العدد 411 -

السنة الخامسة والثلاثون – ربيع الثاني 1442هـ – تشرين الثاني 2020م

من حدائق الخلفاء الراشدين: أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه مِثال الخلفاء الراشدين الأوَّل

إن الأمة الإسلامية مرَّت من قبل بظروف وأوضاع شديدة لم تقلَّ معاناتها وخطورتها عما تعانيه اليوم، ولقد صاحبت الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الأوضاع الشديدة القاسية ما تنوء بحمله الجبال في كل مراحل دعوته، واستمرت في التعاقب مع صحابته الكرام، وظهرت في أخطر وجوهها في الفترة الأولى من تولِّي الصدِّيق لمنصب الخلافة، ولا غرو في ذلك، إذ على المسلمين أن يعلموا أن ساحة الصراع بين الحق والباطل لا تهدأ، ولا يجوز لها أن تهدأ حتى تقوم الساعة… فالأحداث التي حدثت أيام أبي بكر دلَّت بشكل مبكر على أن الخلافة تحلُّ مباشرة بعد موقع النبوة في القيام بأمر الإسلام والمسلمين، ولا يمكن تجاهل هذا الموقع ولا السير في الحياة بدونه. ولا غرو في أن يصفها الأوَّلون، وكما هو واقعها في الإسلام، أنها درع الإسلام الواقي وحصنه الحصين، بها يُعَزُّ دين الله وأهله، ويُذَّلُّ الكفرُ وأهله، بها يطبَّق الإسلام، وبها تُنشر دعوته… والخليفة كذلك يأتي دوره في الأهمية بعد دور رسول الله في إقامة الحق والعدل بين الناس، ورعاية مصالح المسلمين، وصون حرماتهم، وجمع شتاتهم، وحفظ بيضتهم. فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك لنا من يخلفه، فعن أَبي هريرةَ قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلُوا اللَّه الَّذِي لَكُم، فَإنَّ اللَّه سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم” متفقٌ عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به».

فما أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظهر أهمية هذا  المنصب في الإسلام، والذي لم يكن الإسلام ليستمر بدونه؛ لذلك كان هذا المنصب بحق هو منصب الخليفة لرسول الله، ويجب أن لا يُفقد من حياة المسلمين، ولا أن يُتهاون في ذلك، وإلا فإن إثم تعطيله سيعم المسلمين، وسينالهم إثم ما تعطَّل بتعطيله من الأحكام. وما أكثرها! ولا يمكن أن يغطي إثم القعود عن إقامتها عبادة المتعبدين، ولا صيام الصائمين، وهذا ما هو حاصل اليوم… نعم، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واختيار أبي بكر أول خليفة في الإسلام من بعده، مرَّت على المسلمين أوضاع خطيرة، كاد الإسلام أن يذهب لولا حفظ الله وهدايته بثبات أبي بكر على الموقف الحق. حدَّث البيهقي عن أبي هريرة قال: «والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة».

لقد كان للخليفة الأوَّل مواقف تبين أهمية هذا المنصب في الإسلام في حفظ الدولة والأمة والسير بها نحو مرضاة الله في إقامة الدين، وتبيِّن ثمرة ما أعدَّه الرسول صلى الله عليه وسلم من الرجال الذين حملوا الأمانة الثقيلة من بعده، وكان أوَّلهم في هذه التربية والإعداد هو أبو بكر الصِّديق، ثاني اثني الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار، هذا الصحابي الذي ما إن جلس على كرسي القيادة، حتى دهمت الدولةَ الفتية ودينَها داهمة الردة! فبعض القبائل رفضت أداء الزكاة، والزكاة ركن من أركان الإسلام لا يجوز التديُّن إلا بها، وبعضها نقض عهده مع الإسلام والمسلمين كلية، وبعضها الآخر رفض الانصياع للقيادة الجديدة. ولم يبقَ للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، ووصل الحال بالمسلمين وبدولتهم الفتية إلى حال لم يكن ليتوقعَها أحد أن تحدث بهذه السرعة، ولا عجب في ذلك؛ إذ إن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام، قال سيف بن عمر: عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: «لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة، وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم الـمَطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم».

هذا الصحابي الجليل الذي لم يسبقه في الصحبة أحد، عندما استلم قيادة المسلمين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد لجيش أسامة أن ينفذ إلى الشام، ووضع في جيشه كبار الصحابة… رفض أن يحلَّ هذه العقدة كما أشار عليه كبار الصحابة من أجل التفرُّغ لقتال المرتدين وغيرهم ممن تمرد وشقَّ عصا الطاعة، وكان من ضمنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه… امتنع عن ذلك، وأبى أشدَّ الإباء، وأصر كلَّ الإصرار على أن ينفذ هذا الجيش قائلًا في فهم مدهش للإسلام قصُر عنه الآخرون من كبار الصحابة: «واللهِ، لا أحُلُّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطيرَ تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرَّت بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزنَّ جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة». ولما قال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، قال: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننتُ أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته».

هكذا كان أبو بكر، كما وصفته أم المؤمنين عائشة من حديث القاسم وعمرة قالت: «لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة، وأشرأب النفاق، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في وحش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها».

نعم، لقد كان خروج بعث أسامة في ذلك الوقت من أكبر المصالح، أدرك ذلك أبو بكر بصحة فهمه ودقة تقيُّده بالشرع؛ فإنهم لما ساروا لا يمرُّون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة. وفي ذلك قال أبو هريرة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر، ردَّ توجُّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة، فقال: «والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشًا وجهه رسول الله، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله»، فوجَّه أسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم؛ ولكن ندعهم حتى يلقَوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام.

ولقد كان أبو بكر يواجه من المسلمين اعتراضات على أوامره لا تقل أثرًا في خرم القيادة من مواجهة الأعداء، ولكنها سرعان ما كانت تزول؛ لأن القوم كانوا قريبي عهد برسول الله وشديدي إيمان وتمسك بالإسلام وأشد حرصًا على الطاعة… كانوا وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال بين ظهرانيهم. وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما عن الحسن البصري أن أبا بكر لما صمَّم على تجهيز جيش أسامة، قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمِّر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، فيقال إنه أخذ بلحيته وقال: «ثكلتك أمُّك يا ابن الخطاب، أؤمِّر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ثم نهض بنفسه إلى الجرف، فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير وسار معهم ماشيًا وأسامة راكبًا، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصِّديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال: «والله لستَ بنازل ولستُ براكب»، ثم استطلق الصِّديق من أسامة عمر بن الخطاب وكان مكتتبًا في جيشه فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقى أسامة بعد ذلك إلا قال: «السلام عليك أيها الأمير».

ولنعرض بعض ما ذكرته كتب السيَر في هذا الموضوع، فقد أورد ابن كثير في البداية والنهاية [الجزء السادس]:

فصل في تصدِّي الصِّديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة

قد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذَّاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفَّت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيِّئ، وبشر كثير أيضًا. وادَّعى النبوة أيضًا كما ادَّعاها مسيلمة الكذاب وعظم الخطب، واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة فقلَّ الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصِّديق على أنقاب المدينة حراسًا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود… وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة، ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصِّديق، وذكر أن منهم من احتجَّ بقوله تعالى: (خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ ).قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم:

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا  ***  فواعجبا ما بال ملك أبي بكر

وقد تكلم الصحابة مع الصِّديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألَّفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكُّون فامتنع الصِّديق من ذلك وأباه. وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجة عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: علامَ تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها». فقال أبو بكر: واللهِ، لو منعوني عناقًا، (وفي رواية: عقالًا) كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنَّهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله،ِ لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة». قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة ابن سوار، ثنا عيسى بن يزيد المديني، حدثني صالح بن كيسان قال: لما كانت الرِّدَّة، قام أبو بكر في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رثَّ حبله، وخلُق عهده، وضلَّ أهله منه، ومقتَ الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرًا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرًا لشر عندهم، قد غيَّروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه. والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا، وأضلَّهم دينًا في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم حتى قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ١٤٤) إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالًّا فهداه، وعائلًا فأغناه،(وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ ). والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥) ثم نزل.

وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ) قالوا: المراد بذلك أبو بكر وأصحابه في قتالهم المرتدين ومانعي الزكاة. وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة. وارتدت أسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن. وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي. وارتدت مذحج ومن يليها وعليهم الأسود بن كعب العنسي الكاهن. وارتدت ربيعة مع المعرور بن النعمان بن المنذر. وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذاب. وارتدت سُليم مع الفجأة واسمه أنس بن عبد ياليل. وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة.

وقال القاسم بن محمد: اجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة الأسدي، وبعثوا وفودًا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا بهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال: «لو منعوني عقالًا لجاهدتهم، فردهم، فرجعوا إلى عشائرهم فأخبروهم بقلة أهل المدينة وطمَّعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد، وقال: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون ليلًا يأتون أم نهارًا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤمِّلون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، فاستعِدُّوا وأعِدُّوا، فما لبثوا إلا ثلاثًا حتى طرقوا المدينة غارة، وخلَّفوا نصفهم بذي حسى ليكونوا ردءًا لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم أن الزموا مكانكم، وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفشَّ العدو واتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء، فالتقوا مع الجمع فكان الفتح.

وفي جمادى الآخرة ركب الصديق في أهل المدينة وأمراء الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرة، وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدَّهم طليحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها، ثم أرسلوها من رؤوس الجبال، فلما رأتها إبل أصحاب الصِّديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئًا إلى الليل وحتى رجعت إلى المدينة.

فلما وقع ما وقع، ظنَّ القوم بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى عشائرهم من نواحٍ أخر فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائمًا ليله يعبئ الناس، ثم خرج على تعبئة من آخر الليل وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة أخوهما سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حسًا ولا همسًا حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولَّوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وكان أول الفتح، وذلَّ بها المشركون، وعزَّ بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلنَّ من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.

فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الإسلام وأهله، وذلك أنه عزَّ المسلمون في كل قبيلة، وذلَّ الكفار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة مؤيدًا منصورًا، سالمـًا غانمًا، وطرقت المدينة في الليل صدقات عدي بن حاتم، وصفوان، والزبرقان: إحداها في أول الليل، والثانية في أوسطه، والثالثة في آخره، وقدم بكل واحدة منهن بشير من أمراء الأنقاب، فكان الذي بشَّر بصفوان سعد بن أبي وقاص، والذي بشَّر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي بشَّر بعدي بن حاتم عبد الله بن مسعود، ويقال: أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه وذلك على رأس ستين ليلة من متوفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليال فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثم ركب أبو بكر في الذين كانوا معه في الوقعة المتقدمة إلى ذي القصة فقال له المسلمون: لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلًا. فقال: واللهِ لا أفعل، ولأواسينَّكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حسى، وذي القصة والنعمان وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق، وهناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفًا، وأخذ الحطيئة أسيرًا فطارت بنو عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أيامًا، وقد غلب بني ذبيان على البلاد، وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنَمَناها الله، وحمى الأبرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة، ولما فرَّت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة.

خروجه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر

وذلك بعدما جمَّ جيش أسامة واستراحوا، وركب الصِّديق أيضًا في الجيوش الإسلامية شاهرًا سيفه مسلولًا من المدينة إلى ذي القصة وهي من المدينة على مرحلة، وعلي بن أبي طالب يقود براحلة الصِّديق رضي الله عنهما، فسأله الصحابة منهم علي وغيره وألحُّوا عليه أن يرجع إلى المدينة، وأن يبعث لقتال الأعراب غيره ممن يؤمره من الشجعان الأبطال، فأجابهم إلى ذلك، وعقد لهم الألوية لأحد عشر أميرًا. وقد روى الدارقطني عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر إلى القصة واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك» وارجع إلى المدينة فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا».

وقال سيف بن عمر: عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد لما استراح أسامة وجنده، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث، وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء: عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة ابن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له. ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة. وبعث شرحبيل بن حسنة في أثره إلى مسيلمة الكذاب، ثم إلى بني قضاعة. وللمهاجر ابن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح. ولخالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام. ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة، ووديعة، والحارث. ولحذيفة بن محصن الغطفاني وأمره بأهل دبا، وبعرفجة، وهرثمة وغير ذلك. ولطرفة بن حاجب وأمره ببني سُليم ومن معهم من هوازن. ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن. وللعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين – رضي الله عنهم –

وقد كتب لكل أمير كتاب عهده على حدته، ففصل كل أمير بجنده من ذي القصة، ورجع الصِّديق إلى المدينة، وقد كتب معهم الصِّديق كتابًا إلى الربذة، وهذه نسخته:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والهوى، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، نقرُّ بما جاء به، ونكفر من أبى ذلك ونجاهده. أما بعد، فإن الله أرسل بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا لينذر من كان حيًّا ويحقَّ القولُ على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفي الله رسوله وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بيَّن له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال: (إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ٣٠)وقال: (وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ ) وقال للمؤمنين: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤)فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظٌ لأمره منتقمٌ من عدوه، وإني أوصيكم بتقوى الله، وحظكم ونصيبكم، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهدِه الله ضالٌّ، وكل من لم يُعِنْه الله مخذولٌ، ومن هداه غير الله كان ضالًّا، قال الله تعالى: (مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا) ولن يقبل له في الدنيا عمل عبد حتى يقر به، ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرَّ بالإسلام، وعمل به اغترارًا بالله، وجهلًا بأمره، وإجابةً للشيطان، قال الله تعالى: ( وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا ٥٠)وقال: (إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ٦) .

وإني بعثت إليكم في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقبل من أحد إلا الإيمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز وجل، فإن أجاب وأقرَّ وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه، وإن أبى حاربه عليه حتى يفيء إلى أمر الله، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد غير الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابه في كل مجمع لكم والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبَوا عاجلوهم، وإن أقرُّوا حمل منهم على ما ينبغي لهم». رواه سيف بن عمر عن عبد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.

تلك حديقة ذات بهجة من حدائق خليفة رسول الله الأول، ما كان أن ينبت ثمرها إلا بإذن الله. وإن المسلمين ليحنُّون ويتشوَّقون لطعمها، وإن الله لهو الهادي إلى الصراط المستقيم… اللهم اهدِ هذه الأمة لأرشد أمرها ووفقها لإقامة خلافة راشدة تكون على ما كانت عليه زمن الخلفاء الراشدين الأول، اللهم آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *