العدد 413 -

السنة الخامسة والثلاثون – جمادى الثانية 1442هـ – كانون الثاني 2021م

الحضارة الرأسمالية وفساد نظرتها الداروينية للحياة إفساد النظرة الداروينية للأنظمة الرأسمالية(3)

حتى نلمس لمس اليد فشل وفساد الأنظمة الرأسمالية المختلفة التي انبثقت عن عقيدة العلمانية التي استندت إلى نظرية الحق الطبيعي والتطوَّر، فإننا يكفي أن نربط الأسس والقواعد التي قام عليها أي نظام من الأنظمة الرأسمالية بالأسس الفكرية التي قامت عليها النظرة الداروينية الفاسدة التي انتجت العنصرية والنازية، وأشعلت الحروب التي سفكت دماء ملايين البشر بناء على تبريرات فاسدة بُنيت على هذه النظرة للحياة.

فإذا كانت الداروينية الاجتماعية -كما يدعي الغرب- هي نظرة فاسدة وغير إنسانية، وأنها نظرة خطيرة على البشر ويجب نبذها ومحاربة الداعين لها، كان على الغرب أن يكون منسجمًا مع نفسه وأن لا يناقضها، حين تبيِّن له أن جذور هذه النظرة الداروينية الاجتماعية موجودة لديه فعلًا في أنظمة أخرى انبثقت عن هذه النظرة الداروينية للحياة، وقامت على نفس الأسس الفاسدة والخطيرة للداروينية الاجتماعية، فعندها كان واجبًا عليه إعادة النظر في الأسس التي أنبتت هذه النبتة الخبيثة، ونبذ جميع الأفكار والأنظمة التي انبثقت أو بُنِيت على هذا الفساد.

وحيث هم لم يفعلوا ما كان مفترضًا بهم فعله، كان علينا نحن أن نكشف لهم ولغيرهم بأن أصل الفساد والخلل الذي أوقعتهم فيه فكرة الداروينية الاجتماعية والسياسية يكمن في نظرية الحق الطبيعي والتطور، فهذه النظرية هي الجذر الذي أنتج كل المفاسد كفكرة الحريات والديمقراطية، والتي أنتجت مع فكرة التطوُّر نظرية داروين التي انبثق عنها -بشكل طبيعي- فكرة الداروينية الاجتماعية، والتي بدورها أنتجت العنصرية والنازية والفاشية والقومية، ثم ما نجم عنها من حروب عالمية طاحنة دمَّرت أوروبا وقتلت الملايين من البشر، وقد لمستم أيها الأوروبيون بأيديكم أن أحد أسبابها كانت الحركات النازية والفاشية. ومع ذلك ما زلتم تتبنَّون هذه النظرة الداروينية للحياة وتتمسكون بنظرية داروين وتصرون على صحتها باعتبارها علمًا طبيعيًا، وترفضون أي تفسير من نفس علم الأحياء مخالف لها لنشوء الحياة، حتى ولو نادى به بعض علمائكم كفكرة التصميم الذكي.

ولذلك تكمن خطورة الأنظمة الرأسمالية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها في الأساس والأصل الذي قامت عليه وهو فكرة الحق الطبيعي، فإذا بقي هذا الفساد المتأصِّل في هذا المبدأ والناشيء عن قاعدة فكرية فاسدة، وعن وجهة نظر نفعية عن الحياة وعن الحريات، فإنه لا مجال لإصلاح هذا الفساد بالترقيع وشيء من التغيير فيه، بل لا بد من استئصال هذا الفساد من جذوره، وتبنِّي فكر آخر مكانه يكون صالحًا في أساسه وقاعدته الفكرية وما ينبثق عنه من أنظمة، فيؤدي إلى سعادة الإنسان ورفاهيته.

أما دعوى ضرورة مواكبة الأنظمة الرأسمالية لتغيرات الواقع، تحت اسم التطور والتحديث والتحضُّر، فهو تبرير لعجزها وفشلها عن حل مشكلات الإنسان، وليس دليلًا على أنها ناحجة وتتطور لتواكب العصر الحديث. وعليه يجب النظر إلى دعوى التطور والتحديث كما ينظر إلى الفساد والفشل ذاته، ويجب تغيير نظرة الناس إلى فساد معيار التطور كدليل على المرونة والتأقلم وأن ذلك هو دليل على فشل النظام نفسه وعدم صلاحيته لعلاج المشكلات.

وسنقوم بتبيان أن أهم الأنظمة الرأسمالية كالنظام الاقتصادي ونظام الحكم الديمقراطي والنظام الاجتماعي الليبرالي وغيرها من الأنظمة الرأسمالية، أنها بنيت وانطلقت من نفس أسس الداروينية الاجتماعية، فإذا ثبت هذا، وهو بلا شك ثابت، كانت هذه الأنظمة فاسدة وخطيرة على البشرية، وأن معالجتها للمشكلات يؤدي إلى الفساد والإجحاف والإجرام، وبالتالي وجب على الغرب -إن كان صادقًا مع نفسه- نبذها ومحاربتها بلا هوادة، ووجب على كل نفس بشرية سويَّة غير ملوثة بالفساد نبذ هذه الأنظمة الرأسمالية ومحاربة نشرها وتطبيقها في العالم، وهذا الأمر يكون في حق المسلمين -من باب أولى- أوجب.

ولكن نكتفي في هذه المقالة برصد والتقاط أهم الأنظمة والأفكار في كل نظام من هذه الأنظمة فقط، وبالتالي فهو ليس استعراضًا شاملًا لكل نظام، بل هو محاولة للتركيز على ارتباط كل معالجة وكل فكرة أساسية في كل نظام بالنظرة الداروينية للحياة، ومن ثم بيان فسادها وزيفها وإخفاقها في معالجة المشاكل الإنسانية التي جاءت لتنظيمها من زاوية واقعها وآثار تطبيقاتها في الحياة. وسنستعرض أهم الأنظمة الرأسمالية المنبثقة عن العلمانية وعن النظرة الداروينية للحياة، وهي الاقتصاد، والحكم، والاجتماع.

فساد النظام الاقتصادي الرأسمالي:

تعتبر النظرية الاقتصادية التي نادى بها آدم سميث من أهم النظريات في المبدأ الرأسمالي، فهي أعظم وأوسع ركن يقوم عليه المبدأ الرأسمالي، وتعتبر أهم نظرية في ما يسمى بالاقتصاد السياسي أو اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر. وإذا تبيَّن فسادها فيكون الركن الأعظم في الرأسمالية قد انهدم.

فساد تعريف المشكلة الاقتصادية

تزعم النظرية الاقتصادية الرأسمالية التي تبلورت على يد آدم سميث أن أساس المشكلة الاقتصادية هو كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها، أو الندرة النسبية للسلع والخدمات، ولا بد من قواعد تقرر كيفية توزيع الموارد المحدودة على الحاجات غير المحدودة. إذًا، يلاحظ أن النظرية الرأسمالية الكلاسيكية قد حدَّدت المشكلة بأنها بين أمرين هما: الموارد أو الثروات المادية، وبين الحاجات المادية للإنسان، وهي ما يسمُّونها بالندرة النسبية. وفكرة الندرة النسبية تنطلق من مسلَّمة رأسمالية عميقة الجذور هي أن الحاجات الإنسانية تزيد بمتوالية هندسية، وأن زيادة الثروات (السلع والخدمات) تكون حسب متوالية حسابية عددية. وهنا تكمن المشكلة عندهم، ولا بد من سدِّها بواسطة زيادة إنتاج الثروات.

وتدَّعي هذه النظرية أنه لا حاجة لتدخُّل الدولة في توزيع الثروة؛ لأن الأصل هو حرية الملكية والحرية الشخصية، وأن التوزيع يحصل بشكل طبيعي حسب قوانين السوق الطبيعية (وهو في الاقتصاد قانون العرض والطلب) وهي تعدل نفسها بطريقة تلقائية ذاتية ولا حاجة لتدخُّل الدولة في الاقتصاد، بل السوق الحرة أو ميكانيكية الثمن، كفيلة بذلك وهي تسمى «باليد الخفية» التي تحدث التوازن والتوزيع الأمثل والسعر العادل.

وهذا بالضبط هو نفس ما حدَّدوه من مشكلة الصراع بين الكائنات الحية في الطبيعة عند داروين وعند مالثوس في مبدأ السكان، فالمشكلة الاقتصادية عند آدم سميث والرأسماليين هي بالضبط نفس التعريف الدارويني لها؛ وذلك لأن النظرة الداروينية ومنهجيتها في التفكير في القضايا وتشخيص المشاكل وحلولها واحدة، وهي نفسها موجودة بأشكال مختلفة في الأفكار والأنظمة الرأسمالية عمومًا، مع شيء من الخصوصية في كل نظام.

فساد حل المشكلة الاقتصادية بزيادة الإنتاج

«النظام الرأسمالي… يتصور المشكلة الاقتصادية تصورًا مقلوبًا، فبدل أن ينظر إليها بأنها مشكلة مجتمع أي مشكلة علاقات، مشكلة توزيع الثروة على الناس، جعلها مشكلة إنتاج، وترك الحرية في الملك وفي العمل لإنتاج الثروة وحيازتها؛ وبذلك لم يعالج المشكلة بل ركَّزها على أساس الظلم وانعدام القيم الرفيعة… وبدل أن يعالج الفقر والحرمان للأفراد، ركَّز الفقر والحرمان في المجتمع… وهؤلاء سيظلُّون حتمًا فقراء ما دام أساس النظام الاقتصادي زيادة الدخل الأهلي»[1]..

وعليه حدَّد الرأسماليون المشكلة الاقتصادية بأنها هي الحاجات وليس الإنسان، أي هي توفير الموارد لإشباع الحاجات وليس إشباع حاجات كل فرد، فأصبح زيادة الإنتاج هو العلاج للمشكلة الاقتصادية، وليس عيش كل فرد من الأفراد في المجتمع.

إذًا، نظر الرأسماليون لمفهوم الندرة النسبية وهي قلة وسائل إشباع الحاجات، وخرجوا بحلٍّ لها وهو زيادة الثروة، هذا الحلُّ يحوي مغالطة واضحة، وإن كان ظاهريًا يزيد من وسائل الإشباع إجمالًا، ولكنه في الحقيقة لا يحلُّ المشكلة الاقتصادية في المجتمع، ألا وهي توزيع الثروة على أفراد المجتمع، أي علاج فقر الأفراد. فزيادة الدخل الأهلي لا يعالج المشكلة؛ لأن ذلك قد يوصل إلى أن يُحرَم من تملُّك الثروة الغالبية من أفراد المجتمع وأن يملكها القلة منهم فقط، فتصبح الثروة متداولة بين أيدي الأغنياء حصرًا، فيحصل الخلل وتتركز هذه الثروة في أيدي القلة، فلا تتحقق العدالة في توزيع الثروة، حتى بالحد الأدنى، بين أفراد المجتمع.

إن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر أن جهاز الثمن كفيل بتوزيع الثروة في المجتمع، وسماه باليد الخفية، إن فكرة اليد الخفية هذه، والتي ترفض تدخل الدولة في الاقتصاد، ويعتبرون أنها كفيلة بايجاد التوازن في الأسواق والنمو الاقتصادي، تماثل تمامًا ما ذكره داروين من أن الأنواع الحية المختلفة وجدت من غير تدخل خالق بل بفعل قوانين الطبيعة، وأن هذه القوانين كفيلة بإحداث التطور والارتقاء تلقائيًا.

ولكن حقائق التاريخ قد أثبتت فشل جهاز الثمن في علاج الأزمات الاقتصادية الكبرى، واضطرت الدولة للتدخل في حل الأزمات الاقتصادية، كما حصل في أمريكا أثناء الكساد العظيم سنة 1929م وما تلاها، وكان الحل بضرورة تدخل الدولة بناء على توصيات المفكر الاقتصادي الإنكليزي كينز الذي قال: لا بد من وقف سير الرأسمالية نحو قبرها المحتوم، ولا بد من حماية الرأسمالية من قتل نفسها بتدخل الدولة بعد فشل سياسات السوق واليد الخفية في توازن الأسواق وتنميتها؛ ولذلك ففكرة عدم تدخل الدولة في الاقتصاد هي فكرة فاشلة، وقد ثبت فشلها مرارًا في التاريخ، ولكنهم يعتبرونها فكرة أساسية في اقتصاد السوق، وهم بعد انقشاع الأزمات يعودون لها دومًا؛ لأنها مفهوم مؤسس للنظرة الرأسمالية الداروينية للحياة.

الاستعمار من دوافع الرأسمالية

أثبت التاريخ أن قواعد النظام الاقتصادي الرأسمالي كانت دافعة للاستعمار ولاستغلال الدول والشعوب والتحكم بها، ثم السعي لإفقارها وزيادة معاناتها بالحروب والويلات والجوع والصراعات الداخلية التي تذكيها الدول الاستعمارية، وكذلك من خلال منع الاستعمار الدول الأخرى من التصنيع والتطور وإبقائها دولًا غير مصنعة للآلات والمنتوجات الصناعية الاستراتيجية، وأبقاها فقط كمورد للمواد الخام وكسوق لسلع الدول الرأسمالية.

يقول حزب التحرير[2]: ثم إن جعل جهاز الثمن هو الذي يقيِّد التوزيع قد جعل الاحتكارات الرأسمالية في الغرب تخرج خارج بلادها تبحث عن أسواق حتى تحصل منها على المواد الخام، وعلى الأسواق لبيع مصنوعاتها، وما يعانيه العالم من استعمار ومناطق نفوذ وغزو اقتصادي، إن هو إلا نتيجة هذه الشركات الاحتكارية، ونتيجة جعل الثمن هو الذي يوزع الثروة، فتجمع ثروات العالم على هذا الأساس لتوضع في أيدي الاحتكارات الرأسمالية، وذلك من جراء سوء القواعد التي نص عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي.

هذا جزء من النتائج الفظيعة التي شاهد العالم فيها الجشع الرأسمالي بشكل سافر، وبان له فساد دعوة الغرب للحريات ولحقوق الإنسان، وخصوصًا الحرية الاقتصادية والسياسية؛ لأن الرأسمالية تجعل هذه الحريات حكرًا عليها داخل بلادها فيما تقوم باستعباد العالم سياسيًا واقتصاديًا، وتمنع انفكاكه عنها بالألاعيب والفخاخ السياسية وبقوة الحديد والنار… إذًا، نلاحظ بوضوح أن الدول الرأسمالية تطبِّق في صراعها مع الشعوب نظرية التطوُّر الدارويني تمامًا، وتعتبر نفسها بأنها هي الأكثر صلاحًا والأكثر قوة، وبالتالي فهي التي تستحق البقاء ويستحق غيرها الفناء والجوع والعبودية.

لا تنمية ولا هناءة في ظل الرأسمالية

تستخدم الرأسمالية هذه النظرة الداروينية للحياة وتطبِّقها على أفراد المجتمعات حتى في داخل بلادها، فهي تنظر للفرد باعتباره منتجًا ومستهلكًا، وتكون حياته «مجدية اقتصاديًا» ما دام يقوم بذلك وإلا فعليه الرحيل، وهذا ما نادى به رئيس وزراء بريطانيا وغيره في تعاملهم مع وباء الكورونا حيث نادوا بفكرة «مناعة القطيع» أي البقاء للأقوى والأصلح، ومعنى ذلك أن كبار السنِّ والمرضى والعجزة يجب التخلص منهم حسب هذه النظرة الداروينية، فكيف يختلف هذا الكلام عمَّا قاله هتلر وفعله بهؤلاء.

هذه هي خطورة النظام الاقتصادي الرأسمالي على العالم وما جرَّه عليه من ويلات وفظائع لن تنسى، وعليه يلزم فضح المبدأ الرأسمالي كله والنخبة التي تحتكر الثروات وتتحكم في الغير، وتحرص على بقاء النظام الرأسمالي لتبقى مصالحهم مضمونة، فيما باقي الناس يعانون من الجوع والفقر؛ ولكن هذا النظام الفاسد يترك متنفسًا لبعض الأفراد ليصبحوا شريحة «طبقة» وسطى، تقوم بتشغيل الاقتصاد ودفع الضرائب لتبقى مصالح الأغنياء محققة، فيكونون عبيدًا مسخَّرين لخدمة الأغنياء، وهذا التنفيس هو إجراء يطيل في عمر النظام الرأسمالي.

إن النظام الاقتصادي الرأسمالي لا يحقق رفاهية ولا تنمية حقيقية لمجموع الناس، والسبب أن معظم ما ينتجه المجتمع من ثروات يتركز في أيدي القلة من الأغنياء، ويبقي القليل فقط منه لباقي أفراد المجتمع، والتنمية والرفاهية لا تحصل إلا برفع مستوى مجموع الناس اقتصاديًا ويمكِّنهم من الانتفاع بالثروات بشكل عادل، وهذا أمر لا يتحقَّق بحسب قواعد الاقتصاد الرأسمالي. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذه القضية في توزيع الثروة بين الناس بالنص على علة حكم توزيع الغنائم، فيقول الله سبحانه وتعالى (كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ). وسيأتي اليوم الذي يقتصُّ المسلمون من هذه الدول الاستعمارية الرأسمالية بإذن الله.

فساد الترقيعات الاقتصادية ودعوى التطور:

بسبب المظالم الشديدة التي نتجت عن تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي وما جرَّه من ويلات على الناس، كان هذا داعيًا إلى ظهور النظريات الاشتراكية المختلفة وظهور ما يسمى بالعدالة الاجتماعية على أيدي الرأسماليين أنفسهم في القرن التاسع عشر؛ وذلك بهدف ترقيع النظام الرأسمالي وتخفيف ما أنزله بالناس من إجحاف وويلات. وهذا الترقيع هو التفاف على المشكلة وليس علاجًا لها؛ لأن الخلل قد حصل في أصل فهم واقع المشكلة الاقتصادية في المجتمع كما حصل الخلل في كيفية حلها.

وحين ظهر فساد هذا النظام الاقتصادي الرأسمالي بعد تطبيقه بعقود، ظهرت الاشتراكية الماركسية كنظام اقتصادي وسياسي بديل للرأسمالية من داخل أوروبا نفسها، ومن بريطانيا بالتحديد سنة 1848م. وكان هذا هو العلامة الفارقة على تأزُّم هذا النظام، ثم قامت دولة شيوعية تحمل هذا المبدأ الاشتراكي الجديد كنظام وحضارة عالمية على يد لينين سنة 1917م، فكان هذا هو الإعلان الحقيقي عن وجود البديل للحضارة الرأسمالية الفاسدة؛ ولكن هذا المبدأ الشيوعي الجديد سرعان ما ظهر فساده وفشله أيضًا في أوروبا الشرقية وروسيا، ثم انهار في نهاية الثمانينات من القرن العشرين.

يذكر حزب التحرير [3] أنه جرت محاولات لترقيع النظام الاقتصادي الرأسمالي بجعل الحق للدولة في التدخل لتحديد أثمان السلع في ظروف خاصة؛ لحماية الاقتصاد الأهلي وحماية المستهلكين ولتقليل استهلاك بعض السلع، والحد من سلطة المحتكرين، وجعلوا في تنظيم الإنتاج مشروعات عامة تتولاها الدولة؛ إلا أن هذه الترقيعات وأمثالها تناقض أساس النظام الاقتصادي أي الحرية الاقتصادية، فهي تكون فقط في أحوال وظروف معينة… ومع ذلك فحتى في هذه الظروف والأحوال، لا تجعل توزيع الثروة على الأفراد محقِّقًا إشباع جميع الحاجات لجميع الأفراد إشباعًا كليَّا؛ وبذلك يبقى سوء التوزيع الذي قام على أساس حرية الملكية وعلى أساس جعل الثمن جهاز التوزيع الوحيد للثروة، مسيطرًا على كل مجتمع يطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي.

وبما أن الخلل في النظام الاقتصادي واضح ولا يمكنهم إخفاؤه، من حيث المؤشرات الاقتصادية كالنسب المئوية للفقراء والعاطلين عن العمل ونسب الجوعى والمشردين وغيرها من المؤشرات، فهم يقومون بأعمال ترقيعية لهذا النظام، ويسمون ذلك باسم لطيف وهو التطوُّر الذاتي. ويعتبرون أن النظام الاقتصادي يعالج الخلل ذاتيًا، ويتطور ذاتيًا عبر الزمن ليواكب العصر والمشاكل الجديدة التي تحصل فيه.

ولكن ما حصل في أوروبا من تطعيم للاقتصاد الرأسمالي بالأفكار الاشتراكية وبالعدالة الاجتماعية، هو في الحقيقة ترقيع يعبر عن الفساد والفشل في النظام بكليته وفي الأفكار التأسيسية التي قام عليها. وأما محاولة إخفاء هذا الفساد والفشل تحت مفهوم التطوُّر فهي محاولة تهرُّب من هذا الفشل، ويراد منها التهرب من الاعتراف بالخطيئة والجريمة التي تحصل لغالبية الناس، وتهرب من مراجعة المفهوم المؤسس، أو تهرب من محاسبة أساس المفهوم الذي أوصل إلى هذا الخلل الفظيع.

الاقتصاد المالي الوهمي

انتقل الاقتصاد الرأسمالي بدعوى التطور من التصنيع الحقيقي إلى مرحلة الاقتصاد المالي الوهمي، وهو الذي يقوم على المضاربات المالية والبورصات، فقد ابتدع الرأسماليون اقتصادًا ماليًّا موازيًا للاقتصاد الحقيقي يتم فيه تنمية المال بالمال من خلال تداول أسهم الشركات والمصانع على يد مضاربين طفيليين لا علاقة لهم بالاقتصاد الحقيقي، فهم يتداولون التجارة بالأسهم، فيما يشبه المقامرة، ليحقِّقوا أرباحًا مالية طائلة تفوق أرباح الشركات والمصانع نفسها؛ لأن أهم قيمة عند هؤلاء هي تعظيم الربح والمنفعة، لا تقدم الاقتصاد ولا رفاهية المجتمع. ثم انتقل هذا النوع من الاقتصاد المالي إلى مرحلة جديدة في أيام الرئيس ريغان في أمريكا سنة 1984م، حين فكَّ الارتباط بين نمو الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي، فأطلق له العنان على الغارب ليعمل دون ضوابط من سوق الاقتصاد الحقيقي.

وقد انتشرت البورصات وتعولمت وأضحت تتحكم في اقتصاد العالم وفي جميع المواد الخام والبضائع والذهب والعملات، وقد بلغت قيمة الأموال المتداوَلة في هذه الأسواق المالية أضعاف الأموال الحقيقية الموجودة في الشركات والمصانع مما أوجد ما يسمى بالفقاعات الاقتصادية، والتي تنفجر لأبسط الأسباب وفي أوقات متقاربة نتيجة بعض الظروف الدولية أو بعض الإشاعات، فانهارت بسببها اقتصادات دول شرق آسيا (النمور) سنة 1987م.

ثم كان الانهيار المالي الأعظم لهذا الاقتصاد المالي الوهمي سنة 2008م في أمريكا، والذي ما زالت تداعياته قائمة حتى الآن. فدول رأسمالية حقيقية مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال شهدت أزمات حادة، وشهدت اليونان انهيارًا اقتصاديًا وثورة شعبية بعد هذه الأزمة، والدولة التي دعمت اليونان وأقالتها من عثرتها كانت ألمانيا. ويتوقع الكثير من الخبراء أن تكون هذه السنة 2020م هي سنة الانهيار العظيم لهذا الاقتصاد المالي الوهمي وما نتج عنه من مشتقات. وما نشاهده الآن من انهيارات في الأسواق المالية الرأسمالية في زمن وباء الكورونا هو أحدث هذه الانهيارات الناتجة عن الاقتصاد الوهمي الفاسد.

النظام الرأسمالي نظام إدارة الأزمات

النظام الرأسمالي هو نظام أزمات دورية، ففي كل عقد تقريبًا تضرب أركانه الأزمات الاقتصادية، وقد كان أقربها الأزمة المالية سنة 2008م، والتي تعرف بأزمة الرهن العقاري. فالذي يحصل بسبب الإجراءات الاقتصادية الفاسدة التي تحاول فيها منظومة الفساد الرأسمالي علاج المشاكل الاقتصادية هو في الحقيقة تأجيل للأزمات الاقتصادية وترحيلها إلى المستقبل، أو تصدير أزماتهم لغيرهم من الدول والشعوب، أي تحميل الغير وزر وفاتورة فسادهم، فلا يوجد عندهم حل حقيقي للأزمات وفق قواعدهم الاقتصادية ووفق طريقة تفكيرهم الفاسدة التي تقوم على النظرة الداروينية للحياة. وهنا يكمن لبُّ المشكلة المستعصية على الحل عندهم.

إذًا، يلاحظ بأن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعاني من متوالية من الأزمات الاقتصادية.والإشكالية عند الرأسمالية أن حل أية أزمة يؤدي إلى تأزُّم في جوانب اقتصادية وإنسانية أخرى، فإذا حلُّوا مشكلة البطالة وقعوا في مشكلة تضخُّم، وإذا حاولوا حل مشكلة التضخُّم وقعوا في أزمة ارتفاع أسعار، فكلما حاولوا حل مشكلة أنتج هذا الحل مشكلة أخرى، وهكذا دواليك، فيخرجون من أزمة ويقعون في أخرى أكبر منها، فيدورون بين مجموعة حلول اقتصادية متعارضة،كل أزمة منها تولِّد أزمة أو أزمات أخرى.

والرأسماليون يدركون ذلك ومخرجهم في العادة هو السباق مع الزمن وترحيل هذه الأزمات إلى المستقبل، بالاستدانة من الثروات الافتراضية للأجيال القادمة، مثل المدين الذي يستدين أموالًا زائدة بربًا مضاعف، على أمل السداد في المستقبل؛ ولكن عندما تستفحل أزمة الديون هذه ويفقد دائنه الثقة فيه عندها تتوقف عجلة الاستدانة، فتحدث أزمة كبيرة، فيحاول حلها على حساب أمور أخرى، كبيع القطاع العام للأجانب تحت اسم الخصخصة والشريك الاستراتيجي. وهكذا دواليك.

ولا تكسر هذه الدائرة المفرغة إلا بأن تحدث مخارج ومتنفسات يهرب منها الفاسدون من مواجهة الحقيقة أمام الناس، أو تحدث ثورة تطيح بالنخبة الفاسدة لتأتي نخبة جديدة من أحزاب المعارضة للحكم، لتقوم بنفس الدور وتقع في نفس الأزمات، وما أزمة لبنان الاقتصادية -هذه الأيام- عنكم ببعيد، ولذلك فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يقوم فقط بإدارة الأزمات الاقتصادية التي تواجهه، ولا يملك حلًا ناجعًا لهذه الأزمات، وهذا أبرز أوجه فساده.

ولكن وبالنظر إلى الهوة الواسعة ما بين الاقتصاد المالي الوهمي والاقتصاد الحقيقي، فإن أي هزة للاقتصاد الحقيقي لسبب من الأسباب تؤدي إلى تهاوي في البورصات وسوق الأسهم، وبالتالي انهيار في الاقتصاد المالي الوهمي؛ فتتبخر الأموال وتذهب مداخيل الناس المساهمين، والحل عندهم في العادة هو ضخ كمية أخرى من النقود -رقميًا – في الأسواق، وهذه مشكلة، لأن كثرة المال تؤدي إلى التضخم المالي وتؤدي إلى كساد وانهيار في كثير من الشركات، ويحتاجون وقتًا لمعالجة هذا الكساد أو قد يشعلون حروبًا كما حصل في الحرب العالمية الثانية بعد الكساد العظيم الذي بدأ في 1929م، وهذا إفساد رأسمالي عريض في الأرض. مستقبلًا لن يُشبِع جشع الرأسماليين الاحتكاريين ما يكسبون من أموال وأرباح، بل سيبقى هؤلاء في سباق مع الزمن لترحيل المشاكل الاقتصادية والمالية إلى المستقبل، وسيتفنُّنون في اختراع اقتصادات ومشتقات مالية جديدة يضحكون بها على الناس، تحت مسمى التطوُّر والحداثة ليأكلوا أموال الناس بالباطل.

وسيبقى هذا الفساد الرأسمالي ما دامت أسس حضارتها ونظرتها الداروينية وأنظمتها قائمة ويتمسكون بها، وهم يقومون بالتعامل مع هذا الفساد بالترقيعات والهروب للمستقبل تحت اسم التطوُّر، فمثلهم كمثل رجل مريض بأمراض مزمنة كالسكَّري أو الضغط، وهو يحاول معالجة آثار هذه الأمراض والتعايش معها، ولا يوجد عنده علاج لها، وإذا تفاقمت هذه الأمراض فقد تصل به أحيانًا إلى الجلطة والموت. وهكذا هو النظام الرأسمالي المريض بالأزمات المزمنة، والتي تكون نهايتها الانهيار الاقتصادي أو السياسي في هذه الدول.

[1]لشيخ الامام تقي الدين النبهاني رحمه الله، كتاب السياسة الاقتصادية المثلى،  1963، ص: 19.

 

[2] الامام تقي الدين النبهاني، النظام الاقتصادي في الاسلام- مقدمة الكتاب

 

[3]مقدمة كتاب النظام الاقتصادي في الاسلام- تقي الدين النبهاني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *