العدد 338 -

السنة التاسعة والعشرون ربيع الأول 1436هـ – كانون الثاني 2015م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

 ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:

  1. إن الذي يكره ويكفر بملة إبراهيم يكون قد أوقع نفسه في الجهل والسفه لأن الله سبحانه قد اختار إبراهيم – عليه السلام – بالنبوة والرسالة في الدنيا، وهو عليه السلام في الآخرة من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح.

 ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) استفهام استنكاري أيكون من العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم.

(والملة) في الأصل هي السُّـنَّة والطريقة كما قال الزجّاج وصارت تطلق على الدين، عقيدتِه وشرعِه، وهي هنا العقيدة أي الإيمان الذي كان عليه إبراهيم، وذلك لأن شرع الأنبياء السابقين قد نسخ برسالة الإسلام منذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم  ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا  ) المائدة/آية48.

 ( وَمُهَيْمِنًا ) أي ناسخاً لشرع الأنبياء السابقين، أما عقيدة الأنبياء السابقين فغير منسوخة لأن النسخ يقع في الأحكام الشرعية للأنبياء السابقين إلا ما أقره الإسلام من شرائعهم فيصبح حكماً شرعياً في الإسلام لأن الإسلام أقره.

وعليه فالذي يكفر بملة إبراهيم من حيث العقيدة التي كان عليها أي توحيد الله ونبذ الشرك وكلّ ما طلب من إبراهيم – عليه السلام – الإيمان به فإن الذي يكره ذلك ويكفر به يكون قد أوقع نفسه في السفه والجهل والكفر بالله ورسوله.

 ( مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) أي أوقع نفسه في السفه والجهل والكفر.

 ( سَفِهَ  ) بكسر الفاء، يتعدى وبضم الفاء لازم.

  1. إن جميع الأنبياء – عليهم السلام – كانوا مسلمين لله بمعناها اللغوي أي منقادين خاضعين لله مؤمنين بكلّ ما طلبه الله منهم، وبهذا المعنى كان إبراهيم – عليه السلام – حنيفاً مسلماً أي غير مائلٍ عن الحق بل خاضعاً لله منقاداً مخلصاً.

ولذلك فقد ردّ الله على اليهود قولهم إنَّ إبراهيم كان يهودياً، وردّ الله أيضاً على النصارى قولهم إنَّ إبراهيم كان نصرانياً  ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ   ) آل عمران/آية67.

وكذلك ردّ الله عليهم بالآية السابقة  ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ )فاليهود والنصارى كانوا يكرهون أن تكون ملة إبراهيم – حنيفاً مسلماً – ويقولون إنه كان يهودياً أو نصرانياً.

وقـد ردّ الله عليهم كذلك ادّعـاءهـم ومـا أنـزلـت التوراة والإنجيل إلا من بعده  ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) آل عمران/آية65.

فائدة عن ملة إبراهيم:

إن الأنبياء ومن اتبعوهم هم مسلمون بهذا المعنى من حيث اللغة، أي خاضعون منقادون لله سبحانه، ولكن الإسلام بالمعنى الشرعي هو الذي أنزله الله على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم بعقيدته الكاملة – ومن ضمنها عقيدة الأنبياء السابقين – وبشريعته الكاملة الناسخة لشرائع الأنبياء السابقين.

وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبحت الدعوة مقصورة على الإسلام والإسلام وحده  ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران/آية19  ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) آل عمران/آية85.

فلا يصح إفراد الدعوة لملة أيٍّ من الأنبياء السابقين، بل لا بدّ من الدعوة إلى العقيدة الإسلامية – وعقيدة الأنبياء السابقين جزءٌ منها – وكذلك لا بدّ من الدعوة إلى الأحكام الشرعية الإسلامية التي نسخت شرع الأنبياء السابقين إلا ما أقرته منها وأصبح جزءاً من الأحكام الشرعية.

وخلاصة القول:

أ. إن ملة الأنبياء السابقين من حيث العقيدة نؤمن بها وهي جزء من العقيدة الإسلامية.

ب. إن ملة الأنبياء السابقين من حيث الشرع هي منسوخة بالإسلام، وما أقره الإسلام منها يصبح جزءاً من الإسلام ويُعمل به لأن الإسلام جاء به وليس لأنه شرع من قبلنا.

ج. لا يصح إفراد الدعوة بعد الإسلام لأيِّ ملةٍ من ملل الأنبياء السابقين بل يدعى للإسلام وحده وما أقره الإسلام من ملل الأنبياء السابقين يصبح جزءاً من الإسلام.

@ @ @

  1. إن إبراهيم – عليه السلام – قد امتثل لأمر الله وأسلم منقاداً مخلصاً لله وبهذا وصّى بنيه، وكذلك وصّى به يعقوب – عليه السلام – بنيه أن يحرصوا على التمسك بدينهم الذي اختاره الله لهم وأن يستمروا على ذلك حتى يتوفاهم الله بالموت وهم مسلمون لله طائعون له، ولا تفتر همتهم عن طاعة الله والخضوع والإسلام إليه لأنهم لا يعلمون متى الوفاة.

 ( فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي استمروا ثابتين على الإسلام حتى يتوفاكم الموت، أي لا يأتيكم الموت إلا وأنتم مسلمون، فالنهي في الحقيقة هو على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، وليس النهي عن أن يموتوا، كقولك لا تصلِّ إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع وهي هنا كذلك، فالنهي ليس عن موتهم بل النهي عن ترك الإسلام.

  1. إن اليهود والنصارى كانوا يفترون على الله الكذب فيدعي كلّ فريق منهم أن الأنبياء كانوا على ملتهم، قالوا ذلك عن إبراهيم – عليه السلام – فبيّن الله بطلان قولهم كما ذكرنا سابقاً، وقالوا عن يعقوب فأبطل الله دعواهم لأنهم لم يحضروا يعقوب – عليه السلام – عندما حضـرته الوفـاة ولو أنهم كانوا حـاضـريـن لعلموا أنَّ يعقوب – عليه السلام – كان مسلماً لله خاضعاً طائعاً وأن أبناءه من بعده وعدوه في مرض موته أن يستمروا على دينه ودين آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق يعبدون الله الواحد الأحد وينقادون له سبحانه خاضعين طائعين، وليس كما يدّعي اليهود والنصارى أنهم كانوا على ملتهم المبدَّلة المحرفة والتي نزلت بعدهم ثم حرِّفت وبدّلت.

 ( أَمْ كُنْتُمْ )  ( أَمْ ) منقطعة بمعنى (بل) وهمزة الإنكار أي (بل أكنتم) ومعنى (بل) الإضراب عن الكلام الأول – في الآية السابقة – وهي بيان التوصية، ثم الانتقال إلى موضوع جديد مستأنف وهو توبيخ اليهود والنصارى على ادّعائهم ملتهم على يعقوب وبنيه.

والعرب تستفهم بـ(أم) في كلّ استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه على نحو قوله سبحانه: الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) السجدة/آية1-3.

 ( شُهَدَاءَ )  جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين حين احتضـار يعقوب – عليه السلام – وسؤاله بنيه عن الدين فَلِمَ تدَّعون ما تدَّعون؟!

 ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ) أي أيّ شيء تعبدونه بعد موتي. واستعمال  ( مَا ) في السؤال للدلالة على أن جواب أبناء يعقوب بعبادة الله وحده لم تكن بناءً على تقليدٍ أو توجيهٍ من أبيهم بل بناءً على قناعةٍ عقليةٍ وإيمانٍ صادقٍ بذلك فكأنَّهم سئلوا عما يعبدون ابتداءً دون أن تكون عندهم معرفةً مسبقةً من أحدٍ، فأجابوا عن اعتقادٍ دون تقليدٍ. والعرب تسأل بـ(ما) عن كلّ شيءٍ مجهولٍ فإذا عُرِّف خُصَّ العقلاء بـ(مَن) إذا سئل عن شيءٍ بعينه، وإن سئل عن وصفه قيل ما زيد أفقيه أم طبيب؟ فالسؤال  ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ) هو سؤال لهم عن معبودهم ابتداءً أي كما لو لم يكونوا يعلمون شيئاً عن المسؤول عنه حتى لا يكون جوابهم تقليداً أو بناءً على معلوماتٍ لا دليل عليها، بل يكون جواباً عن علمٍ قطعيٍ وهكذا كان.

 ( آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) أما إبراهيم وإسحاق فهما الجد والأب ليعقوب وهو واضح في تسميتهم بالآباء، وإسماعيل – عليه السلام – هو عم يعقوب، والعرب تجعل الأعمام بمعنى الآباء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “عم الرجل صنو أبيه[1] ويقول صلى الله عليه وسلم في العباس: “هذا بقية آبائي[2].

  1. 5. في الآية الأخيرة خطاب لليهود والنصارى أن يتركوا الافتراء على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنيه بأنهم كانوا يهوداً أو نصارى، فلا تلصقوهم بكم أو تلصقوا أنفسكم بهم ظناً منكم أنكم ترفعون من شأنكم بهم، فإن الأمر على غير ذلك، فهم أمة قد ذهبوا بأعمال الخير الذي كسبوه، وأنتم سيحبط بكم عمل الشر الذي اقترفتموه ولن تنتفعوا بحسنات تلك الأمة الصالحة، فأنتم لن تحاسبوا بأعمالهم بل بأعمالكم، والذي سيوضع في ميزانكم يوم الحساب هي أعمالكم أنتم فاحرصوا أن تكون أعمالكم في طاعة الله فتنفعكم يوم الحساب، وأما أن تعصوا الله وتعمدوا إلى إلصاق الأنبياء بكم ظناً منكم أن حسناتهم ستنفعكم وتخفف عنكم فإن هذا لا يكون.

 ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).

 (  أُمَّةٌ  ) لفظ مشـتـرك تطلق على الواحد إذا كان يقتدى به في الخير وله شأن  ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) النحل/آية120 وتطلق على الدين والملة  ( إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) الزخرف/آية22، وكذلك تطلق على المدة الزمنية  ( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يوسف/آية45 والقرينة هي التي تبين المعنى، وهي هنا بمعنى جماعة من الناس لأنها تتكلم عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنيه وعمن آمنوا بهم واتبعوهم على نحو قوله سبحانه  ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) آل عمران/آية104 وقوله سبحانه:  ( أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) الأعراف/آية159.

 ( خَلَتْ ) أي مضت بالموت، وإنما قيل للذي مات فذهب: قد خلا لتَخَلِّيه عن الدنيا ومفارقته لأهله وموضع أُلْفِه، وأصله من قولهم خلا الرجل إذا سار بالمكان الذي لا أنيس له فيه وانفرد من الناس.

[1]               مسلم: 983، الترمذي: 3758، أبو داوود: 1623، أحمد: 1/94

[2]               تفسير البيضاوي: 1/191

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *