العدد 424 -

السنة السادسة والثلاثون، جمادى الأولى 1443هـ الموافق كانون الأول 2021م

رياض الجنة: أوصاني خليلي

روى أحمد والبزار وابن حبان في حديث صحيح، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: «أوصاني خليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخصالٍ مِن الخيرِ: أوصاني بألَّا أنظُرَ إلى مَن هو فوقي وأنْ أنظُرَ إلى مَن هو دوني، وأوصاني بحبِّ المساكينِ والدُّنوِّ منهم، وأوصاني أنْ أصِلَ رحِمي وإنْ أدبَرتْ، وأوصاني ألَّا أخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ، وأوصاني أنْ أقولَ الحقَّ وإنْ كان مُرًّا، وأوصاني أنْ أُكثِرَ مِن قولِ: «لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ فإنَّها كنزٌ مِن كنوزُ الجنَّةِ».

* قوله رضي الله عنه: «أَوصاني خليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بخِصالٍ مِن الخيرِ» والمرادُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَهِدَ إليه بأمورٍ فيها الخيرُ لمَن التزَمَها وعَمِل بها، ووضَعَ قولَه: «خليلي» مكانَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ إظهارًا لغايةِ تعطُّفِه وحبِّه الشديدِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

* وقوله رضي الله عنه: «أَوصاني بألَّا أنظُرَ إلى مَن هو فَوقي» وهو الذي يَتقدَّمُ على الإنسانِ في المالِ والغِنى والمناصبِ، والمرادُ ألَّا أطلُبَ ما في يدِ الآخَرينَ مِن أمورِ الدُّنيا «وأنْ أنظُرَ إلى مَن هو دوني» وهو الذي أقَلُّ منه في المالِ أو الصِّحَّةِ ونحوِه؛ وذلك حتى يَقنَعَ الإنسانُ بما في يدِه فيَحمَدَ اللهَ ويشكُرَه عليه، فيَنشغِلَ بالعِبادةِ والطاعةِ، وتَستقِرَّ له نفسُه وروحُه أكثَرَ مِن أنْ يَنشغِلَ بطلبِ الدُّنيا فيُرهِقَ نفسَه ويشُقَّ عليها بما هو زائلٌ. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ» متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ. وفي رواية البخاري: «إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ فلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْه»ُ. قال ابن حجر: «وفي معناه، أي الحديث السابق، ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن الشخير رفعَهُ: «أقِلُّوا الدخول على الأغنياء؛ فإنه أحرى أن لا تَزْدَرُوا نعمة الله». قال بن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ ولهذا قال ابن عون:« صحبت الأغنياء فلم أرّ أحداً أكثر همَّاً مني، أرى دابَّةً خيراً من دابَّتي، وثوباً خيراً من ثوبي، وصحبت الفقراء فاسترحت».

* وقوله رضي الله عنه: «وأَوصاني بحُبِّ الـمَساكينِ، والدُّنوِّ منهم»، والـمِسكينُ هنا: مَن كان قَلبُه مُستَكينًا للهِ خاضِعًا له خاشعًا، ولأنَّ المساكينَ ليس عِندَهم مِن الدُّنيا ما يُوجِبُ مَحبَّتَهم لأَجْلِه؛ فلا يُحَبُّونَ إلَّا للهِ عزَّ وجلَّ، والحبُّ في اللهِ مِن أَوثَقِ عُرى الإيمانِ، والـمُحِبُّ لأهلِ الإيمانِ وأهلِ طاعةِ اللهِ تعالى يَقرُبُ أنْ يَعمَلَ بعمَلِهم. فعن أسامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «قُمتُ على باب الجنة، فإذا عامَّةُ من دخَلَها المساكينُ، وأصحاب الجَدِّ (الحظ والغنى) محبوسون (لم يؤذَن لهم بعدُ في دخول الجنة حتى يأذن الله) غير أن أصحاب النار قد أُمِرَ بهم إلى النار، وقمتُ على باب النار، فإذا عامَّةُ من دخَلَها النساءُ» متفق عليه. قال وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: «اتخذوا اليدَ عند المساكينِ؛ فإنَّ لهم يومَ القيامةِ دولةً»، وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ: «مَن أرادَ عِزَّ الآخرةِ؛ فليكنْ مجلسُهُ مع المساكينِ».

* وقوله رضي الله عنه: «وأَوصاني أنْ أَصِلَ رَحِمي وإنْ أدبَرَتْ» بعُدتْ، أو أنَّهم قطَعوها، والرَّحِمُ هي الصِّلةُ التي تكونُ بينَ الشَّخْصِ وغيرِه، والمرادُ بها هنا: الأَقارِبُ، ويُطلَقُ عليهم: أُولو الأرحامِ. روى الإمام أحمد والدارمي عن حكيم بن حزام «خير الصدقة على القريب الكاشح» ومعناه، فهو أن أفضل ما يتصدَّق به المرء هو ما يتصدَّق به على قريبه الذي يعاديه ويضمر ذلك؛ لأن في هذه الصدقة الجمع بين صلة الرحم وترغيم الشيطان. فالكاشح كما في «لسان العرب»: العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كشحه أي باطنه. وعن سلمان بن عامر قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة».

* وقوله رضي الله عنه: «وأَوصاني ألَّا أخافَ في اللهِ لَومةَ لائمٍ» بألَّا يُقدِّمَ الخوفَ مِن أحدٍ على الخوفِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، ولكنْ يَصدَعُ بالحقِّ. وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ (السهل والصعب) وَعَلَى أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ». وأخرج الترمذي: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ». وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ» أخرجه أحمد. وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها». قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم». قال الإمام النووي: «معناه: نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحدًا ولا نخافه».

 * وقوله رضي الله عنه: «وأَوصاني أنْ أقولَ الحقَّ وإن كان مُرًّا»، وألَّا يَخشى أحدًا في قولِ الحقِّ وإنْ أُوذيَ فيه. فقد خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه في بداية الدعوة إلى قريش، وعزم على أن يسمعهم كلمة الحق، فخطب فيهم بالإسلام، وكان أول خطيب يدعو إلى الله ورسوله، فتناوله الأعداء بالضرب المبرح على جسده ووجهه، حتى ما عرف أنفه من وجهه، فحملوه إلى بيته وما يشكُّون في موته. ونقل ابن هشام أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يومًا فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، ثم قرأ :«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رافعا بها صوته ]ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢[ [الرحمن: 1، 2]، ثم استقبلها يقرؤها، فتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينَّهم بمثلها. قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون». وكذلك فعل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه  لما أسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك (غفار)، فأخبرهم حتى يأتيك أمري». فقال: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ (قريش). فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فاستنقذه منهم، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ لِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ فاستنقذه منهم» متفق عليه. ومِمَّا جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قوله: «مَا زَالَ بِي الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى مَا تَرَكَ الْحَقُّ لِي صَدِيقًا» رواه أحمد بسند جيد..

* وقوله رضي الله عنه: «وأَوصاني: أنْ أُكثِرَ مِن قولِ: لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ»، هي كلمةٌ فيها اعترافٌ مِن قائلِها بالإذعانِ والخضوعِ للهِ تعالى وتسليمِ الأمرِ إليه، ومعناها: أنَّه لا حيلةَ للعَبدِ ولا تَحوُّلَ له عن معصيةِ اللهِ إلَّا بإذنِه، وقيل: مَعْناها: لا حوْلَ في دَفْعِ الشَّرِّ، ولا طاقةَ بجَلْبِ خَيرٍ إلَّا بإذنِ اللهِ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي موسى رضي الله عنه “ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة”؟ قال: بلى، قال: “لا حول ولا قوة إلا بالله” وهذا بيانٌ لعظيمِ وفضلِ تلك الكلمة. وهذه الجملة العظيمة فيها التسليم لله تعالى والاعتماد عليه، وأن (الحول) أي الحركة، أو (التحول) من حال إلى حال. والقوة على الطاعة، لا تكون إلا بالله. ويقول ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا تَأْثِيرُ «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» فِي دَفْعِ هَذَا الدَّاءِ [ يعني: داء الهم والغم ] فَلِمَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ التَّفْوِيضِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِهِ، وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ كُلِّهِ لَهُ، وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *