العدد 338 -

السنة التاسعة والعشرون ربيع الأول 1436هـ – كانون الثاني 2015م

(عدالة الإسلام في توزيع الثروة)- حلقة 5 (الأحكام الشرعية العملية في توزيع الثروة -1-)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

(عدالة الإسلام في توزيع الثروة)- حلقة 5

(الأحكام الشرعية العملية في توزيع الثروة -1-)

حمد طبيب- بيت المقدس

تحدثنا في الحلقة السابقة بشكل مجمل عن الأحكام الشرعية التي عملت بشكل مؤثر ومباشر في موضوع توزيع الثروة وتفتيتها بين الناس، وسنتحدث في هذه الحلقة – بإذنه تعالى- بشيء من الشرح والبيان عن هذه الأحكام النورانية الربانية، وأول هذه الأحكام ؛هي الأحكام التي تمكن الفرد وتساعده من الانتفاع بالثروات؛  التي حبا الله عز وجل بها عباده بشكل شامل لجميع أفراد المجتمع.

فالله عز وجل خلق الناس جميعاً عباداً له، وساوى بينهم في الناحية الإنسانية،قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )، وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وخلق الثروات على وجه الأرض بما يكفي لجميع الناس، ويفيض عن ذلك أضعافاً مضاعفة، وجعل المجال مفتوحاً لكل إنسان كي ينتفع من هذه الثروات بما يحقق الاستقرار للفرد والكفاية في حاجاته، وذلك كي يتمكن من تحقيق معنى العبودية التي من أجلها خُلق؛ قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)

وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، وقال عليه السلام : «عَادِيُّ الأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» ، قَالَ : قُلْتُ : وَمَا يَعْنِي ، قَال: «تُقْطِعُونَهَا النَّاسَ».(كتاب الأموال – القاسم بن سلام )

فلا يجوز لفرد من أفراد الرعية أن يستحوذ على الثروة ويمنع باقي الناس منها، كما لا يجوز كذلك للدولة أن تستحوذ على هذه الثروات لنفسها وتمنع الناس من حيازتها والانتفاع بها ؛كما هو الحال في النظام الرأسمالي أو الاشتراكي .

يقول الأستاذ عبد الرحمن المالكي في كتاب (السياسة الاقتصادية المثلى): «…والإسلام يمكن كل فرد من أفراد الرعية من إشباع حاجاته الأساسية (المأكل والملبس والمسكن)، وجعل لكل فرد أن يملك من مصادر الاقتصاد الأربعة (الزراعة والصناعة والتجارة وجهد الإنسان) أكثر كمية يستطيعها، وأن يعمل للحصول عليها قدر المستطاع لإشباع هذه الحاجات الأساسية، ولتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية، فكانت إباحة الملكية والعمل فيها هي الأساس وهي الأصل …»

وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوزع المال من الغنائم على جميع المسلمين، دون تخصيصٍ أو استثناءٍ لأحد منهم إلا لسبب شرعي، وكان الخلفاء الراشدون يوزعون الأرض المفتوحة على المسلمين كي ينتفعوا منها ويعمروها، ولم تكن الدولة تستحوذ عليها وتحتكرها لنفسها، فقد روى (ابن القيم في زاد المعاد) في غنائم الطائف: «… ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة…»

ووزع عمر رضي الله عنه الأموال على المسلمين دون محاباة ولا تفضيل أحدٍ على أحدٍ -إلا لأمر شرعي- لا لجنس ولا لون ولا عشيرة ولا منصب-.. فقد ذكر المؤرخ البلاذري في كتاب (فتوح البلدان) قال: “عندما بدأ عمر رضي الله عنه بتسجيل أسماء الناس قال: بمن نبدأ؟، قال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل نبدأ ببني هاشم وبني المطلب، وفرض للعباس ثم لعلي رضي الله عنهما، ثم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدّم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لهم أعلى المخصصات، ثم أهل بدر، ثم الذين بعدهم، وعندما قرر راتباً لأسامة بن زيد أكبر من راتب ابنه عبد الله قال عبد الله: أسامة ليس أفضل مني، قال عمر: ولكن أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وفرض لكل مولود مئة درهم، فإذا ترعرع مئتي درهم، فإذا بلغ رشده زاد له في العطاء. ويقول «والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال!!..»”

وهذا الأمر _ أي فتح المجال أمام الناس ليحوزوا الثروات دون احتكار ولا منع، وفي نفس الوقت مساعدتهم في استغلالها- هذا الأمر يجعل الثروة مقسمة بين أيدي أفراد المجتمع بحيث ينال كل فرد منها نصيباً معيناً…والحقيقة أن النظم الأخرى البشرية، وخاصة النظام الرأسمالي لا يحقق هذه المزية السامية العادلة، بل على العكس من ذلك فانه يتسبب في الاحتكارات وتكدس الأموال بين أيدي فئة محدودة من الأغنياء ويحرم باقي أفراد المجتمع من هذه النعم الربانية  … فقد نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية 20/1/2014م تقريراً (لمنظمة أوكسفام) (أكبر المنظمات الخيرية الدولية في مجالي الإغاثة والتنمية)، حذرت فيه من تكدس الثروة في أيدي قلة من الأغنياء بينما تتسع هوة الفقر في العالم، وجاء في هذا التقرير: أن «1% من سكان العالم يمتلكون ما يقارب نصف ثرواته البالغ قدرها 110 تريليونات دولار ( أي 110 ألف مليار دولار)، وهي تساوي 65 ضعفاً عما يمتلكه «النصف الأفقر» من سكان العالم البالغ عددهم 7 مليار نسمة في الوقت الحالي…ولزيادة الإيضاح أشار التقرير إلى أن مجموعة من الأشخاص لا يزيد عددهم على 85 شخصاً فقط من أغنى أغنياء العالم، ويمكن جمعهم في حافلة واحدة يمتلكون 1,7 تريليون دولار، تعادل ثروة نصف سكان العالم الفقراء البالغ عددهم 3,5 مليار نسمة، وبين التقرير أن هؤلاء الأثرياء قاموا بتنمية ثرواتهم في 24 دولة خلال الثلاثين سنة الماضية».

ثانيا: تحديد الثروات التي يجوز حيازتها في المجتمع وبيان أنواعها  والأنواع التي تُمنع حيازتها، بشكل كامل مفصل.

   فالإسلام جاء بأحكامٍ مفصلة في كل أمر من أمور المال – كما ذكرنا – وذلك كأحكام الزكاة والغنائم وأحكام الأرض، وجاء بأحكام أخرى موجزة كخطوط عريضة ينضوي تحتها أفراد كثيرة ينطبق الوصف الشرعي المذكور فيها عليها وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام «الناس شركاء في ثلاثة؛ الماء والكلإ والنار»، رواه احمد.. فهذا الحكم يندرج تحته أحكامٌ كثيرة تتعلق بالمراعي والمياه ومصادر الطاقة بأنواعها. يقول الشيخ (عبد القديم زلوم) في كتاب (الأموال في دولة الخلافة): «)… ليس الأمر قاصراً على هذه الأعيان الثلاثة المذكورة في الحديث، بل يشمل كل ما يحقق فيه وصف كونه من مرافق الجماعة ، وضابط كونه من مرافق الجماعة كونه تتعلق به حاجة الجماعة ؛ أي تكون الجماعة لا تستغني عنه في حياتها اليومية ولو فقد لتفرقت الجماعة في جلبه..»

وهذا التحديد ليس معناه التحجيم للمنع وسد الطرق أمام الإنسان، كما يفهم البعض , إنما معناه أن الإسلام يفتح المجال إمام الإنسان لينتفع من هذه الثروات، وفي نفس الوقت يمنع آخرين من احتكارها وسلبها من أيدي الناس  .

فالإسلام حدد أن (الأرض وما عليها من مراعي وبحار وأنهار وأجواء وغازات وطاقات حرارية) هي لمنفعة الناس جميعاً، وليست حكراً على فرد أو مجموعة أفراد كما هو عند الرأسماليين، أو على الدولة كما هو عند الاشتراكيين،قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )، وقال عليه الصلاة والسلام «عَادِيُّ الأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ»، وقال: «الناس شركاء في ثلاثة؛ الماء والكلإ والنار» ؛ وعندما يعلم الإنسان أن الأرض قد خلقها الله لمنفعته، ووضع أحكاماً لتنظيم هذه المنفعة، فإنه يسعى لذلك ويتملكها وينتفع من هذه الملكية، وفي نفس الوقت فإن الراعي على الأمة( الحاكم) يمنع أي إنسان آخر من احتكارها، وعندما يعلم أنه يجوز للفرد أن يتملك المصنع فإنه يسعى لذلك ويتملك كل أنواع المصانع التي أجاز له الشرع تملكها , ويطالب بحقه هذا الذي أباحه الله تعالى .

فهذا التحديد- لما يجوز تملكه وما لا يجوز – له أكثر من فائدة في موضوع تفتيت الثروات ومن فوائده :

 1- منع الاحتكار لهذه الثروات العامة، من قبل أناس معينين، وبالتالي تتفتت بين أكبر عدد من الناس

 2-فتح المجال أمام الناس كي يتملكوا مما أباحه الله تعالى لهم من الثروات والأراضي والمصانع وغير ذلك من أدوات الكسب والعمل…

          3-التفصيل الكامل لكل أنواع الثروات التي يجوز تملكها أو الانتفاع بها دون استثناء واحدة منها، وفي نفس الوقت بيان الشارع لكل أنواع الثروة التي يمنع الفرد من حيازتها والانتفاع بها بأي نوع من أنواع التملك أو الانتفاع- هذا الأمر جعل المسلم يطرق كل الأبواب المباحة دون تردد ودون خوف.

ثالثاً: مساعدة الدولة وتشجيعها لأفراد المجتمع كي ينتفعوا بالثروات؛ سواء كان ذلك عن طريق إقطاع الأرض للناس لإعمارها أو استغلالها، أو عن طريق الإرشاد في إيجاد الصناعات وتطويرها، وأيضاً عن طريق مدهم بالأموال إن كان ذلك متاحاً لدى الدولة .

فالدولة هي الراعي لأفراد المجتمع، وتعمل كل ما من شانه مساعدتهم ورفع مستواهم الاقتصادي بما يعود بالنفع عليهم أولاً، وعلى باقي المجتمع ثانياً. قال عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» رواه البخاري.

وهذه الرعاية عامة ومطلقة في أي أمر تستطيعه الدولة مما فرضه الله عليها أو ندبه لها وذلك حسب قدرتها واستطاعتها، في أمور المال وغيره من أمور رعوية.

فالأموال في الدولة كثيرة وتفيض في الغالب (إذا أعطيت واستغلت بحقها) عن حاجات المجتمع الرعوية العامة والخاصة، فتقوم الدولة بالأعطيات والمنح لأفراد الرعية؛ فتعطي المحتاج، وتعطي من يريد العمل ولا يجد المال وتساعده على ذلك وترشده أيضاً لهذا الأمر.

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم – وكان معلماً وراعياً للمسلمين بالإسلام-  رجلاً كان قادراً على العمل (ذا مُرَّة سويٍّ ) أمره أن يبيع شيئاً من متاع بيته كي يشتري قدوماً، ثم أرشده إلى طريقة العمل والكسب، فقد أخرج أبو داود في سننه: «أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟، قال بلى؛ حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟، قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثاً؟، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدوماً فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال: له اذهب فاحتطب وبع ولا أرينًك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم؛ فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة؛ لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع». ويفهم من هذا الحديث أن الرجل لو لم يكن عنده شيء يبيعه لأعطاه الرسول عليه السلام من مال الزكاة أو من المال العام إن كان متوفراً كي يعمل ويكسب؛ لأن الكسب هو من الحاجات الأساسية، والأصل في الدولة أنها تعطي ما يسد هذا الباب، أو تعطي ما يساعد على سده وهو حاجات العمل والكسب وأدواتها.

فالدولة تعطي الأفراد المال، سواء أكان ذلك من أموال الزكاة إن كانوا من أهلها، أم من أموال العطايا لإنشاء المشاريع المنتجة، وتضع الخبراء لتقديم النصح والإرشاد لهؤلاء الناس حسب قدرة الدولة وطاقاتها المتاحة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *