العدد 417 -

السنة السادسة والثلاثون، شوال 1442هـ،الموافق أيار 2021م

مع القرآن الكريم: مسؤولية المسلمين الشرعية حيال غياب الحكم بالإسلام

 

من المعلوم الشرعي ضرورة بحيث لا يعذر مسلم بجهله أن الإسلام هو دين الله الخاتم، وإلى الناس أجمعين في حين أني كل دين من قبله كان لكل قوم خاصة. وإنه إذا كان لكل أمة رسولها فالإسلام هو لكل الأمم، وهو من أجل ذلك يقتضي من المسلمين وجوبًا نشره وجعله شاهدًا على الناس بالحق. ونحن نرى أن كلًّا من التوراة والإنجيل أنزل، وأمر أتباعه بالحكم به، ووصف من لا يحكم به بأنهم (الكافرون) و(الظالمون) و(الفاسقون) وحيث إن هذا الوصف لهم جاء عامًا في القرآن بقوله تعالى: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) (44) (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) (45) (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) (47) (المائدة: 44-45-47) فهو يشمل المسلمين في عدم الحكم بالشرع. ومن العجيب أن يكون ذلك غائبًا عن أذهان علماء المسلمين اليوم، فيتعامَون عنه وكأن ليس وراءه تكليف. فنرى أنهم يؤمنون بأن الإسلام دين كامل شامل وإلى قيام الساعة، ويستشهدون في خطبهم وأحاديثهم بحياة الرسول كحاكم وقائد جيش، ويتكلمون عن الجهاد، وعن الخلفاء الراشدين وعن الدولة الإسلامية في غابر الأيام… ولكن لا يسألون أنفسهم عن مسؤوليتهم الشرعية حيال غياب الحكم بالإسلام وتنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم، ولا عن منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين، وماذا يعني عــدم الـتـحـاكم إلى الدين في شؤون الحياة، والتي كان من أخطر وأبرز عواقبها ما حلَّ في بلاد المسلمين من فساد، وظلم، وضعف…..

إن أخطر ما يطرح من معاذير حول إهمال هذا الواجب الشرعي الذي لا يعلو عليه واجب شرعي آخر أنا وجدنا من يقول بوجوب طاعة ولي الأمر بما يحكم، وجعل الطاعة له مطلقة غير مقيدة في الشرع، ومنهم من يقول بأن الشرع إنما جاء لتحقيق مصالح العباد و(حيثما تكن المصلحة فثم شرع الله) وهذه الأحكام المتروكة للمسلمين أن يحددوا المصلحة فيها تشكل 90% من أحكام الشرع؛ فصارت، بناء على هذه المقولة، المصلحة مصدرًا أوحد للشريعة فيها. ومنهم من يفتي بجواز المشاركة في الانتخابات الوضعية وكأنه يسلم قيادة حياته المعيشية والسياسية إلى غير الإسلام. وهناك الصوفيون الذين نرى كيف أن مراكز الأبحاث الغربية تدعو الحكومات الغربية وبالتالي الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين لدفعهم إلى أن يكونوا في صدارة قيادة المسلمين.

ومن أجل ذلك رأينا أنه لا بد من استنهاض العلماء هؤلاء لفهم الدين على طريقة فهم الأوائل، وهي الطريقة الصحيحة، وجعل إقامة الدين مربوطًا لزومًا شرعيًا بإقامة دولة الخلافة الراشدة.

قال تعالى: (وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ) (المائدة: 48).

جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية: لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه (عليه السلام) ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتِّباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتِّباع ما فيه، كما تقدم بيانه،كذلك شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال: (وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ) أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله (مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ) أي من الكتب المتقدِّمة المتضمِّنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتَّبعوا شرائع الله، وصدَّقوا رسل الله، كما قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ * وَيَقُولُونَ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا) (الإسراء: 107، 108) أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد عليه السلام (لَمَفۡعُولٗا) أي: لكائنًا لا محالة، ولا بد.

وقوله: (وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ) فبعدما ذكر عدة تفاسير لها، قال: وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم «المهيمن» يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفَّل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ) (الحجر: 9).

وقوله: (فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ) أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عربهم وعجمهم، أميِّهم وكتابيِّهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرَّره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.

وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيَّرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم فردَّهم إلى أحكامهم، فنزلت (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وقوله: (وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ) أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: (وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ) أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.

وقوله: (لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ) فقد رجَّح في تفسير (شِرۡعَةٗ) «شريعة»، وفي تفسير (وَمِنۡهَاجٗاۚ) «فهو الطريق الواضح السهل» ثم قال: هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلِفة في الأحكام، المتَّفِقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلَّات، ديننا واحد» يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ) (الأنبياء: 25) وقال تعالى: (وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ) (النحل: 36) وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا ثم يحلُّ في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. وعن قتادة: قوله: (لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ): هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل… هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها؛ ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى: (وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ) أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ ) يعني من الكتاب. ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: (فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ) وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله. ثم قال تعالى: (إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ) أي معادكم أيها الناس، ومصيركم إليه يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ) أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم ، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *