العدد 426-427-428 -

السنة السادسة والثلاثون، رجب-شعبان-رمضان 1443هـ ، الموافق شباط-آذار-نيسان 2022م

«الانهيار» هو مصير الحضارة الغربية في عيون مفكِّرين غربيين

يوسف مصعب

الأرض المباركة فلسطين

مؤشرات كثيرة من الواقع وعناصر عديدة أخرى أصبحت من أسباب ما ينتشر باطّراد من تساؤلات عما ستؤول إليه مسيرة النهضة الغربية التي بدأت في أوروبا قبل نحو خمسمائة عام، وما إذا كانت هذه الأعراض المرَضية مؤشرات لانهيار وشيك أم مقدمات لانهيار بطيء.

بين أيدينا على سبيل المثال دون الحصر بعض المؤشرات مما نعايشه بتسارع كبير:

  1. ظاهرة شعبوية التطرف اليميني الغربي واقترانها باسم رئيس «دولة كبرى» ترامب، وهذا بعد سلسلة حروب بوش المدمِّرة الخاسرة، وبعد مراوغات أوباما المتواصلة دون إحداث «تغيير» موعود.

  2. سطحية وانتهازية التعامل مع جذور أزمات مالية دولية، واقترانها بصعود التنافس مع دول وقوى بارزة في ميادين متعددة.

  3. ضعف الاتحاد الأوروبي وبداية تفكُّكه بخروج بريطانيا منه.

  4. ضياع معالم الأسرة التقليدية اجتماعيًّا وانهيار القيم وتفكُّك المجتمعات الغربية وازدياد ظاهرة العنصرية.

  5. تعاظم مشكلات كبرى على الصعيد الإنساني، بدءًا بتبدُّل المناخ العالمي، مرورًا بهوة التقدم والتخلف، انتهاءً بموجات التشريد والهجرة واللجوء.

  6. التعامل الهمجي والدَّموي مع الثورات الشعبية والحروب الأهلية والانتهاكات الواسعة، واهتراء مفعول منظومة القيم والحقوق الإنسانية التي كانت المحرِّك الأول لولادة الحضارة الغربية الحالية.

  7. الظلم والجوع والفقر والحروب… يرافقها التردِّي المريع في منظومة القيم؛ حتى أصبح العالم كالغابة يحكمها الذئاب.

ومع ذلك استطاعت الرأسمالية القيام بالترقيعات وطعَّمت نفسها بالاشتراكية وشيء من العدالة الاجتماعية، وما زالت تتأقلم مع الواقع، وقد تطوَّرت – في ظل الرأسمالية – العلوم والصناعات والتكنولوجيا والأسلحة وغيرها من مظاهر المدنية، مما أوهم الناس بصلاحية هذه الحضارة للبشرية وقدرتها على معالجة المشاكل الإنسانية؛ ولكن إلى متى سيبقى النظام الرأسمالي قادرًا على التأقلم والترقيع وإدارة الأزمات؟

لقد ظهرت بوادر التراجع والانكماش لغروب شمس الحضارة الغربية، وبدأت من داخل أمريكا نفسها؛ حيث يذكر المفكر الأمريكي «باتريك جيه بوكانن»، وكان يعمل مستشارًا لثلاثة رؤساء أمريكيين سابقًا، وكاتبًا سياسيًا في أكبر الصحف الأمريكية، وله العديد من الكتب الشهيرة، ذكر في كتابه (موت الغرب) أن الحضارة الغربية في طريقها المحتوم للانهيار لسببين، الأول: موت أخلاقي بسبب انهيار القيم الأسرية والتربوية، والثاني: موت ديموجرافي أو بيولوجي نتيجة موت الأخلاق وتراجع القيم الدينية والأسرية، مما أدَّى لتناقص السكان بشكل خطير، وأصبحت معظم الدول الغربية الآن تعاني تراجعًا كبيرًا في عدد السكان وانتشار الشيخوخة؛ نتيجة انهيار القيم الدينية والأسرية.

ويضيف أن موت الغرب مسألة وقت؛ لأن المرض خطير ومن داخل المجتمعات الغربية ويتعاظم، والمرض من صنع أيدينا وأفكارنا وليس بسبب خارجي، وهذا المرض ينهش بقوة في شباب الأمة؛ حيث انخفضت بشدة نسبة الزواج ونسبة خصوبة المرأة الغربية مع الحرية الجنسية وانتشار المثلية، وتراجع القيم الدينية والأسرية.

عمومًا، تنطلق فرضيات المفكرين الغربيين حول سقوط الحضارة المادية الغربية من أسباب ثقافية حضارية وأخرى موضوعية مادية، وطرحها في الغرب قديم متجدِّد، ويقتصر حديثنا التالي على أمثلة موجزة دون محاولة الإحاطة الشاملة بتلك الفرضيات وبتطورها وتفرعها.

ولعل أكثر من أثار الجدل التاريخي مبكِّرًا الفيلسوف الألماني أوزفالد شبرينجلر في كتابه (انهيار الغرب)، وقد ظهرت مقدماته عام ١٩١٢م (أي قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل الأزمة المالية الكبرى بعدها) ثم تجاوزت أطروحات الكاتب حدود ألمانيا مع طبعة الكتاب عام ١٩١٨م. وقد انطلق في تعليل توقعاته من منطلقات فلسفية وثقافية، ومن مقارنات تاريخية متطاولة لمقوِّمات صعود حضارات سابقة وضمورها، فلم يتوقع الكاتب أن تكمل الحضارة المادية الحديثة القرن الخامس من عمرها.

في الواقع، إن المفكرين الغربيين لم ينقطعوا عن التحذير من «الانهيار» وإن اختلفت تعليلاتهم، ولعلَّ سواد منطق التعليل «المادي» في الحياة الغربية عمومًا جعل أغلب تعليلاتهم الحديثة تميل إلى استخدام المنطق المادي، بمعنى الاستشهاد بمآلات مسارات اقتصادية ومالية ملموسة في الإطار الحضاري الغربي، ومنها ما عبَّر عن نفسه في أكثر من أزمة مالية عالمية، إنما كانت مخاوف المفكِّرين تتوالى من قبل ما يعرف مثلًا بـ «نادي روما»، وقد تأسَّس عام ١٩٦٨م من خبراء من ثلاثين بلدًا، واشتهر عبر كتاب (حدود النمو) عام ١٩٧٢م، وفيه نقد اعتبار «نسب النمو الاقتصادي» المحضة معيارًا للتقدم والرفاهية، وقد حذَّر من وصول ذلك إلى درجة تمنع متابعة طريق التقدم الفعلي في خدمة البشرية، ولا يزال نادي روما ينشر حصيلة أفكار أعضائه من مقره الجديد في سويسرا، ولا يخلو بعضها من تحذيرات مشابهة.

إن توقعات سقوط الحضارة الغربية وانهيار الرأسمالية، وعلى رأسها أمريكا بوصفها قائدة الحضارة الرأسمالية حاليًّا، ليست قاصرة على بعض مفكري المسلمين، بل هي صدرت وما زالت تصدر من مفكري وسياسيي الغرب أنفسهم. فهم يدركون من دراسة التاريخ أنه لطالما انهارت مجتمعات، ولم تخلُ حضارة على مَرِّ التاريخ، وإن بدت في ظاهرها قوية، من مواطن الضعف التي قد تدفع بالمجتمع إلى الهاوية.

فعلى سبيل المثال، المفكر الأمريكي المشهور بول كينيدي نشر كتابًا بعنوان (صعود وسقوط القوى العظمى) عام ١٩٨٧م، فذكر أن الولايات المتحدة تزحف عليها أعراض سقوط الإمبراطوريات، وتنبَّأ فيه بسقوط الإمبراطورية الأمريكية بالمعنى التاريخي للكلمة، بما يعني اضمحلال قوتها تدريجيًّا لصعود قوى عظمى منافسة مثل الصين نتيجة عوامل داخلية بنيوية، وأنه إذا زادت الالتزامات الاستراتيجية للدولة العظمى عن إمكاناتها الاقتصادية فإنها تسقط، وهذا هو المصير الحتمي لأية إمبراطورية!

وهو أمر اختلف معه «شبنجلر» الذي رأى أن كل حضارة كيان قائم بذاته، وأن الحضارة ظاهرة متفردة، تتخشَّب وتتيبَّس مفاصلها، ثم تنهار، ووقّت شبنجلر لنهاية الحضارة الغربية بعنوان صارخ: «انهيار الغرب»، وهو موت لا رادَّ له، على امتداد القرون القادمة. ويرى شبنجلر أنّ هناك عاملين رئيسين يؤديان إلى اندثار الحضارة، وهما: وجود قوة أكبر من قوة الحضارة نفسها، وكذلك وصول هذه الحضارة إلى صورتها النهائيّة.

ويرى أوزفلد شبنجلر أن الحضارة الواحدة تمرُّ بثلاثة مراحل: تبدأ بالنشأة والتكوين، ثم النضج والاكتمال، وتنتهي بالشيخوخة والانحلال حتى الموت والفناء، ولن تعود للحياة أبدًا… فالتاريخ بهذا المعنى يكمن في تواريخ كل من هذه الثقافات، ذلك أن الثقافة الواحدة كائن حيّ، له طريقه واتِّجاهه الذي لا يمكن أن يحيد عنه، والذي ينتهي إلى الشيخوخة ثم الفناء.

ويدلِّل على ذلك، بأن الحضارة الغربية بكل إنجازاتها التي حققتها بتقدمها العلمي والتكنولوجي والصناعي .. تسير الآن نحو الركود والجمود، بعد أن أخذت تفقد مقوِّمات حيويتها ونشاطها وقدرتها على الخلق والإبداع اللازم لاستمرارها، الأمر الذي يؤدي لا محالة إلى اندثارها وفنائها، وانتقال دورها إلى آسيا التي تدل كل الشواهد على أن حضارة الجنس الأصفر سوف تأخذ مكانها، تمامًا مثلما حدث عندما انتقل هذا الدور من اليونان إلى الرومان.

وهذه النتيجة التي توصل إليها شبنجلر، تتفق مع آرائه في تغير الثقافات والحضارات؛ حيث يرى أن عمر الثقافة الواحدة يصل إلى حوالى الألف عام، وأن الحضارة الغربية التي بدأت – في رأيه – حوالى عام 900م، تعيش الآن مرحلة احتضارها، حيث تشهد حالة من التدهور والجمود التي سوف تنتهي باندثارها وفنائها .

وشبّه بنيامين فريدمان – الخبير الاقتصادي السياسي – المجتمع الغربي بالدرَّاجة الثابتة التي يُسيّر عجلاتها النمو الاقتصادي، فإذا ما تباطأت هذه الحركة الدافعة إلى الأمام أو توقفت، ستهتز ركائز المجتمع، مثل الديمقراطية والحريات الفردية والتسامح وقبول الآخر، ولو لم نستطع إعادة الحركة إلى العجلات، سينهار المجتمع برمته.

ويدّعي جورج باكر أن تراجع أمريكا يرجع إلى عدم المساواة؛ حيث يقول: «إن عدم المساواة يحوِّل المجتمع إلى نظام طبقي، ويُفسد الثقة بين المواطنين، ويَستنزف الرغبة في تصور حلول طموحة لمشاكل جماعية كبيرة… وهو يقوّض الديمقراطية».

ويرى نيال فيرغسون أنه لن يكون هناك تراجع بطيء وثابت في صدارة أمريكا للعالم، فهو يقول: «…بدلًا من ذلك، فإن الإمبراطوريات مثلها مثل جميع الأنظمة المعقَّدة التي توازن نفسها، تظهر في حالة توازن واضح لفترة غير معروفة، ثم تنهار فجأة دون سابق إنذار».

ويقول راندرز: «مع حلول عام 2050، سينقسم المجتمع في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى طبقتين، إذ تعيش حفنة من الأثرياء في رغد من العيش في حين تتدهور الأوضاع المعيشية للغالبية، ومن ثم ستنهار العدالة الاجتماعية».

أما أولريش شيفر في كتابه (انهيار الرأسمالية: أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود) سنة 2010م، فيخلص إلى نتيجة مفادها أن المستقبل مرهون بمدى التغيُّر الذي سيطرأ على الأخلاقيات السائدة في المجتمع، وعلى إدراك الجميع أن مبدأ المسؤولية الاجتماعية لا يقل أهمية عن مبدأ السوق الحرة، وإذا تم تجاهُل هذه الحقائق فإن مصير النظام الرأسمالي معرَّض للمصير نفسه الذي آلت إليه الاشتراكية، وهو الانهيار والاختفاء من الوجود.

وأما المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت فيعتبر بأن الانهيار الأخلاقي والديني والقيمي في مقدمة عوامل سقوط الحضارة، ويذكر بأن الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها.

ويجمع الباحث الأمريكي بروس ج. براندر في كتابه (رؤية الفوضى: استطلاعات رأي انحسار الحضارة الغربية) آراء أشهر مؤرخى وفلاسفة وعلماء الاجتماع في أوروبا عن رؤيتهم لانحسار وضعف الحضارة الأوروبية وما يتبعه من فوضى، وعما إذا كانت ستولد حضارة جديدة بعدها.

يحاول براندر للإجابة عن أسئلة صعبة وعميقة مثل: ما مستقبل الحضارة الغربية؟ وما هي وجهة نظر المفكرين الأوروبيين عن أسباب الانحسار؟ وما أدلتهم عن ضعف الحضارة الغربية؟ هل هي دورة التاريخ حيث إن الحضارات مثل الإنسان لها فترة بدء ثم قوة ثم ضعف، أم أن انهيار الروحانيات والقيم من أسباب هذا الانهيار؟ أم أنه توجد أسباب أخرى؟

يستكشف براندر وجهة نظر تقول إن الحضارة الغربية وصلت إلى نهايتها، على الأقل من الناحية المادية والتقنية، والتي هيمنت بشكل توسعي على العالم طوال خمسة قرون. بدأ المؤلف في تكوين رؤيته للفوضى وتفكُّك الحضارة الغربية من  تحقيق كتابات نحو أربعة وعشرين مفكرًا اجتماعيًّا، كان لهم صوت مدوٍّ في التحذير من الانحدار منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبينهم تولستوي، وجاكوب بوركهارت، وهنري وبروكس آدمز، وألبرت شفايتزر. ثمّ بتحوُّله إلى المنظِّرين الثلاثة الأبرز في قضية الانحدار؛ حيث كرَّس الجزء الأكبر من كتابه على دراسات لأوزوالد شبنجلر، وأرنولد توينبي، وبتريم سوروكين؛ حيث شارك المفكِّرون الثلاثة فى عرض نادر ووضوح رؤية لعوامل الانكسار والانحسار ومستقبل الحضارة الغربية.

 يختلف العديد من المفكِّرين الذين اكتشفوا انحدارًا في الثقافة الغربية في تناولهم للموضوع، فالبعض منهم يأتي بأفكاره عن طريق الحدس، والبعض الآخر يستلهم الأنماط الموجودة في التاريخ أو الاقتصاد أو علم النفس أو علم الاجتماع، ويعتمد البعض الآخر على الحقائق التي يجمعونها من خلال العلم التجريبي كما يختلفون في مدى رؤيتهم لانحسار الحضارة الغربية.

وجمع ب. ج. براندر خلاصة آراء المفكِّرين حول انحسار الحضارة الغربية؛ حيث التقت أفكارهم في بعض النقاط حول عوامل الانحسار وأدلته وكيفية وقف هذا الانحسار ومستقبل الحضارة الغربية، ويمكن إيجاز مجمل رؤى هؤلاء المفكِّرين كما ورد في هذا الكتاب فيما يلي:

أولًا: طبيعة الحضارات (دورة التاريخ): بيَّن المفكِّرون والمؤرِّخون الأوروبيون أمثال شبنجلر في كتابه (انهيار الغرب) أن فكرة انهيار الثقافة الغربية تقوم على الدورات التاريخية للحضارة وثقافات البشر؛ حيث تنمو في مرحلة الطفولة والشباب الثقافي وتعلو وتظهر ثم تختفي، ويعتبر شبنجلر الثقافات كائنات حيَّة تدخل في دورات ثابتة ومتوقَّعة تمامًا وتحكم الضرورة التاريخية الوجود الثقافي.

ومن وجهة نظر توينبي يتولَّد الانحطاط لا بالقانون الطبيعي بل من داخل المجتمع نفسه من فشل الإنسان من دون أن يتضمَّنه عنصر الضرورة، ويؤكد أن الانحدار مسألة اختيار ملحّ مستمر، وقال: أؤمن بحرية إرادة الإنسان بتجاوبه بكل قلبه وروحه عندما تعرض عليه الحياة تحديًّا. أي يبدأ الانحطاط عندما يعجز الإنسان عن مواجهة التحديَّات فهو صاحب نظرية التحدِّي والاستجابة. وعندما تتوقف الحضارة وتنزلق في التفكُّك، يرى توينبي أن الانحطاط من غير المحتمل أن يكون أقل صرامة، وقد وضَّح هذه النظرية المؤرخ الروماني فلورس فذكر أن المراحل التى تمرُّ بها الحضارات هي: مرحلة التكوين genesis ثم مرحلة النمو growth   ثم مرحلة الانحدار decline  كنمط موحد لتغير الحضارات.

ويقول بتريم سوروكين إن الثقافة والحضارة لا تنمو بالمعنى التطوُّري؛ ولكن تتغير من مرحلة تصورية – روحية، إلى مرحلة متوسطة – مثالية، ثم إلى مرحلة مادية – حسية. وبالنضج وبالوصول إلى هذه المرحلة تتغيَّر إلى العكس من المادية إلى الروحية، أي يرى العديد من المفكِّرين الغربيين أن الانحسار للحضارة الغربية قادم لا محالة، طبقًا لدورات التاريخ وفلسفته؛ حيث لا بد من مرور الحضارات بفترة التكوين ثم القوة ثم الضعف والانهيار.

ثانيًا: نماذج من الماضي على انحسار الأمم والحضارات: يجمع المؤلف أمثلة لسقوط الأمم السابقة والإمبراطوريات القديمة، فعندما تصل الحضارة إلى فترة الضعف، فان مفكِّري العصر لن يمنعوها من السقوط، فيتحدَّث عن رؤية أفلاطون في كتابه الجمهورية Republic لإنقاذ بلاد اليونان والتي وضعها في المدينة اليونانية القوية سرقوسة؛ ولكن دون جدوى؛ لأن بلاد اليونان كانت في مرحلة السقوط. وحاول القائد السياسي ماركوس توليوس شيشرون الإبقاء على النظام الجمهوري القديم في روما، مع ذلك لم يتمكَّن من إيقاف الانحدار الذي حلَّ بروما القديمة.

ثالثًا: مظاهر انحسار الحضارة الغربية: يقول إدوارد جيببون في كتابه «انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية» إن الكارثة التي حلت بروما في القرن الخامس قبل الميلاد يمكن أن تباغت الحضارة الغربية، أيضًا. ويضرب المؤلف مثلًا على الانحطاط من خلال الحروب الضخمة التي شهدتها أوروبا مثل الحربين العالمية الأولى والثانية وأن الحروب الكبرى لم تنتهِ بعد، وهي دليل على الانحسار وعدم التحضُّر حيث تسبَّبت في موت ملايين البشر من دون ذنب.

كما يوضح الكاتب أن العالم الغربي في الوقت المعاصر خليط من التنوُّع متَّسم بالفوضى؛ حيث تشهد المملكة المتحدة إصرارًا متكرِّرًا للانفصال عن سكان ويلز واسكتلندا، ويملأ الكاثوليك والبروتستانت شوارع ألستر بالدم، وهناك تمييز بين الفلمنك والواليين في بلجيكا والباسكيين والكاتاليين في إسبانيا، والجوراسيين في سويسرا، والصرب والكروات والبوسنيين في يوغسلافيا السابقة، والكويبكيين في كندا. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فإن المزيج الاجتماعي الذى أطلق عليه الكاتب المسرحى البريطاني إسرائيل زانجويل  Israel Zangwill في عام 1914م اسم البوتقة المنصهرةThe Melting Pot ، ينفصل إلى أمريكيين إسبان وأمريكيين أفارقة وأمريكيين أصليين والواسب. ويزعم المواطنون المولودون في الأرض فخرهم بأنهم أيرلنديون وإيطاليون وبولنديون ويونانيون وأرمينيون فهم ليسوا بالضرورة أمريكيين. وعقب الاضطرابات الحادة التي شهدتها ولاية لوس أنجلوس عام 1992م تجرَّأت صحيفة لندن إندبندنت London Independent  في تصريح هام قالت فيه: «تتفكك الولايات المتحدة خيطًا بخيط بشكل يشابه إلى حد كبير الاتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا أو أيرلندا».

 ويقول الباحث الأميريكي هارولد آر . إسحاق Harold R.Isaacs: ليس ما نعانيه هو تشكيل تماسكات جديدة، بل انقسام العالم إلى قطع وأجزاء وانفجار مثل النجوم الكبيرة والصغيرة من مجرَّات متفجِّرة وتكون كل منها أجزاء منفصلة، كل منها يجاهد للإمساك بأجزائه المنفصلة؛ حيث إنه تجمُّع ضخم عالمي متشنِّج من الناس مع تنوُّع في التجمعات (القبلية والعرقية واللغوية والدينية والقومية)، كما تنفذ الانشقاقات بعمق في المؤسسات العامة والجماعات والأعمال التجارية والأديان وتظهر بصورة عامة في القيم الأخلاقية الضعيفة والثقة المتناقصة وعدم الأمان الاقتصادي والجريمة المتزايدة والانتحار والإباحية الجنسية والطلاق، ولا تقلِّل تلك الانشقاقات المؤلمة التي تفرق أرواح الناس والتي تحدث عنها علماء الاجتماع والشعراء وعلماء النفس والروائيون من شعور بالضيق ذهنيًا وعاطفيًا على أنه شذوذ وخلل وظيفي اجتماعي وأشكال مختلفة من الضياع والانحدار، وكعلامة أخرى على الانحدار، تتآكل المدن الضخمة من الريف، ويقضي الناس في المدينة حياة مليئة بالتوتر الشديد في العمل واللعب والعلاقات الإنسانية التي تجرّد في النهاية من العمل المرضي.

ويرى جاكوب بوركهارت أن عوامل الانحدار في الحضارة الأوروبية الحالية متوافرة أهمها: الكساد الاقتصادي والحروب والاستبداد وسيطرة المادة على الحياة الغربية.

رابعًا: مستقبل الحضارة الغربية وكيفية تفادي الانحدار: أيقن العديد من مفكِّري الغرب أن الانحسار والتفكُّك الحضاري الغربي قادم، وقدموا الحلول لتفادى ذلك، ورأى جاكوب بور كهارت عوامل الانحدار في الحضارة الأوروبية الحالية من الكساد الاقتصادي والحروب والاستبداد وسيطرة المادية؛ لكنه يرى أن الانحدار ممكن أن يتوقف بواسطة عدد من الناس الذين يعيشون المسيحية الأصيلة. أما توينبي فيقدم مقترحًا لتفادي الانحدار الغربي بإعادة التحوُّل الغيور إلى الإيمان الديني الأصلي للثقافة.

ورأى بوركهارت العلاج في تجديد روحي لاستمرار الحضارة الغربية. وأكد شفايتزر أن الفلسفة الأخلاقية هى العلاج للوضع الغربي المنحدر والمتجه نحو الفوضى.

ويتنبَّأ المؤرخ جون م روبرتس John M . Roberts في كتابه (تاريخ أووربا) HISTORY of  Europe بأن الدور الأوروبي العالمي يتآكل، وأن الادِّعاء بأن أوروبا وارثة المسيحية لن يكون له معنى، وهو يعتقد في مجتمع وثني جديد ما بعد المجتمع المسيحي. وكذلك يرى العالم صموئيل هنتنغتون أن الغرب في حالة انحدار ومهدد بالحضارات الناهضة كاليابانية والصينية.

وعلى الرغم من ذلك، لا يتوقع كل مراقبي الغرب المعاصرين السقوط الوشيك للحضارة الغربية؛ حيث يرى البعض مثل هنرى آدمز وبرديائيف وسوروكين أن النهاية وشيكة، بينما يعتقد آخرون مثل شبنجلر وتوينبي أن الثقافة قد تمضى متثاقلة لقرون. وفي الوقت نفسه يتفق معظم المحللين أن بعض الاتجاهات الرئيسية تقيس مراحل الانحدار.

وعن توقع حدوث حروب في المستقبل، كما يقول الرئيس التشيكي فاكلاف هافل، فإن هذه الحروب لا تتمحور حول العقائد بل حول الثقافات، وأن الأمم ذات الثقافات المتشابهة سوف تلتقي وتتشكل الانحيازات على طول خطوط الجماعات الثقافية سبع أو ثماني حضارات من بينها الصينية والإسلامية والغربية والسلافية والروسية والأرثوذكسية والهندية. ويأمل هنتغتون أن تتوحد بلدان الغرب من أجل الدعم المتبادل وتشكيل القوة الأعظم، وينصح لتفادي الحرب أن يشكل العالم دوائر نفوذ حضارية تحترم كل منها خصوصية الآخر، ويلحُّ مع توينبي على أن تفكر الشعوب في كل الحضارات عالميًّا وتتعرف على القيم والأعراف والعادات المشتركة بينها.

وإزاء رؤية الفوضى والتفكُّك للحضارة الغربية، رأى عدد من كتَّاب الغرب أن وقف الانحدار والفوضى يجب أن يكون بالعودة إلى الأخلاق البشرية لإنقاذ الحضارة، كما قال شبنجلر أن التجديد الديني هو النفس الأخير في حضارة محتضرة.

إنه من الواضح أن النخبة العلمانية الرأسمالية وعلى رأسها المفكرون الغربيون قد نفدت منها الأفكار الإبداعية لكيفية حل مشكلات المجتمع المعقدة. وهم قد ركنوا إلى قوة حضارتهم بعد انهيار الحضارات المنافسة؛ لذلك سيركنون إلى الراحة والاستقرار، ثم ستنحطُّ هذه الحضارة شيئًا فشيئًا، وستستعصي عليها المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وستزداد بالذات حدة أزماتها الاقتصادية، ولن تجد مخرجًا منها إلا بتصديرها إلى غيرهم بالمزيد من الاستعمار والاستغلال والتوحش. وهذا سيؤدي إلى مزيد من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخليًا، كما حصل في حركة «احتلوا وول ستريت» في أمريكا، ثم ما حدث لاحقًا في فرنسا في حركة «السترات الصفراء»، وما حصل إبَّان خسارة «ترامب» انتخابات الرئاسة في الفترة الثانية وحالة الانقسام الشديد في المجتمع الأمريكي وبروز ما حاول الغرب إخفاءه وإنكار وجوده لعقود كالعنصرية والتفكُك المجتمعي. وربَّما يؤدي هذا إلى أن تنقسم بعض دول الغرب، كأمريكا، أو تضعف، وقد تشتعل حروب بين أهل هذه الحضارة أنفسهم نتيجة الأطماع الاستعمارية والتنافس على الثروات. وعلى الصعيد الخارجي سيزداد كره العالم للرأسمالية وستظهر في أطراف العالم مقاومة مختلفة الأشكال لاستعمارها، وقد تشتعل حروب دولية أو محلية؛ في انتظار البديل الحضاري الذي ينقذ البشرية مما آلت اليه أوضاع العالم في ظل وصاية وهيمنة الحضارة الغربية.

إن الحضارة الرأسمالية، رغم فسادها وترنُّحها، فإنها لن تسقط من تلقاء نفسها؛ لأن الفراغ ضد سنن الحياة، وسنة التدافع لازمة. وإننا كمسلمين، ومن خلال معرفتنا بسنن الله ومعرفتنا بأسباب زوال الحضارات والأمم، ندرك أن هذه الحضارة فاسدة كما أدرك ذلك كثير من مفكريها، وهي لا تصلح لإسعاد البشر ومعالجة مشاكلهم بسبب عوامل ذاتية فيها نابعة من عقيدتها الفاسدة، وعدم اعترافها سوى بالقيمة المادية، علاوة على عدوانها وظلمها وتعاليها على غيرها من البشر، فهي التي أفرزت العبودية والاستعمار والصراعات الدموية بين البشر. كما أنها سبَّبت الشقاء لأهلها بحروبها القومية والحدودية، ثم خاضت حربين عالميتين خلال القرن العشرين قتلت عشرات الملايين من أهل أوروبا والعالم.

إن سنن الله في الأمم فاعلة، وهي ستفعل فعلها في الرأسمالية كما فعلت في غيرها، فالله جعل لكل أمة أجلًا، وهذا ينطبق على أمم الرأسمالية ودولها، ولكن هذا لا يحدث ذاتيًا، وستكون نهاية هذه الحضارة الفاسدة فقط بأسباب خارجية، أي بتدافع غيرها من الأمم معها لإيقاف إفسادها، فالله تعالى سنَّ سننًا لإهلاك الفاسدين كسنة الإملاء، وسنة إهلاك المترفين، وسنة التداول، وجعل خاتمة سننه سنة وراثة الصالحين والمتقين للأرض.

وسنة التدمير الشامل للقرى والدول كانت موجودة قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد بعثته لا يوجد إهلاك شامل كما حصل للأقوام السابقة المكذبة لأنبيائها، وإنما يعاقبها الله بمختلف صنوف العذاب حسب نوع الجريمة التي يقترفونها، أو يسلط عليهم عباده المؤمنين فيتبِّرون ما علا به أهل الفساد والظلم تتبيرًا؛ ولذلك يتوقع أن يسلط الله عليهم عبادًا له ليتدافعوا معهم، ثم سيهلك الله المفسِدين، فمن هو المرشح من الأمم لدفع إفسادهم؟

إننا نرى أن ذلك سيكون، بمشيئة الله، بواسطة المتَّقين الصالحين ورثة الأرض بعد الرأسمالية، وهؤلاء هم المسلمون. وبما أن حضارة الإسلام مميَّزة، وبقاءها من سنن الله فهي لن تفنى، بل ستعود من جديد لتتجسد في دولة تحمل الإسلام؛ ليتحقق بها وعد الله بالتدافع والصراع بين الحضارة الصالحة والحضارة الفاسدة فتصرعها وتنتصر عليها. فالحضارة الإسلامية، وإن سقطت دولتها التي كانت تحملها وتطبقها وتنشرها في العالم، الا أن هذه الحضارة ما زال يحملها مئات الملايين من البشر كعقيدة وأحكام يدينون بها، وما زال يحملها ثلة منهم حملًا فكريًّا وسياسيًّا سعيًا إلى إعادة الدولة التي تطبق أحكامها وتحملها حملًا مؤثرًا وقويًّا إلى العالم لتعيد صياغة الحياة صياغة جديدة تقوم على قيم الإسلام الرفيعة ونظرته الصحيحة للوجود.

وسيجد أهل الإسلام باذن الله بأن الظروف الدولية حولهم مؤاتية لنشر حضارتهم، وسيجدون تأييدًا من شعوب العالم التي قُهرت وظُلمت من الرأسمالية، كما وجدها أجدادهم الصحابة عند فتحهم للعراق والشام ومصر، وسيدخل الناس في دين الله أفواجًا، وسيبلغ ملك أمة الإسلام ما بلغ الليل والنهار، وما ذلك على الله بعزيز.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *