العدد 418 -

السنة السادسة والثلاثون، ذو القعدة 1442هـ الموافق حزيران 2021م

مع القرآن الكريم

قال تعالى: (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦ وَءَاتَيۡنَٰهُم بَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِۖ فَمَا ٱخۡتَلَفُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ١٧ ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ إِنَّهُمۡ لَن يُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۖ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٩ هَٰذَا بَصَٰٓئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٢٠)

جاء في ظلال القرآن لسيد قطب (رحمه الله) في تفسير هذه الآيات (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ) :«فكان فيهم التوراة شريعة الله، وكان فيهم الحكم لإقامة الشريعة، وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب، وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة نسبيًا في التاريخ. (وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ) فكانت مملكتهم ونبواتهم في الأرض المقدسة، الطيبة، الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات. (وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ) وكان تفضيلهم على أهل زمانهم بطبيعة الحال؛ وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله، وإيتاءهم الكتاب والحكم والنبوة. (وَءَاتَيۡنَٰهُم بَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِۖ ) فكان ما أوتوه من الشريعة بيِّنًا حاسمًا فاصلًا، لا غموض فيه ولا لبس ولا عوج ولا انحراف؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف في هذا الشرع البيِّن كما وقع منهم؛ وما كان هذا عن غموض في الأمر، ولا كان عن جهل منهم بالصحيح من الحكم. (فَمَا ٱخۡتَلَفُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ) إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم، ونزاع وظلم، مع معرفة الحق والصواب. (بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ) وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض، وبطل استخلافهم، وأمرهم بعد ذلك إلى الله يوم القيامة. (إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ) ثم كتب الله الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد، يرد إلى شريعة الله استقامتها، وإلى قيادة السماء نصاعتها؛ ويحكِّم شريعة الله لا أهواء البشر في هذه القيادة. (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ) وهكذا يتمحض الأمر: فإما شريعة الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون. وليس هنالك من فرَض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلِّبة؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء. فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون! والله سبحانه يحذر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون، فهم لا يُغنون عنه من الله شيئًا. وهم يتولَّون بعضهم بعضًا، وهم لا يملكون أن يضروه شيئًا حين يتولى بعضهم بعضًا، لأن الله هو مولاه. (إِنَّهُمۡ لَن يُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۖ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ) وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعيِّن سبيل صاحب الدعوة وتحدِّده، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل. (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ إِنَّهُمۡ لَن يُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۖ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٩) إنها شريعة واحدة هي التي تستحقُّ هذا الوصف، وما عداها أهواء منبعها الجهل. وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها، ويدع الأهواء كلها. وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء. فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة. وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض. وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحًا عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه. ولكنهم أضعف من أن يؤذوه. والله ولي المتقين. وأين ولاية من ولاية؟ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضًا.

وجاء في تفسير الطبري لقوله تعالى: «(ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم جعلناك يا محمد من بعد الذي آتينا بني إسرائيل الذين وصفتُ لك صفتهم (عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ) يقول: على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا (فَٱتَّبِعۡهَا) يقول: فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك (وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ) يقول: ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله الذين لا يعرفون الحقّ من الباطل، فتعمل به، فتهلك إن عملت به.«

(ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ)… فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع  الشرائع. والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله لخلقه. فمعنى: جعلناك على شريعة من الأمر أي: على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. وقال ابن عباس: على شريعة أي: على هدى من الأمر. قتادة: الشريعة: الأمر والنهي والحدود والفرائض. مقاتل: البينة؛ لأنها طريق إلى الحق. الكلبي: السنة؛ لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. ابن زيد: الدين؛ لأنه طريق النجاة. قال ابن العربي: والأمر يرد في اللغة بمعنيين: أحدهما: بمعنى الشأن كقوله: فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد. والثاني: أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي. وكلاهما يصح أن يكون مرادًا ها هنا، وتقديره: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ١٢٣). ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح،  وإنما خالف بينهما في الفروع حسبما علمه سبحانه.

وجاء في تفسير ابن كثير: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ) أي: اتبع ما أوحي إليك من ربك، لا إله إلا هو، وأعرض عن المشركين.

وجاء في تفسير البغوي: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ)

(ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ) يا محمد (عَلَىٰ شَرِيعَةٖ) سنة وطريقة بعد موسى (مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ) من الدين (فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ) يعني مراد الكافرين، وذلك أنهم كانوا يقولون له: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك.

 وجاء في تفسير السعدي: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ)

أي: ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي (فَٱتَّبِعۡهَا) فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح (وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ) أي: الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *