العدد 431 -

السنة السابعة والثلاثون – ذو الحجة 1443هـ – تموز 2022م

ثقافة الهزيمة وتجارة المخدرات الفكرية

الحمد لله الذي لا دين إلا دينه، والصلاة والسلام على صاحب المحجة البيضاء، والشريعة الزهراء، وعلى آله وصحبه وسلم.

إن أخطر الأمراض التي تفتك بالجسد هي تلك التي تضرب جهاز المناعة، فإذا ما أُضعف جهاز المناعة، فتحت مضائق الجسد أبوابها لجحافل الجراثيم تفري فيه الأذى بلا حسيب أو رقيب. وفي هذا المجال، فإن من أبرز المزايا التي كانت تميز الحياة في ظل دولة الخلافة والتي نعاني اليوم ونجرع مرارة فقدها ميزتين:

الميزة الأولى هي حالة المناعة تلك والتي تمثَّلت بما يشبه القبة الحديدية الفكرية التي كانت دولة الخلافة تحوط بها المجتمع فتذبُّ عنه اللوثات والشبهات، وتُبقي الفكرة الإسلامية حصينة نقية طاهرة… وكم شهد التاريخ الإسلامي وفقهاؤه الأفذاذ من المناظرات الشهيرة التي قضت على رؤوس الفتنة وقبرتها وقطعت ألسنة موقظيها.

أما الميزة الثانية: فهي الشعور العام لدى الناس بالاعتزاز والانتماء والتمكين، شعور المسلم الذي عندما يمشي في شوارع الخلافة أنه يركن إلى ركن شديد، يمتلئ قلبه عزة وهو يسمع انتصار الأمير يوسف بن تاشفين على جيش ألفونسو الذي حرَّر طليطلة من جديد، يشهد أهازيج الفرح وزينة النصر ابتهاجًا بعودة القائد المظفَّر ألب أرسلان بعد معركة ملاذكرد التي فتحت بلاد الأناضول.

هاتان الميزتان الجليلتان: حصانة فكرية تنقي مفاهيم الإسلام من كل شائبة، ونفحة الاعتزاز بدين يصنع الانتصارات كل يوم، رافقتا تاريخنا الإسلامي وعزَّزت شخصية المسلم فغدت قويَّة مرهوبة، عصيَّة على الإضعاف، مَكينة على التضليل.

لم تغفل مؤامرات الكافر المستعمر بعد أن هدم دولة الخلافة عن هاتين الميزتين، ولا عن قدرتهما على إيقاظ المارد المسلم سريعًا بعد سقوطه؛ لذلك فقد ركزوا لهدمهما ترسانتهم الفكرية بقضِّها وقضيضها، واستدعَوا لها أساطيلهم الإعلامية والثقافية معزَّزة بجيش من علماء السوء ودعّار السياسة وقارعي طبول الفتنة.

ما المطلوب من وراء هذا كله؟ المطلوب إنتاج نموذج مسلم فاقد للثقة بنفسه، فاقد للثقة بأمته، مُخلخَل الفهم لدينه، وبالتالي يغدو هذا المسلم سهل التضليل والانخداع، طيّع الاستمالة، سريع الذوبان في حضارة الغرب، فاقد الغيرة على انتهاك حرمات أمته.

أما بالنسبة لتكريس ثقافة الهزيمة، فقد تولى كبرها في المقام الأول:

 الخطباء والعلماء (إلا من رحم الله): علماء هم أصلًا مهزومون من الداخل، أو مغرِضون يأكلون على موائد السلاطين لقاء ترويجهم لثقافة الهزيمة بين الناس.

يتوضأ الشاب المسلم ثم يتوجه لصلاة الجمعة وقد امتلأ قلبه أسى على ضحايا المسلمين في بورما، أو مجازر الصين في الأويغور، يدخل المسجد علَّه يسمع ما يرفع معنوياته أو ينعش إحباطه، وإذ به يرى الخطيب على المنبر، يحمل في يده سوطًا ثخينًا، ثم يبدأ بجلد المصلين بلا رحمة، نحن أمة لا خير فيها، أنتم جيل لا تستحقُّون النصر، كل الأمم متقدمة عليكم… وهكذا يخرج المسلم من المسجد وقد سُلخ جلده من سياط الشيخ فازداد يأسه سوادًا، وإحباطه اشتدادًا؛ حتى إذا ما بقي لديه وميضُ من أمل تولَّى الإعلام إطفاءه وإخماده.

الإعلام، والعلماء، تتبعهم برامج التعليم المنهجي، ومواقع التواصل الفاسدة، وقوافل المثقَّفين المضبوعين بالغرب وسمومه… كلهم يعمل لتكريس ثقافة الهزيمة من الداخل، وبثِّ الشبهات التي تَفتن المسلم عن دينه.

أين تغطية الإعلام للانتشار الكاسح بفضل الله، لدعوة الخلافة في قارات الأرض الست؟! أين نقلهم لنتائج استطلاعات الرأي العام العالمية من قبل مراكز الدراسات الاستراتيجية كمركز بيوغلوبال، ومركز برينستون والتي تؤكد إحصاءاتها تلهف الشعوب المسلمة للعيش في ظل الشريعة؟ لا نسمع هذا، ولكننا نسمع هذا الإعلام ينقل بشغف أخبار الاعتقالات والملاحقات لهؤلاء الدعاة، لماذا؟ لأن أخبار الاعتقالات تفتُّ بالأعضاد وتكرِّس الهزيمة النفسية.

أين تغطية هذا الإعلام لعشرات الآلاف من النصارى واليهود والملحدين الذين يقرِّرون ترك حياة الضلال التي يعيشونها ثم يقفون ليشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، حتى نشرت صحيفة الغاريان البريطانية التحذيرات المتكررة أن هذا الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا (The Fastest Growing Religion ) بل تقدِّر حساباتهم أن ديننا في غضون أربعة عقود فقط سينتزع مركز الصدارة العالمية ليصبح الديانة الأكبر والأولى في العالم. هذا كله ولا خلافة للمسلمين ولا مرجعية ولا قيادة، بل ونحن نواجه حربًا عالمية ممنهجة لتشويه الإسلام وإرهاب أهله.

نسألكم بالله، نسأل هذا الإعلام الأعمى ونسأل المشايخ الجلادين: أليست أخبار الحفَّاظ، والفقهاء والمجاهدين والدعاة وجحافل الأبطال اليوم في أمتنا هي الأَولى بخطابكم من قصص الفسَّاق والمتنازلين وعبَّاد الغرب؟؟

أليس التركيز على مواطن القوة وما أكثرها في أمتنا خيرًا لكم من لعب دور النائحة الثكلى على الشاشات والمنابر كل يوم.

وبالطبع لن تكتمل فصول الهزيمة من دون بث الشبهات التي تزعزع فكر المسلم وتلبِّس عليه مفاهيمه، تلك الشبهات التي ننام على بعضها ونستفيق على أخرى، شبهات وأباطيل تهدف إلى علمنة الإسلام وإفراغه من قوته ومضامينه، وتحويله إلى طقوس بيتية شعائرية كهنوتية، ما أبعدها عن نهج النبوة وسيرة قائدها العظيم… شبهات أشبه بالمخدرات الفكرية تشل الأعصاب وتقعدها عن العمل: اترك الدعوة للتغيير واجلس انتظر المهدي، اقعد واترك العمل السياسي، اقعد واترك التكاتف الحزبي مع إخوانك، اقعد، فلا يوجد في الإسلام نظام سياسي، اقعد، فحكَّامك الطواغيت هم ولاة أمرك لا يجوز التغيير عليهم…!! اقعد، فالحق عليك لا على الحكام، هذا الجيل ليس هو جيل النصر، اقعد وتفرج على عرى الإسلام تنتقض عروة عروة…

مخدرات أضعفت الهمة وأوهنت النخوة والغيرة حتى غدا الشباب حائرًا تائهًا، يخاف من أقرب إخوانه، لا يملك القدرة على التمييز بين الغثِّ والسمين؛ سيما وأصحاب هذه البضاعة المزجاة تفتح لهم القنوات، وتنفق عليهم الدولارات، ويصدرون تحت ألقاب المفكر الإسلامي، والعلم العلاَّمة والحبر الفهَّامة، كلهم يلاحق هذا المسلم المسكين في تلفازه وجوَّاله، وبين صفحات كتبه وجدران جامعته ومسجده.

أيها الشباب، أيها الإخوة والأخوات:

هذا التحريف لديننا من له إلا أنتم؟! من ينفي عن الإسلام ذلك الأذى إلا سواعدكم؟! يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم:   «يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفُونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ»

ألا تحبون أن تكونوا أنتم عدول هذا الخلف، هذا الجيل؟ تعلَّموا دينكم من علمائه الحقيقيين، وعلماؤه الحقيقيون لن تجدوا أكثرهم على الفضائيات ولا على موائد الحكَّام، احذروا أية دعوة تدعوكم إلى القعود أو اليأس أو زعزعة الثوابت التي روَّاها أجدادكم الفقهاء بمدادهم ودافع عنها أمراؤكم الخلفاء بدمائهم.

رسولكم يقول: لا تفتُّوا بأعضاد الناس، رسولكم يقول: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ» نحن بإذن الله لا غيرنا، وجيلنا لا غيره هو من سيشهد التغيير بحول الله وقوته. ثقوا بالله، وثقوا بأمتكم التي يرتعد الغرب وأساطينه ليل نهار من صحوتها، وهو يعلم كم هي حبلى بالأبطال والأخيار.

أنتم لستم غثاء، وإلا فلماذا تحاربكم قادة الأرض وتحذر من وحدتكم ليلَ نهار؟! أنتم من هزم أمريكا ومرغ أنفها مرارًا بتراب أفغانستان، أنتم من أسقط أربعة أنظمة كان يظن البعض أنَّه ما لها من زوال. أنتم من يقدم التضحيات في فلسطين وقد مرغ ستَّةٌ من أبنائكم كبرياء بني صهيون بملعقة طعام… ما أعظمكم وأعظم أمتكم، ما أعظمها في عقيدتها الجامعة، الجذَّابة، المقنعة، التي تشقى بفقدها أنظمة العالم فتمشي مُكبَّة على وجهها… ما أعظم أمتَنا في أبنائها الشباب، وكم يتمنى الغرب الذي هرمت ظهور عجّازه أن يكون له ما عندكم من ريعان الشباب وهمته ونضارته… ما أعظم أمتنا في موقعها الاستراتيجي وثروات برِّها وبحرها التي حبانا الله وحرمها أشقياء الأرض وشذَّاذها… ما أعظمنا في شريعة ربنا التي قادت البشرية سابقًا، والقادرة وحدها اليوم على إنقاذنا بل وإنقاذ أمريكا وأوروبا وروسيا من وحل الرأسمالية التي يشقى بها حتى أهلها…

واللهِ، لا ينقصكم إلا قائدٌ ربانيٌّ حقيقيٌّ، تلتفُّ الأمة وراءه في بيعة على كتاب الله وسنَّة نبيه، تحيل هذه الأرض نورًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا… اللهم لا تُطِلْ بنا هذا العهد، واجعلنا من شهوده وأوليائه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *