العدد 433 -

السنة السابعة والثلاثون، صفر 1444هـ ، أيلول 2022م

خطر الاستعمار الاقتصادي على بلاد المسلمين

مازن الدباغ – ولاية العراق

لقد كان للغزو الفكري على الدولة الإسلامية المتمثلة بالخلافة العثمانية الأثر الكبير على ضعفها، ومن ثم هدمها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وإعلان إلغاء الخلافة على يد المجرم مصطفى كمال عام 1924م، وتمزيقها إلى دويلات ترزح تحت حكم الاستعمار، وكان هذا الاحتلال العسكري واضحًا لا يحتاج إلى فكر عميق لإثباته ما دفع شعوب البلاد الإسلامية إلى الثورات لطرد هذا الاحتلال، وقد قدَّمت الأمة الإسلامية الكثير من التضحيات في سبيل ذلك كثورة الجزائر التي قدمت مليون شهيد وثورة عمر المختار في ليبيا التي دامت عشرين عامًا.

وقد أدرك المحتل صعوبة بقائه في هذه البلاد، فقرَّر الخروج منها وأعطاها الاستقلال؛ ولكنه كان استقلالًا مزيَّفًا، فهو لم يخرج إلا بعد تسليمها للعملاء المخلصين له من أبناء هذه الأمة، الذين حافظوا على مصالحه داخل بلاد المسلمين، وهكذا خرج المحتل من الباب ليدخل من الشباك فذهبت تلك التضحيات الجسيمة أدراج الرياح.

إن الاستعمار له وجه واضح هو فرض السيطرة العسكرية ويمكن للجميع معرفتها، ولكنه يوجد بوجوه أخرى سياسية واقتصادية وثقافية قد تخفى على الكثير من أبناء الأمة.

وفي هذا المقال سوف نتناول الاستعمار الاقتصادي وهو فرض السيطرة الاقتصادية على البلدان، وهذا الاستعمار خفي على الكثير من أبناء الأمة، وخطير لأنه يعشش في أذهان المثقفين الذين لا يفرقون بين النظام الاقتصادي الخاص بكل مبدأ وبين علم الاقتصاد العام للجميع.

فالنظرة إلى الثروات وعلاقة الكتلة السكانية بها هي التي تشكلت على أساسها الرأسمالية والشيوعية وقد سُمِّيا بالرأسمالية والشيوعية بناء على هذه النظرة.

والاستعمار الاقتصادي عبارة عن سيطرة الدولة القوية على الدول الضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال مواردها وخيراتها؛ لذلك نجد أن أمريكا تحاول بسط نفوذها الاقتصادي على العالم عامة وعلى بلاد المسلمين خاصة من خلال أذرعها الاقتصادية التالية:

أولًا: هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي:

بدأت هذه الهيمنة عندما عقدت اتفاقية بريتون وودز سنة 1944م، وقد حضر هذه الاتفاقية 44 دولة، وكان من أهم نتائجها اعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى، وبذلك تكون هذه الاتفاقية قد رسَّخت هيمنة الدولار الأمريكي على تعاملات العالم الاقتصادية. ولأن أمريكا كانت تمتلك حصة كبيرة من الذهب بعد الحرب العالمية الثانية مقارنة بالدول الأوروبية التي أنهكتها الحرب، صار عدد كبير من هذه الدول يستخدم عملة الدولار كاحتياطي من النقد الأجنبي، إلى أن جاءت سنة 1973م حيث قام الرئيس الأمريكي نيكسون بإلغاء التزام بلاده بتحويل الدولار الأمريكي إلى ذهب، وعرف هذا البيان لاحقًا بصدمة نيكسون، والمشكلة أن هذه الدول ظلت مجبرة على التعامل بالدولار لأنها لا تستطيع التخلي عنه بعد أن كدَّسته، كما أنها فاقدة للرؤية السياسية بإيجاد البديل.

 فالخلاص من هذه الهيمنة لا يمكن إلا بعودة النظام المعدني (نظام الذهب) إلى واقع الحياة الاقتصادية والتعاملات الدولية؛ حيث تقوم به دولة مبدئية ثم تسوق دول العالم للتعامل به، وهذا يتم بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تتبنى نظام النقد المعدني بدل الأوراق النقدية الإلزامية كجزء من التزاماتها تجاه الأمة.

ثانيًا: البنك وصندوق النقد الدوليان

وقد تم إنشاؤهما حسب مقررات مؤتمر بريتون وودز سنة 1944م، وأعلنوا أن الهدف من ذلك هو تشجيع استثمار رؤوس الأموال لغرض تعمير وتنمية الدول المنضمَّة إليه والتي تحتاج لمساعدته… هكذا يدّعون؛ ولكن الواقع والوثائق تكذبهم، فهذه المساعدات والمنح لا صلة لها على الإطلاق بالنواحي الإنسانية، فالرأسمالية القائمة على المادية لا تعرف إلا المنفعة، ولا يوجد في القاموس الرأسمالي شيء اسمه الإنسانية، وقد استطاعت أمريكا فرض نفوذها على البلاد الإسلامية من خلال هذه المؤسسات القائمة على التعامل الربوي، فنهبت ثروات البلاد وأفلست الكثير منها من خلال إغراقها بالديون ودفع العوائد الربوية المتراكمة عليها، حتى بات بلد مثل العراق الغني بثرواته ومعادنه ومياهه وتربته، يهدَّد شعبُه سنويًّا أنه مشرف على الإفلاس، وأنه لن يستطيع دفع رواتب موظفيه كما جاء على لسان ساسته المجرمين كالمتحدث باسم الحكومة أحمد ملا طلال، وعضو اللجنة المالية النيابية أحمد الحاج، ووزير المالية علي عبد الأمير علاوي الذي أقرَّ بخطورة الوضع الاقتصادي. كما استطاعت أمريكا من خلال هذه المؤسسات التحكم حتى في السياسة الداخلية للبلد من خلال الشروط التي تفرضها على الدول المقترضة، وأبرز هذه الشروط:

إنه يجب على الدولة المقترضة خفض قيمة عملتها بنسبة محددة، ويجب عليها أن ترفع دعمها عن الغذاء والوقود، وعليها أن تخفض من نفقاتها، ويجب عليها زيادة دور القطاع الخاص في التنمية وتحديد دور القطاع العام أو الحكومي، وتجنب وضع أية قيود على سريان الأرباح إلى الخارج، وغيرها من الشروط التي تفقد البلد سيادته وتجعله أسيرًا لهذه المؤسسات.

لذلك نرى انعكاس هذا القرض على الحياة المعيشية في البلد بسبب التقشُّف وزيادة الضرائب ورفع دعم الدولة للشعب عن الحاجات الأساسية من الغذاء والصحة والتعليم وباقي متطلبات الحياة، وتبقى هذه الدول أسيرة سداد الديون وتراكم العوائد الربوية، فثمرة صندوق النقد الدولي ليست القضاء على الفقر، بل هي القضاء على الفقراء، وهذا ما صرح به الرئيس الأمريكي نيكسون ذات مرة حيث قال: “دعونا نتذكر أن الهدف الأساسي للمساعدات الأمريكية ليس هو مساعدة الأمم الأخرى بل مساعدة أنفسنا”. ومما تقدَّم يتبين مدى خطورة الاستعمار الاقتصادي على بلاد المسلمين، وأنه خفي على الكثير من أبناء الأمة.

والذي جعل لهذا الاستعمار سبيلًا على بلاد المسلمين هم الحكام الخونة، فهم لم يكتفوا بإغراق البلد في الديون بل يقومون بسرقة جلها وإنفاق ما تبقى على المظاهر والزينة كالحدائق والنصب والنافورات، وعدم إنشاء أي مشروع إنتاجي اقتصادي يعود على البلد بالنفع، وهكذا تسلَّم بلاد المسلمين الغنية بالثروات لأعدائها على طبق من ذهب.

أيها المسلمون: إن تحرير البلاد من الاحتلال العسكري وخروج جنوده من البلد مع بقاء احتلاله السياسي والاقتصادي والثقافي، لا يعتبر تحريرًا للبلد ولا يمكن اعتباره بلدًا مستقلًّا… ولكي يكون البلد مستقلًّا ومحررًا لا بد من قلع الاستعمار بكل أشكاله العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية؛ لذلك ما نسمعه من صراخ وجعجعة من الحكام والفصائل المسلحة في بلاد المسلمين بخروج قوات الاحتلال، في الوقت الذي يحافظون فيه على منظومته السياسية ويقدسون دستوره ويرمون البلد في أذرع الاحتلال الاقتصادي ليس ذلك إلا سفهًا وتضليلًا للشعوب وخيانة للأمة، وقبل ذلك خيانة لله ورسوله.

إن حال الأمة وهي ترزح تحت هذا الاحتلال جعلها تعيش حالة التيه والتناقض بين ما تؤمن به وما يطبق عليها، فالحاكم يحكم بالكفر وهو ينتمي إلى حزب إسلامي! والمثقف ينادي بالديمقراطية والانفتاح الاقتصادي على الغرب ويروج للثقافة الغربية ويدعي أنه مسلم ويشهد الشهادتين ولا يسمح لأحد أن يزايد على إسلامه! والقاضي يحكم بالقوانين الوضعية وهو يصلي ويصوم!!

فحالة التيه والتناقض أفقدت الأمة هويتها واختلطت ألوانها فلم يعد لها لون خاص بها يميزها عن غيرها، وصدق فيها قول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قلنا: يا رسول الله، اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ؟!» رواه الشيخان.

أيها المسلمون: إن حزب التحرير الذي نذر نفسه منذ تأسيسه للعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وتحرير بلاد المسلمين من كل أشكال الاحتلال، يدعوكم للعمل والقيام بفرض الله تعالى عليكم بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، لتعيشوا حالة الرشد والانسجام بدل التيه والتناقض، فتنعموا بأمنكم وثرواتكم وتحرِّروا شعوب العالم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

قال تعالى: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ ٢٤).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *