عقوبةُ المرتد في الإسلام. فقد اتفقت كلمةُ كثيرٍ من المعاصرين على ضرورةِ التخلصِ من هذا الحكم، تحقيقًا للحرية الليبرالية؛ ولكن اللافتَ للانتباه أن التخلصَ من هذا الحكم الشرعي لم يَسِرْ على طريقةٍ واحدة؛ فقد تعدَّدت مداخلُهم في رفض هذا الحكم الشرعي بحيث شملت معظمَ أصول وقواعدِ الانحراف الفكري. وباستعراض أقوالهم في عقوبة المرتد نستخلص أصولَ الانحراف الفكري وقواعدَ العلمانية المتدينة.

وقبل أن نستعرضَ أقوالَ الرافضين لعقوبة المرتد، لا بدَّ من أن نُذَكِّرَ أنه لم يكن لهذا الحكم حضورٌ في مسائل الخلاف في المذاهب الفقهية السالفة؛ فمع أن الفقهاء يختلفون في كثير من المسائل، ويتنازعون حتى في المسائل التي وردت نصوص صريحة فيها إلا أن إقامةَ العقوبةِ على المرتد، سواء اعتبرت حدًّا أم تعزيرًا لم يكن ضمن مجال الخلاف بينهم؛ فقد أجمع عليه الفقهاء كافة، وحكى الإجماعَ عليه عشراتٌ من الفقهاء من مختلف الأزمان، منهم على سبيل المثال؛ النوويُ في شرح صحيح مسلم، وابنُ قدامة في المغني، وابنُ القطان في الإقناع في مسائل الإجماع، وابنُ المنذر في الإجماع، والبغويُّ في شرح السنة، والسُبكيُّ في السيف المسلول. ورغم ذلك تجد هذا الحكم حاضرًا ومُشْكَلًا في الدراسات المعاصرة، وهو ما يدلِّل على أن العامل المؤثر في هذه الدراسات ليس هو النظر في الاجتهاد الفقهي بقدر ما هو تأثرٌ بروح الثقافة الغربية. ومِن تتبُّعِ أقوالهم يمكن أن نستخلصَ أصولَ الانحراف الفكري، أو أصولَ الدين عند العلمانيين، وهذه الأصولُ هي كما يلي:

 

قاعدةُ الاكتفاء بالعمل بما ورد في القرآن: فبعضهم ينكرُ هذا الحكمَ لعدم ذكره في القرآن الكريم، فينظرُ في الآيات القرآنية التي تخاطبُ الكفارَ وتحكي مقولاتِهم فلا يجدُ فيها أيَّ عقوبةٍ لهم في الدنيا، ويَخْلُصُ إلى أن الشريعةَ لا ترتبُ أيَّ عقابٍ دنيويٍ على من يمارسُ حريتَه الدينية في الدنيا. وهذا التفسيرُ يستبطنُ الانحرافَ القائمَ على إنكارِ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورفضِ الإيمان بها؛ لأن عقوبةَ الردةِ لم تثبت إلا في السنة. ورغم أن هذا الانحرافَ قد حذَّر منه النبيُ صلى الله عليه وسلم إلا أن العلمانيين قالوا: «في القرآن كفاية» وجعلوا قولَهم هذا قاعدةً لردِّ كثيرٍ من أحكام نظام الإسلام. وهي دعوى مخادعة؛ وإلا فلو آمنوا بالقرآن حقًّا لآمنوا بسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاءت بذلك نصوصُ القرآن، بل واقعُ الحال أنهم لا يؤمنون بقطعيات القرآن في القضايا التي تُنافي الثقافةَ العلمانيةَ المعاصرة؛ فحقيقة الأمر أنه استثقالٌ للتشريع ومحاولةٌ للتخفف من جزء كبير منه.

الأخذُ بالسنَّة القطعية ورفضُ السنةِ الظنية، أي رفضُ العملِ بحديث الآحاد: والمعروفُ أن معظمَ أحكام الشريعة وردت في أحاديث الآحاد. فبعضُهم يثبت السنةَ النبويةَ لكنه يحكم برفض الأحاديث الواردة في قتل المرتد مثل حديث «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رواه البخاري عن ابن عباس؛ لأنها من قبيل أحاديث الآحاد ولا يستقيم العملُ بها لأنها ظنية. وهذا الانحرافُ يعني إنكارَ جزءٍ كبير من السُّنة، ورغم أن مسألةَ العمل بحديث الآحاد مبحوثةٌ في الأصول منذ القرن الأول؛ إلا أن العلمانيين اليوم يبحثون عن أي ثغرة يمكن أن ينفذوا من خلالها لرفض ما أمكن من أحكام الإسلام.

تقسيمُ السنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية، وسوءُ التطبيق لهذا التقسيم: يجعلون موضوعات التشريع على درجةٍ من الأهمية أعلى من أمورِ العبادة والأخلاق وتحتاجُ إلى تحرزٍ أكثر، والإشكال الأبرزُ هنا هو المعيار الذي يميِّز التشريعي في السَّنة من غير التشريعي. وهو معيار مضطرِب وغير محدَّد؛ لكنه بالنتيجة يُخرِجُ عقوبةَ الرِدَّة وكثيرًا من الأحكام الشرعية من السنَّة التشريعية، فقد اتَّكأ كثيرٌ من العلمانيين على التفريق بين الأفعال الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبيَّ كان يمارسُ في حياته أدوارًا متعددة، فلم تكن كلُّ أفعالِه وتصرُّفاتِه تنطلقُ باعتبار كونِه نبيًّا، بل قد يتصرَّفُ بمقتضى بشريتِه أو بمقتضى أدوارٍ حياتيةٍ معينةٍ ككونه قائدًا سياسيًا أو قاضيًا أو أبًا أو زوجًا وهكذا… وقال المتمسكون بهذه المقولة إن ما كان يصدرُ من النبي بمقتضى النبوةِ هو وحيٌ يجبُ الأخذُ به بخلاف غيره من الأدوار الحياتية فهي ليست كذلك، فهي وإن كانت تدخلُ في مفهومِ السنَّة باعتبار صدورِها عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنها ليست تشريعيةً بالضرورة باعتبارِ عدمِ صدورِها عن مقامِ النبوة. والمدققُ في هذه المقولة وتأصيلِها يرى أن المشكلةَ ليست في صحةِ أن بعضَ السنةِ لم تأتِ للتشريع، فقد ورد في السنن بعضُ الأفعال الجِبِلِّيَّة وبعضُ ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم بحكمِ العادة دون أن يظهرَ فيها وجهٌ للتقرب إلى الله عز وجل، ولكن المشكلةَ تكمنُ في الاتِّكاءِ على هذه الفكرة لإخراج جملةٍ من السنَّة التشريعية وإدخالِها في إطارِ السنَّة غير التشريعية، حتى وصل الأمرُ لإخراج تصرفاتِ النبي صلى الله عليه وسلم السياسيةِ والقضائيةِ، واعتبارِ هذه الأعمال تجاربَ بشريةً وليست أعمالًا تشريعية.

الأخذُ بمواضع الإجماع والاتفاقِ الفقهي وعدمُ العملِ بمسائل الخلاف: فجعلوا قولَهم «المسألة فيها خلاف» قاعدةً لرد كثير من الأحكام التي لا تنسجم مع علمانيتهم. وفي مسألة عقوبةِ المرتد واجه العلمانيون إشكالين اثنين: الأول أن وجودَ الخلافِ الفقهي لا يلغي العملَ أصلًا، فليس من شرطِ العمل بالأحكام الشرعية أن يتمَ الاتفاقُ عليها. فوجودُ الخلافِ الفقهي لم يمنع الدولةَ الإسلاميةَ من تطبيق الإسلام على مدار ثلاثة عشر قرنًا. بل لقد استنبط الفقهاء قواعدَ شرعيةً لكيفية عمل الدولة في مسائل الخلاف. وهذه القواعد هي «رأيُ الإمام يرفع الخلاف» و«أمرُ الإمام نافذٌ ظاهرًا وباطنًا» و«للسلطان أن يحدثَ من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات». والإشكال الثاني هو تحديدُ مسائلِ الخلاف المعتبر، فليس كلُّ خلافٍ معتبر. فرغم عدم وجودِ خلافٍ معتبرٍ في مسألة عقوبةِ المرتد إلا أن أنصارَ العلمانية ينسبون الخلافَ لبعض الفقهاء، فنسب بعضُهم إلى الفقيهين الكبيرين إبراهيم النخعي وسفيان الثوري رحمهما الله أنهما ينكران حدَّ الردة. والحقيقةُ أن خلافَ هذين الإمامين إنما هو في وجوبِ استتابة المرتد قبل قتله وليس في حكمِ قتله. ومن المسائل التي يزعمون وجودَ الخلاف فيها وجوبُ إقامة الخلافة وتنصيبِ الخليفة رغم ثبوتهِا في السنة ووجودِ الإجماع فيها؛ ولذلك عندما خالفَ الأصمُّ في وجوب إقامة الخلافة لم يعتبر الفقهاءُ قولَه المخالف معتبرًا، فقال القرطبي بعد أن بَيَّنَ الإجماعَ على وجوب نصب خليفةٍ: «ولا خلافَ في وجوب ذلك بين الأُمة ولا بين الأئمَّة إلا ما روي عن الأصَمِّ حيث كان عن الشريعة أصمَّ».

عدمُ الأخذِ ببعض الأحكام الشرعية على اعتبار أنها كانت نظامَ الدولة وليس حكمًا شرعيًّا: فقالوا إن عقوبةَ المرتدِّ ليست لردَّته بل لخروجِه على الدولة، وهو ما يطلقُ عليه في النظم الحديثة الخيانة العظمى. أما من لا يخرج عن طاعة الدولة فلا يعاقب لتغيير دينه. وهذا التفسير يتلاءم مع الفكر السياسي المعاصر لكنه بعيدٌ عن مفهوم النصِ الشرعي وكلامِ الفقهاء، وهو من قبيل تطويعِ الشريعة لتستقيم مع الثقافة المعاصرة.

 العملُ بالمصلحة في كافة صورها لتعطيل العمل بالنص: وموضعُ الانحراف هنا ليس في ترك العمل بالحكم الشرعي في حال وجود مانعٍ شرعيٍ لتطبيقه (وهو ما يسميه البعضُ مصلحةً معتبرةً شرعًا من ضرورة أو حاجة ماسة)، مثل عدمِ قطعِ يد السارق في عام الرمادة، فهذا حكمٌ شرعيٌ آخر وإن حصل اختلافٌ في تطبيقاته. وإنما الانحرافُ يكونُ في تعطيلِ الحكمِ الشرعي بكليَّته بدعوى المصلحة، وأن تكونَ المصلحةُ حاضرةً عند النظرِ في النصِ الشرعي لاستنباط الحكم الشرعي ابتداء؛ فبدلًا من تقرير ثبوت هذا الحكم مع عدم إمكانيةِ تطبيقه أو وجودِ ضرر أو مانع عند العمل به، نجد صاحبَ المصلحة ينفي هذا الحكمَ من أساسه بدعوى المصلحة، وهنا الخلل؛ لأن المصلحةَ المرسلةَ التي يعتبرُها بعضُ الفقهاء دليلًا ويعتبرُها بعضُهم شبهةَ دليلٍ لا تكونُ إلا بغيابِ نصٍ في المسألة، بحسب رأيهم، وقد سمَّوها بالمصلحة المرسلة لأنها مرسلةٌ بغير دليل، أما استحضارُ المصلحة عند النظر في الدليل والنص الشرعي فإنه يؤدي إلى تعطُّل النص وتنزع وصف الشرعية عن الحكم. علمًا أن المصالحَ التي يسوقونها لإبطال عقوبة الردة ومعظمِ العقوبات هي مصالحُ عقليةٌ موهومة، ومن الأمثلة على المصالحِ المزعومةِ قولُهم بضرورة تقديم صورة حسنة للكفار وللغربيين بشكل خاص عن الإسلام، وأن الحديثَ عن حدِّ المرتدِّ في زمانِ شيوعِ ثقافةِ الحريات الدينية وحقوق الإنسان وقيامِ النظمِ السياسية الغربية على حمايتها يقدم صورةً مشوَّهةً عن الإسلام… إلخ. ومن المصالح المزعومة أن تقريرَ أحكامِ هذه العقوبات سيكون سببًا لاستغلال بعضِ النظم السياسية له في سبيل القضاء على مخالفيهم وتسويغ جرائمهم؛ فحين يأتي بعض الحكام فيسيء تطبيق حكم شرعي ما، فالحل في هذا النظر العقلي الفاسدِ أن يُلغى الحكم الشرعي كله.

اعتبارُ الحرياتِ أصلًا شرعيًّا محكَمًا يردُّ كلَّ ما يخالفُه: وتكملةً لما ورد في النقطة السابقة يعتبر العلمانيون أن الحريةَ الفرديةَ وحمايتَها أحدَ المقاصد الشرعية وأصلًا شرعيًّا محكَمًا يَرُدُّ كلَّ ما يخالفُه من الأحكام الجزئية؛ حيث زعم بعضهم أن في القرآن بضعًا وعشرين آيةً تدعو إلى الحريات، وجعلوا حمايةَ الحرية الفردية أصلًا شرعيًا، وقالوا إن عقوبةَ الردةِ تُرَدُّ لمعارضتها الأصلَ الشرعيَ القطعي ومخالفتِها لروح الشريعة ومقاصدها، ووضع بعضهم قاعدةً لذلك تقول «الإسلام يدعو إلى الحرية» ليخلص إلى القول بعدم جواز إلزام الناس بشيء من أحكام الإسلام وتركِ الأمر لهم وحريتَهم في فعل ما يشاؤون طالما لا يعتدون على غيرهم، فعندهم يعتبرُ الدينُ علاقةً بين الفرد وربه تظهرُ في العباداتِ والأخلاق وعدمِ الوقوع في المحرمات كشرب الخمر والفواحش، وأن الفردَ يلتزم بذلك بدافع تقوى الله لمن أراد، ولا يجوزُ للدولة أن تُلزمَ الناسَ بالفرائض كالجلباب للمرأة، ولا يجوزُ أن تمنعَهم عن المنكرات باليد كالربا. وهو دعوة صريحة للحرية الليبرالية التي تقول «تنتهي حريتُك عندما تبدأ حرية غيرك». ولمزيدٍ من التنفير من تطبيق أحكام الإسلام في الحياة العامة ومنع الناس من مخالفتها يقولون إن إلزام الناس بهذه الأحكام يُنتجُ النفاقَ؛ حيث يقولون إن الناسَ سيلتزمون بمظاهر الإسلام نفاقًا وليس عن قناعة.

التمسكُ بروح الشريعة ومقاصدها: عامةُ الانحرافِ المعاصر حين يتجاوز النصوصَ والأحكامَ الشرعية الجزئية أو ينكرها يكون برفع لافتة مقاصدِ الشريعة. والمقاصدُ الشرعيةُ التي كتب فيها فقهاءُ الإسلام بدءًا من الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي، تختلفُ اختلافًا تامًّا عن هذه المقاصد التي يُشيع كثيرٌ من الناس الحديثَ عنها؛ فالمقاصدُ عند فقهاء الإسلام قواعدُ كليةٌ مستخرجةٌ من استقراءٍ كُلّيٍ لكافة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصح أن يُرَدَّ بها أيُّ حكم أو نص جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترجم المقاصد التي تريدُها نفوسُهم وتميلُ إليها اختياراتهُم ويسعون من خلالها لردِّ جملةٍ من النصوص والأحكام غير المرغوب فيها. فإذا ثبت نصٌ شرعي أو حكمٌ فقهيٌ فلا يجوزُ أن يُنقضَ أو يُتجاوزَ بدعوى أنه مخالفٌ لقاعدةٍ مقاصدية، فهذا باطلٌ لا علاقةَ له بعلمِ المقاصد. والعلمانيون يرفضون معظمَ الأحكام الجزئية التي تتعلق بالشأن العام بقولهم: «نحن بحاجةٍ إلى إعادةِ النظرِ في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعية»، وقولهم: «لا بد من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدثُ عن هذه القضية»، ويقولون كذلك: «نأخذُ بالكليات دون الجزئيات، وبالأصول دون الفروع، أو بالمبادئ دون التشريعات، وبالمقاصد دون الوسائل». وكلها صيغٌ مختلفةٌ لإشكاليةٍ واحدةٍ، إشكاليةِ إبعادِ بعض الأحكام الشرعية عن التأثير. وحين تبتعدُ الفروعُ والجزئياتُ، فإن الكلياتِ والمقاصد التي يؤتى بها تكون مقاصدَ وكلياتٍ أخرى ليست هي الكليات والمقاصد الشرعية، فالمقصدُ الشرعيُّ والكليُّ الشرعي معتمدٌ ومُفَسَّرٌ بجزئياته وفروعه الشرعية؛ ولذلك يرفضون عقوبةَ المرتَد لأنها منافيةٌ لمقصد الشريعة في التسامح والحرية. ويرفضون الحدودَ الشرعية بدعوى أنها منافيةٌ لمقصدِ الشريعة في الرحمة وإشاعة الأمن.

تلك ثمانٍ من أبرز قواعدِ الانحراف الفكري التي تكثرُ في البحوث المعاصرة للتخلص من هذا الحكم الشرعي، وقد اجتمعت من منابتَ شتى، حضر فيها منكرُ السنة، ومُضَيِّقُ العمل بها، ومُقَطِّعُ أوصالِها، ومن يعطلُ الأحكامَ الشرعية بدعوى الخلافِ أو المصلحة، ومن يعارضُ الأحكامَ الشرعيةَ بأصولٍ فكريةٍ ليبرالية. وهذه الأصولُ الضالَّةُ هي نفسُها تُستخدمُ للتخلص من كافة العقوبات في الإسلام. وهناك قواعدُ أخرى للانحرافات الفكرية المعاصرة، يستحضرُها دعاةُ العلمانية للتخلصِ من الأحكام الشرعية التي تنظمُ حياةَ المسلمين في مجتمعٍ بطراز إسلامي رفيع، ومن هذه القواعد باختصار: قواعدُ العدل وهي: «بالمساواة يتحقق العدل» و»أينما كان العدل فثم شرع الله» وقاعدة نسبية الحقيقة «لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة»، وقاعدةُ حريةِ النظر في النصوص الشرعية وتتمثل بقولهم «النصُ مقدسٌ والفهم غير مقدس» أو «فهمُك للنص ليس هو النص»!

وبعد، فيجب أن يكونَ المسلمُ واعيًا على العلمانية وأساليبِها وقواعدِ الانحراف التي تعتمدُها حتى لا تتسلل مفاهيمُها عبرَ أوعيةٍ جديدة، فوعيُ المسلم بجوهرِ العلمانية يقوي في نفسه ضمانةَ الكشف عنها مهما تغير لبوسُها. وحين يقومُ المسلم ويدعو إلى تطبيق أحكام الإسلام في الحياة كما جاءت في النصوص الشرعية وبما نقله كافةُ الفقهاء، فإنه يسجلُ شهادةَ خيرٍ لنفسه بسلامتِه وبُعدِه عن مثل هذه الانحرافات التي كثرَ الافتتانُ بها. والحمد لله رب العالمين.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *