الإسلام وقدرته على قيادة البشرية
2020/09/11م
المقالات
2,353 زيارة
الكاتب: عبدالله القاضي – اليمن
نظرًا لهذه الدوامة الفكرية التي تتخبط فيها الأقطار الإسلامية، في مشارق الأرض ومغاربها، متأثرة بالشرق حينًا وبالغرب أحيانًا، ولكون الإسلام قد خطا خطوات واسعة في محاولة إنهاء هذه الدوامة من خلال تلك الصحوة الإسلامية المباركة، والتي جذبت أنظار مختلف الشعوب والأمم في الأرض، وبسبب أن أخطر ما يحتاج إليه الإنسان، كائنًا من كان، هو التعرف على حقيقة نفسه، وحقيقة الكون الذي يعيش فيه، وحقيقة هذه الحياة الدنيا التي يعيشها، وذلك من خلال حل شامل لتساؤلاته عن ذلك بشكل يقنع عقله وينسجم مع فطرته، ونظرًا لأن الحلول المجتزأة لم يعد يقف عندها أحد من العلماء والمفكرين الذين ازدادت الضغوط الأيدلوجية الفكرية عليهم وهم يقفون أمام مختلف الحلول التي تقدم إليهم أو تعترض سبيلهم من إسلامية وغير إسلامية؛ لذلك كله، كان حتميًا وضع هذا البيان الدقيق بأفكاره ومعالجاته لجميع جوانب إلاسلام كدين وشريعة، كعقيدة وتشريعات، مع الحرص على الدراسة المقارنة بينه وبين العقائد الأخرى من رأسمالية واشتراكية شيوعية؛ وذلك ليرى كل ذي لبّ وبصيرة هذا البون الشاسع بين الإسلام وغيره، فيقول بملء فيه: لقد وجدتها، لقد وجدت الحل الشامل لجميع جوانب الحياة في الإسلام، عقيدة وشريعة، وإنه ليس لأحد بدّ من الأخذ به ما دام يطلب الحق دون مواربة ولا تعصُّب ولا تحيُّز.
فما دام سلوك الإنسان مرتبطًا بدوافعه الفطرية الموجهة بأفكاره ومفاهيمه، وما دامت دوافعه نتيجةً لجوعاته الغريزية والعضوية، وأفكاره مع مفاهيمه نتيجةً لقناعاته العقلية، فإن هذه القناعات والجوعات هي التي تتحكم في سلوكه، سواء أكان فرديًا أم جماعيًا. أما الجوعات بشقَّيها فإنها لا تتغير ولا تتبدل لدى الإنسان كإنسان، وإن تفاوتت في قوة مظاهرها واندفاعاتها، وأما الأفكار والمفاهيم فإنها تتغير وتتبدل تبعًا للحجج والبراهين التي تؤكد القناعات السابقة أو تغيِّرها وتبدِّلها. ولا بد أن نتذكر أولًا وقبل كل شيء أن غرائز الإنسان هي غريزة البقاء وغريزة النوع وغريزة التدين. وأن لكل غريزة مظاهرها المتعددة. فغريزة البقاء تظهر بالدفاع عن النفس وعن البلد والأرض التي يعيش فيها أو يملكها، وحب السيادة والسيطرة، وغير ذلك من الدوافع والمظاهر. وغريزة النوع تظهر بالميل الجنسي بين الرجال والنساء والحبِّ الأبويِّ والأمويِّ وغيرها. وغريزة التدين تظهر بالميل للتقديس والعبادة والخشوع والدعاء وغيرها… وهذه الغرائز بمظاهرها يشترك فيها من حيث الوجود الإنسان والحيوان والطير على حد سواء. وعليه فإن هذه الدوافع الغريزية والعضوية تشكل الأساس الأول لتحرك الإنسان لإشباع جوعاته؛ ولكنها تخضع لتوجيه المعتقدات والقناعات العقلية التي تحدِّد لها كيفية هذا الإشباع أو ذاك، ومدى الإقدام عليه أو الامتناع عنه. فكلما كانت هذه الأفكار سليمة راقية مناسبة للإنسان، كان ضبطها وتوجيهها للدوافع الغريزية والعضوية ساميان، والعكس صحيح. فعندما ينحطُّ فكر الإنسان تتحكم فيه الدوافع الغريزية المناسبة لهذا الانحطاط. وفي ميدان حديثنا عن الروابط الإنسانية، فإن الانحطاط الفكري يوجد بين الناس الترابط الذي تدعو إليه غريزة البقاء من خلال الحرص على الدفاع عن النفس، وبالتالي الدفاع عن المكان الذي يساعد على الحفاظ على النفس، وعن الأرض التي ارتبطت بها النفس، وعن البلد التي ترعرعت في جنباتها النفس. وهذا الترابط هو ما يسمى بالرابطة الوطنية. والملاحظ أن هذه الرابطة يشترك فيها الإنسان والحيوان والطير، وأنها لا تظهر إلا عند تعرض النفس والأرض والبلد للخطر، سواء بالهجوم أم بالاستيلاء، وتختفي بعد ذهاب هذا الخطر؛ ولذلك يمكن القول إن هذه الرابطة لا تليق بالإنسان أن يتخذها في تجمّعه سببًا طالما كانت منخفضة وعاطفية ومؤقتة.
وأما إذا كانت الأفكار التي توجه الدوافع الغريزية والعضوية ضيقة الأفق، بأن تكون غير شاملة للناس كافة، وإنما محصورة في إطار الترابط العائلي أو القبلي أو القومي، فإن غريزة البقاء تتحكم في الترابط من خلال دافع آخر من دوافعها، ألا وهو حب السيادة؛ بحيث يدفع صاحبه للعمل في سبيل أن يكون رئيسًا على عائلته أو على قبيلته أو على قومه، تبعًا لمستوى التفكير عنده. إذ كلما اتّسع تفكيره اتّسع حبّه للسيادة. فيكون سيادة لقومه على غيرهم عند أوسع مجالات هذا التفكير الضيق غير الإنساني. وبهذا توجد الرابطة القومية بين الناس، وهي رابطة تغلب عليها العصبية والهوى والمخاصمات. فتظهر عدم صلاحيتها للمستوى الإنساني، طالما كانت لا توجد الترابط الراقي بين الناس، وتعتمد على العاطفة الغريزية المتقلبة، ولا تتخذ طابع الدوام والاستقرار اللازمين للترابط البشري.
وأما إذا كانت الأفكار لا ترى سببًا للترابط البشري غير المصلحة، وأنه حيثما وجدت للإنسان مصلحة مع غيره كانت بينهما رابطة، وإذا انتفت المصلحة انتفت الرابطة معها، فإنها ستؤدي بأي تجمع بشري يقوم عليها إلى التمزق والضياع، ولا سيما أنها ستعصف بها أشكال من المساومات وتباين المصالح؛ ولذلك يلاحظ أن التجمعات المعاصرة التي تتحكم بها الأفكار المصلحية في الغرب والشرق تحرص على جعل هذه المصالح مرتبطة بأفكار مبدئية، أي مرتبطة بعقيدة ونظام للحياة يجمع بني المجتمع فيما بينهم. ولا ننسى أن مثل هذه الرابطة المصلحية الخطرة المدمرة لكل تجمُّعٍ بشريٍّ تحركها غريزة البقاء أيضًا بحب الذات وحب التملك؛ ولذلك كانت غير صالحة لترابط بني البشر بل خطرة عليهم، كما لا ننسى أن الغرائز كلها قد تتدخل فيها.
وأما إذا انفردت غريزة التديُّن بالميل للتقديس والعبادة، ودفعت الإنسان للتديُّن دون اهتمام بالحياة وشؤونها، أي دفعته للانصراف للناحية الروحية دون أي اهتمام بشؤون الحياة وتنظيمها فإنها تكون رابطة روحية. فينصبُّ تفكير الإنسان على توجيه كل طاقاته للعبادة ويشلّ كل جوانب الحياة الأخرى. مما يحكم عليها بأنها لا تصلح للترابط بين أبناء المجتمع الواحد. كما هي العقيدة النصرانية التي لم تصلح للربط بين الشعوب الأوروبية مع أنها تعتنقها. ولا بد حتى تكون الرابطة صحيحة من أن تشمل كل بني البشر، وأن تكون ثابتة دائمة ومستقرة، وأن تقدم تنظيمًا لجميع جوانب حياة البشرية.
فأين هي هذه الرابطة الصحيحة ما دامت كل الروابط الأربعة السابقة غير صحيحة؟
وللإجابة نقول: إن المبدأ، أي مبدأ، هو العقيدة العقلية التي ينبثق عنها نظام لجميع شؤون الحياة. هذه العقيدة هي الفكرة التي توضح حقيقة الوجود من كون وإنسان وحياة، وحقيقة ما قبل هذه الحياة الدنيا، وما بعدها، وعلاقتها بما قبلها وما بعدها. فإن كانت فكرة العقيدة كما في الإسلام، فإنها ترى أن الوجود مخلوق لله تعالى، وهو سبحانه المدبّر له بتدبيره، وأن الذي قبل هذه الحياة هو خالقها ومدبّرها ليس غير، وأن ما بعدها هو يوم الجزاء على ما اجترح الإنسان من أفعال حيث يُجزى إما بالجنة أو بالنار، وأن علاقتها بما قبلها، أي خالقها، هي علاقة الخلق والإيجاد والتدبير، وعلاقتها بما بعدها وهو الحساب على الأفعال والمعتقدات في هذه الحياة، هذا بالنسبة إلى العقيدة. وأما بالنسبة للنظام المنبثق عنها، فهو مجموعة الأنظمة التي تعالج جميع مشاكل الإنسان، وتبين كيفية تنفيذ تلك الأنظمة، وكيفية المحافظة على العقيدة نفسها سليمة نقية مما يحتمل أن يلحق بها من شكوك، وكيفية حمل المبدأ للناس كافة. إن صحة المبدأ أو بطلانه مرتبطة بعقيدته؛ لأنها الأساس الذي تنبثق عنه الأنظمة لشؤون الحياة. فإن صلح الأساس صلحت الأنظمة، والعكس صحيح. ولكن من أين تجيء صحة عقيدة المبدأ.
إن صحة العقيدة آتية من كونها تتفق مع فطرة الإنسان ومبنية على العقل. وإذا لم يتحقق هذان الشرطان فهي عقيدة باطلة. ومعنى اتفاقها مع الفطرة هو كونها تقرر ما في الفطرة الإنسانية من عجز وحاجة للخالق المدبر، فهي توافق غريزة التدين ولا تنكرها أو تتجاهلها. ومعنى بناؤها على العقل هو أنها غير مبنية على المادة، كما سنرى في الاشتراكية الشيوعية، ولا على الحل الوسط، كما في الرأسمالية الديمقراطية. وإذا أتينا إلى الأفكار المبدئية لما وجدنا في عالم اليوم غير مبادئ ثلاثة هي: الرأسمالية الديمقراطية في العالم الغربي بشكل خاص كوطن أم، والشرقي بشكل عام كوطن تابع، والاشتراكية الشيوعية، والإسلام. ولكي تتضح لنا قدرة الإسلام على قيادة البشرية فكريًا لابد من تناول الفروق بين هذه المبادئ الثلاثة من أربعة جوانب وهي:
1- أساس عقائدها.
2- النظرة للإنسان ومُثُله العُليا، والمجتمعُ وقِيَمُه وتنظيمُه وتنفيذُ أنظمته.
3- العقيدة التي تنبثق عنها أنظمتها، ومن حيث مقياس أعمال الإنسان في الحياة.
4- طريقة تنفيذها للنظام الذي ينبثق عن عقيدته، ومدى موافقتها لفطرة الإنسان، وبنائها على العقل.
أولًا: أساس عقائد المبادئ الثلاثة:
لنبدأ بأخطر هذه المبادئ وأكثرها أثرًا في العالم اليوم، إنها الرأسمالية الديمقراطية والتي قامت على أساس فصل الدين عن الدولة مما أدى إلى فصله عن الحياة كحل وسط للتوفيق بين رجال الدين الذين يريدون إخضاع كل شيء لهم باسم الدين، وبين الفلاسفة والمفكرين الذين ينكرون الدين وسلطة رجال الدين.
وأما عقيدة الاشتراكية الشيوعية فكانت نتيجة تفكير أولئك المفكرين الذين ظهروا في أوروبا وعلى رأسهم هيغل وكارل ماركس ولينين الذين أنكروا الدين وسلطة رجال الدين. ومعنى هذا أنهم رفضوا وجود ما قبل الوجود وما بعده، ولم يرَوا إلا وجود هذا الوجود المادي من كون وإنسان وحياة. ورأَوا أن المادة هي أصل الأشياء كلها. وأن تطور المادة يوجِد الأشياء؛ ما جعلهم يعتقدون أن الدين أفيون الشعوب، كما يقول ماركس الذي تنسب إليه عقيدتهم. وهكذا كانت المادة هي أصل الفكر عندهم لأنهم رأَوه مجرد انعكاس المادة على الدماغ ليس غير.
أما عقيدة إلاسلام، فنشأت بوحي من الله سبحانه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمره بتبليغ رسالة الإسلام للناس كافة، مبتدئًا بالعرب الذين نزلت الرسالة بلغتهم ومنتهيًا بجميع أطراف المعمورة، إلزامًا لأتباعه في الدعوة والتطبيق. فكانت «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، أي لا معبود بحقّ إلا الله، توجب طاعته بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. كما توجب «محمد رسول الله» التـزام العمل برسالته. وهذا يعني أن لهذا الوجود خالقًا، وأنه المدبّر المنظّم لهذه الحياة، وأنه سيبعث الناس يوم القيامة ليجزي كل نفس بما آمنت وعملت. فكانت عقيدة الإسلام بهذا الواقع عقيدة عملية تقدم الحلول لجميع مشاكل الحياة، وبالتالي عقيدة مبدئية.
ثانيًا: النظرة للإنسان ومثله العليا والمجتمع وقيمه وتنظيمه وتنفيذ أنظمته:
أما الرأسمالية والاشتراكية فإنهما بالرغم من اختلافهما في الفكرة الأساسية عن الإنسان ومعه الكون والحياة، إلا أنهما متفقان في أن المثُل العليا للإنسان هي تلك القيم العليا التي يضعها الإنسان لنفسه، وأن السعادة لدى كل منهما هي التمتع بأكبر حظ من المتع الجسدية في حياته، وأن هذا التمتع هو واسطة السعادة بل السعادة نفسها. كما أنهما متفقتان على إعطاء الإنسان حريته الشخصية ليتصرف كما يشاء لتحقيق سعادته، مما يجعل الحرية الشخصية من مقدسات هذين المبدأين.
وتختلفان في النظرة إلى الفرد والمجتمع. فالرأسمالية ترى أن المجتمع مكوَّن من أفراد، فهي مبدأ فردي تضمن له الحريات وبالذات حرية العقيدة والحرية الاقتصادية. والدولة تنفذ تقييد حرية الفرد بقوة الجندي وصرامة القانون.فالدولة وسيلة لا غاية. وأما الاشتراكية فإنها ترى أن المجتمع مجموعة عامة من البشر، فالإنسان والطبيعة والعلاقات كلها شيء واحد، فلا يستطيع الفرد إلا السير مع المجموعة كما يسير السن في الدولاب. وهذا يعني أن الفرد لا يملك حرية العقيدة ولا حرية اقتصادية، والدولة هي التي تقيِّد العقيدة والاقتصاد.
وأما الإسلام فإنه يرى أن المثُل العليا للإنسان والمجتمع هي من أوامر الله ونواهيه؛ فلا يلحقها التغيُّر ولا التطوُّر. فالمحافظة على نوع الإنسان، وعقله، وكرامته، ونفسه، وملكيته الفردية، والدين، والأمن. وكذلك الدولة… هي أهداف عليا ثابتة للحفاظ على الفرد والمجتمع؛ لذلك وضع للمحافظة عليها عقوبات قاسية من حدود وقصاص وتعازير. كما اعتبر المحافظة عليها أهدافًا واجبة، مما يجلب الطمأنينة للمسلم، ويحقق السعادة لديه، والتي تتمثل في نوال رضوان الله سبحانه وتعالى وليس في إشباع الجسد وتوفير متعه. أما بالنسبة إلى الإنسان في ذاته فقد رآه الإسلام صاحب حاجات عضوية وغرائز، فنظّمها جميعها ليشبع جوعاتها بشكل منسَّق دقيق لا على حساب بعضها البعض لا كبتًا ولا إطلاقًا. وأما بالنسبة إلى عضويته في المجتمع فقد رآه جزءًا غير منفصل عن الجماعة كجزئية العضو من الجسم. وأما المجتمع فهو مجموعة من الناس بينهم علاقات ناشئة عما يلتقون به من أفكار ومشاعر لديهم، وعما ينظمون شؤونهم به من أنظمة، وهي مجموعة الأوامر والنواهي الشرعية المقيدة والحافظة، والدولة هي المنفذة.
ثالثًا: العقيدة التي تنبثق عنها أنظمتها، ومن حيث مقياس أعمال الإنسان في الحياة، وطريقة تنفيذها للنظام الذي ينبثق عن عقيدته:
أما بالنسبة إلى العقيدة، فالشيوعية ترى المادة أصلًا لكل شيء، وكل شيء يصدر عنها بالتطور المادي. بينما ترى الرأسمالية فصل الدين عن الحياة وبالتالي فصله عن الدولة، ولا دخل للخالق في الحياة. وأما الإسلام فيرى أن الله سبحانه وتعالى خالق الوجود ومدبره بما أودع فيه من نظام وأرسل إلى البشر من رسل يحاسب كل إنسان بناءً على إيمانه وأعماله يوم الحساب.
وأما بالنسبة إلى كيفية انبثاق الأنظمة عن العقيدة، فالشيوعية ترى أن الأنظمة تؤخذ من أدوات الإنتاج. وأما الرأسمالية فترى أن الإنسان يأخذ أنظمته من واقع حياته بعد أن فصلها عن الدين. وأما الإسلام فيرى أن الله أرسل للناس سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأنظمة التي بلَّغه إياها، فصار الإنسان ملزمًا بالسير عليها بدراسة كل مشكلة واستنباط حلِّها من كتاب الله وسنّة رسوله.
وأما بالنسبة إلى مقياس الأعمال في الحياة، فالشيوعية ترى النظام المادي هو المقياس؛ ولذلك يتطور هذا المقياس بتطور النظام. وأما الرأسمالية فترى النفعية هي المقياس، فحيثما وجدت وجد العمل. وأما الإسلام فيرى الحلال والحرام هو المقياس، فحيثما وجد الحلال يجري العمل وحيثما وجد الحرام يتوقف.
وأما بالنسبة لتنفيذ النظام في واقع الحياة، فالشيوعية ترى الدولة هي المنفّذة بقوة الجندي وصرامة القانون. وأما الرأسمالية فترى الدولة مشرفة على الحريات ولا تتدخل عند حصول الاستغلال وأخذ الحقوق بالرضى. وأما الإسلام فيرى التنفيذ من الفرد المسلم بدافع تقوى الله، ومن الدولة بدافع شعور الجماعة بعدالة الإسلام، ومن الأمة بتعاونها مع الحاكم بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن سلطان الدولة بتنفيذ العقوبات.
رابعًا: مدى موافقتها لفطرة الإنسان، وبنائها على العقل:
فبالنسبة إلى الموافقة للفطرة، فإن الإسلام هو وحده من بينها الموافق للفطرة؛ لأن التدين فطرة في الإنسان. والتدين هو الاحتياج إلى الخالق المدبر الناشئ عن العجز الطبيعي في الإنسان. وهو غريزة ثابتة لها رجع معين هو التقديس. فالشيوعية أنكرت وجود الله ووجود الروح، ونقلت تصور الإنسان وإدراكه وتقديسه لخالقه إلى تقديس المبدأ وحمَلَته من المخلوقات، فرجعت بالإنسان إلى الوراء وحوّلتها بالمغالطة تحويلًا رجعيًا، فهي عقيدة مخفقة من ناحية فطرية؛ لأنها تختلف عن طبيعة الإنسان، مما اضطرها أن تلجأ للقوة لإخضاع الناس لمبدئها. وكذلك الرأسمالية فإنها مخالفة لفطرة الإنسان لأنها أبعدت الدين من الحياة الإنسانية مع أنه المدبر لأعمال الإنسان في الحياة، فكانت بهذا الإبعاد مخالفة لفطرة الإنسان، وكانت مخفقة من ناحية فطرية.
وأما بالنسبة إلى البناء على العقل، فعقيدة الإسلام هي وحدها العقيدة الإيجابية للإنسان؛ لأنها تجعل العقل أساس الإيمان بوجود الله الخالق المدبر، كما أنها تفرض على المسلم أن يؤمن مع وجود الله بنبوّة محمد وبالقرآن الكريم عن طريق العقل، والمغيبات التي أتى بها شيء ثبت وجوده بالعقل من قرآن وحديث متواتر. أما الشيوعية فهي مبنية على المادية وليس على العقل؛ لأنها ترى وجود المادة قبل الفكر، وأن المادة هي أصل الأشياء كلها. وتقول بأن المادة حين تنعكس على الدماغ يوجد الفكر. وهذا الزعم خطأ من ناحيتين: الأولى: إن الانعكاس بين المادة والدماغ غير موجود، لعدم وجود قابليته بينهما كما هو بين المرآة وغيرها. والموجود بينهما هو انتقال الإحساس بالمادة إلى الدماغ بوساطة الحواس. وهذا متحقق في العين وغيرها من الحواس. والثانية: إن الإحساس بالواقع لا يوجِد فكرًا، فلا بد من وجود معلومات سابقة عند الإنسان لتفسير الواقع الذي أحسّ به حتى يحصل الفكر. وعليه فان العقيدة الشيوعية مخطئة في فهمها للفكر وفاسدة في عدم بنائها على العقل. وأما الرأسمالية فهي مبنية على الحل الوسط بين رجال الكنيسة والمفكرين، وهو فصل الدين عن الحياة؛ ولذلك كانت حلّ ترضية أو حل وسط أنهى الصراع العنيف الذي استمر قرونًا بين المفكرين ورجال الكنيسة؛ مما جعل الحل الوسط فكرة أصيلة عندهم تظهر بالتقريب بين الحق والباطل، والإيمان والكفر والنور والظلام، مع أن كلًا منها لا يلتقي مع الآخر؛ ولذلك كانت عقيدتهم فاسدة لأنها غير مبنية على العقل. وهكذا كانت العقيدة الإسلامية هي الوحيدة الصحيحة السليمة؛ لأنها موافقة لفطرة الإنسان ومبنية على العقل. أما الشيوعية والرأسمالية فباطلتان فاسدتان، لأنهما تتناقضان مع فطرة الإنسان وغير مبنيتين على العقل كما أسلفنا.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم وجوهري في هذا المجال وهو: ما الفرق بين الفتح الإسلامي والاستعمار الغربي؟
والجواب أن الفتح إلاسلامي كان لإزالة الحواجز المادية من طريق الدعوة الإسلامية، كما قام بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة؛ لذلك كان لا يفرض على البلاد المفتوحة اعتناق الإسلام، لقوله تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ)، وقال تعالى: (وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ) وإنما يعرضه عليهم ليرَوه عمليًا كما يسمعونه فكريًا. فتصل إليه عقولهم وتهتدي إليه فطرتهم، فيدخلون فيه أفواجًا. أما الاستعمار الغربي فقائم على السيطرة على الشعوب الضعيفة في جميع المجالات لاستغلالها ونهب خيراتها لمصلحة شعوبه؛ ولذلك نلاحظ كيف يعمد إلى التضليل الثقافي والسياسي، وإلى فرض الزعامات المكروهة، جنبًا إلى جنب، ليضمن استمرار بقائه باستمرار بُعدِ المسلمين عن إسلامهم وتصديقهم لتضليله وتسخيرهم لمآربه.
إن استمرار بقاء هذه الشعوب مسلمة حتى اليوم لدليل ساطع على قدرة هذا الإسلام على الاستمرار حتى قيام الساعة محافظًا على بقاء الأمة الإسلامية الواحدة معتنقة له من دون غيره. أما ما حصل لمسلمي الأندلس، فكان إفناءً بمحاكم التفتيش وبيوت النيران ومقاصل الجلادين. ولم يكن ردّة عن الإسلام مختارة. وكذلك ما حصل لمسلمي بخارى والقفقاس وتركستان، وغيرها، كل ذلك بقهر الاستعمارَين الغربي والشرقي على حد سواء.
وبما أن الدولة الإسلامية دولة بشرية وليست دولة إلهية، فمن الطبيعي سقوطها عند تخلي المسلمين عن عوامل نهضة دولتهم وخضوعهم لعوامل أدت إلى إسقاطها، فكان إعلان إلغاء الخلافة وفرض تطبيق العلمانية في 28 رجب 1342م الموافق 3-3-1924م، وإذا أردنا العودة للنهوض والصدارة من جديد لنكمل رسالتنا إلى العالم كافة فلن يكون ذلك إلا بالآتي:
1- إيجاد الفكر الصحيح الذي قامت على أساسه الدولة الأولى، وطريقة التفكير السليمة عند الأمة؛ لفهم الإسلام وأحكامه وكيفية عودته من جديد إلى الحياة.
2- ضرب الأفكار الغربية القائمة على أساس فصل الدين عن الحياة وما انبثق عنها من أنظمة للحياة.
3- الوعي على التاريخ الصحيح لنعرف كيف كان من قبلنا يقود الدولة عمليًا على أساس الإسلام.
4- معرفة طبائع الشعوب تجاه دولة الخلافة سابقًا، وبالمسلمين في الوقت الحاضر؛ ليسهل علينا كيفية التعامل معهم عند قيام الدولة بإذن الله.
وختامًا، فإن النهوض بالمسلمين من جديد لا يتأتى إلا بجماعة واعية مخلصة قائمة على أساس الإسلام قال تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤). هذه الجماعة تمتلك منهجًا للتغيير يتجلَّى فيه معرفة كيفية الوصول إلى الحكم لتغيير النظام حسب أحكام الشرع، قال تعالى: (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨). كما ولا بد لها من مشروع للدولة يتضمن نظرته وتصوره لنظام الحكم في الإسلام وتفصيلاته وكيفية تطبيقه، قال تعالى: ( فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ )، وقال تعالى:(وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩).
نسأل الله العلي القدير أن يُعجل بقيام دولة المسلمين «خلافة على منهاج النبوة» تُقيم شرع ربنا، وتوحد شملنا، وتلمُّ شتاتنا، وتنشر الخير للعالم أجمع، وما ذلك على الله بعزيز.
قال تعالى: (وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٥ وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٦).
صدق الله العظيم.
2020-09-11