العدد 433 -

السنة السابعة والثلاثون، صفر 1444هـ ، أيلول 2022م

الرضا بما قسم الله

– أخرج الترمذي عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ». قال معروف الكرخي: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل، فإن ذلك الذي يقربك إلى رضا مولاك، فقلت: وما ذلك العمل قال: دوام الطاعة لمولاك، وحرمة المسلمين، والنصيحة لهم [وفيات الأعيان 5/232]. فقلة الرضا سبب لتعاسة الإنسان في هذه الحياة، وسبب لهجوم الهموم والغموم عليه. سئل الحسن البصري: من أين أتِى هذا الخلق؟ قال: «من قِلَّة الرضا عن الله»، قيل له: ومن أين أتى قلّة الرضا عن الله؟ قال: «من قلّة المعرفة بالله».

– وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ يأخُذُ عَنِّي هؤُلاءِ الكلِماتِ فيعملُ بِهِنَّ – أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يعمَلُ بِهِنَّ – ؟. فقالَ أبو هريرةَ: قلتُ: أنا يا رسولُ اللهِ، فأخَذَ بيدِي، فعدَّ خمْسًا وقال: اتقِ المحارِمَ تكنْ أعْبَدَ الناسِ، وارضَ بما قَسَمَ اللهُ لكَ تكُنْ أغْنَى الناسِ، وأحسِنْ إلى جارِكَ تكُنْ مؤمنًا، وأحِبَّ للناسِ ما تُحِبُّ لنفسِكَ تَكُنْ مسلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فإِنَّ كثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ» هذه وصية جامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الخير الجامع، ومنه قوله: «وارْضَ بما قَسَمَ اللهُ لك»، أي: بما أعْطاكَ اللهُ من رِزْقٍ، ولا تَأْسَفْ على ما فاتَكَ، من الدُّنيا، فالكَوْنُ يَسيرُ بِحِكْمَتِهِ سُبحانَه، «تكُنْ من أَغْنى الناسِ»، أي: يَمْلَأُ اللهُ قَلْبَك، ويَدَيْكَ غِنًى؛ لأنَّ مَنْ رَضِيَ بما قُسِمَ له، ولم يَطمَعْ فيما في أيْدي الناسِ اسْتَغْنى عنهم، والغِنَى غِنَى النَّفْسِ.

عن عبد الرحمن بن إبراهيم الفهري: عن أبيه قال: أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه: إذا أوتيت رزقًا مني فلا تنظر إلى قلَّته؛ ولكن انظر إلى من أهداه إليك، وإذا نزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي، كما لا أشكوك إلى ملائكتي حين صعود مساوئك وفضائحك إليَّ. (المنتخب من كتاب الزهد والرقائق ، للخطيب البغدادي 1/108.). وقال غيلان بن جرير: من أعطي الرضا والتوكل والتفويض فقد كُفي. وقال ابن سعدان:

تقنَّع بما يكفيك والتمس الرِّضا     فإنَّك لا تدري أتصبح أم تمسي

فليس الغنى عن كثرة المال إنَّما         يكون الغنى والفقر من قبل الَّنفس

فالمؤمن إذا أُعطي رضي، وإن لم يعط لم يسخط ولم يقنط، بل إذا ابتُلي وجد في البلاء منفعة فحوَّل البلايا إلى مزايا والمحن إلى منح، فهو يعرف أن البلاء يجعل القلب قويًا؛ لأن القلب إنما يستمدُّ مادة حياته من البلاء. والعبد يوم القيامة يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، قال إبراهيم عليه السلام: (وَلَا تُخۡزِنِي يَوۡمَ
يُبۡعَثُونَ ٨٧ يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ ٨٩) [الشعراء: 87-89]. وقال الشاعر:

إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا              عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب

  وكم نعمة مقرونة ببليّة                         على الناس تخفى والبلايا مواهب

قدم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة. قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم. فقلت له: يا عمّ، أنت تدعو للناس، فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسَّم وقال: يا بُني، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري. [مدارج السالكين: 2/ 227].
قال السفاريني في: (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 2/421): قالَ الْعُمَرِيُّ رَأَيْت الْبُهْلُولَ وَقَدْ دَلَّى رِجْلَهُ فِي قَبْرٍ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ، قُلْتُ: أَنْتَ هَا هُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، عِنْدَ قَوْمٍ لا يُؤْذُونِي، وَإِنْ غِبْتُ لا يَغْتَابُونِي. قُلْت لَهُ إنَّ السِّعْرَ قَدْ غَلا، قَالَ لَوْ بَلَغَتْ كُلُّ حَبَّةٍ بِمِثْقَالٍ لا أُبَالِي، نَعْبُدُهُ كَمَا أَمَرَنَا، وَيَرْزُقُنَا كَمَا وَعَدَنَا.
ثُمَّ أَنْشَدَ يَقُولُ رحمه الله تعالى:

أَفْنَيْت عُمُرَك فِيمَا لَسْت تُدْرِكُهُ         وَلا تَنَامُ عَنْ اللَّذَّاتِ عَيْنَاهُ

يَا مَنْ تَمَتَّعَ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا                يَقُولُ لِلَّهِ مَاذَا حِينَ يَلْقَاهُ

شَكَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ أَرْبَابَ الْبَصَائِرِ وَأَظْهَرَ شِدَّةَ اغْتِمَامِهِ بِهِ فَقَالَ لَهُ: أَيَسُرُّك أَنَّك أَعْمَى وَلَك عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَنَّك أَخْرَسُ وَلَك عَشَرَةُ آلَافٍ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أَيَسُرُّك وَأَنْتَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلَك عِشْرُونَ أَلْفًا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَنَّك مَجْنُونٌ وَلَك عَشَرَةُ آلَافٍ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أَمَّا تَسْتَحْيِي أَنْ تَشْكُوَ مَوْلَاك وَلَهُ عِنْدَك عُرُوضٌ بِخَمْسِينَ أَلْفًا. [إحياء علوم الدين: 4/124].

وهذا ابن الراوند الضالّ، جلس على جسر بغداد، فمرَّت خيل، فقال: لمن؟ قالوا: لعلي بن بلتق. ثم مرَّت جواري، فقال: لمن؟ قالوا: لعلي بن بلتق. ثم مرَّ به غلام أشفق عليه فأعطاه رغيفًا، فقال الضالُّ: لعلي بن بلتق خيل وجوارٍ وأنا أتسوَّل رغيفًا، فرماه وظلَّ يومه جائعًا، اجتمعت فيه خصال الحسد والغلِّ وعدم الرضا بما قسمه الله فختم الله على قلبه، فبعد أن كان من أهل السنة انتقل إلى المعتزلة، ثم صار رافضيًّا، ثم صار ملحدًا، ومات على ذلك.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل». وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: «أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر».

نعمة الرضا من أجلِّ النعم وأوفاها وأعلاها، والرضا هو رضا العبد عن الله: بأن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد أن يراه مؤتمرًا بأمره منتهيًا عن نهيه. والمسلم الحق هو من يسلم أموره كلها ويجعلها خالصة لله رب العالمين، حتى ترضى نفسه ويطمئن قلبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *