العدد 406 -

السنة الخامسة والثلاثون، ذو القعدة 1441هـ الموافق تموز 2020م

ضِدُّ الْقُرْآنِيْينَ

 أ. نور أحمد- غزة

إن القرآنيين قوم من الناس أعيتهم السنَّة. فطلبوا الشفاء في نكرانها، أو التخفُّف منها. فازدادوا عيًّا، وكانوا على شفا جرف هارٍ من الحيرة والتهوُّك فانهار بهم في أعماق الجهل والضلالة؛ فكان القوم فرقتين: فرقة تنكر السنة دون حجاب، وفرقة تنكرها من وراء حجاب.

فأما الفرقة الأولى، فعمدت إلى إنكار السنة الواقعية بإبطال وجوب طاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وعمدوا كذلك إلى إنكار السنة المنقولة بالطعن في رواتها ومتونها وتدوينها. فلما حصل لهم كل ذلك واتبعوا خطوات الشيطان خلا لهم الجو بالقرآن فحملوه على ما لا تقوم له حجة، فجاؤوا بكل عجيب؛ حيث أنكروا السنة والأسوة واعتمدوا في إنكار الروايات على الروايات، وكانت تكأتهم في الطعن على  بعض الرواة نقولًا للقدماء لم يرَ فيها أولئك القدماء باعثًا على إنكار السنة، وهم إذا يقولون: «حسبنا كتاب الله» فإنهم يتحكَّمون في فهمه ويتمحَّلون، ومن مؤنة العربية يتخفَّفون، فهي عليهم عبء وإصر كبير، وهم يجعلون سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهمًا له ولزمانه ولا يلزمنا، وهم لهم في القرآن فهم هو لزمانهم وهو لازم لنا.

أما الفرقة الآخرة وهم الذين توسَّلوا إلى إنكار السنة بدعوى عرضها على كتاب الله. فإنهم يقولون إنا لا نقبل حديثًا حتى يعرضوه على الكتاب، وهؤلاء هم أخطر الفريقين من جهة كون دعواهم أقرب إلى القلوب وأدعى للقبول مع أن نهاية قولهم في السنة كبداية قول الأولين، فهم لا يعرضون الحديث على الكتاب حقًّا، وإنما يعرضونه على فهم أرادوا أن يكون الكتاب عليه، بيد أنهم لا يصدمون الناس ابتداءً وإن كانوا يتسلَّلون إلى عقولهم انتهاءً.

نعم، هؤلاء هم القرآنيون، وتلك هي دعواهم. وأما عن ظهورهم في عصرنا، فلقد كان في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بشبه القارة الهندية، وظهور هاته الحركة في بلاد غير عربية له دلالة قارّة على دور ضعف اللسان العربي في ظهور الملل والنحل المنحرفة في تاريخ المسلمين؛ إذ إن لضعف اللسان العربي فعلًا كبيرًا في ظهور الشعوذة الفكرية. قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: «أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير، يعني في البدعة والكذب: جهم بن صفوان، وعمر بن صبيح، ومقاتل بن سليمان» وروي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: «أتانا من المشرق رأيان خبيثان جهم معطِّل ومقاتل مشبِّه»

والقرآنيون وإن ظهروا وظهرت مقالاتهم في هذا الزمان، إلا أن لهم جذورًا ميتةً في تاريخ المسلمين أحياها المستشرقون، وأعاد إنتاجها من أصابته لوثتهم من أبناء المسلمين. ومن تلك الجذور ما كان في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ورسول الله بشرٌّ يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: «اكتب، فو الذي نفسي بيده، ما خرج منه إلا حق» أخرجه أبو داود وغيره وإسناده صحيح. ومن تلك الجذور أيضًا الخوارج الذين أنكروا السنة فجاؤوا في فهم الإسلام بالعجائب، وإن كان ردهم لها لكفر نقلتها عندهم. ومنه أيضًا ما أورده الشافعي في كتاب جماع العلم من مقالة الطائفة التي ردت الأخبار كلها والطائفة التي ردت بعضها أي أخبار الخاصة أو أخبار الآحاد. ومن تلك الجذور أيضًا الطائفة المريسية نسبة لبشر المريسي والذي أوصى أتباعه فقال: «إذا احتجوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل، وإذا احتجوا بالأحاديث فادفعوها بالتكذيب» ويبين من كل ذلك أن ظهور كل أولئك ضرب من ضروب الصراع بين الحق والباطل.

ولقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بظهور الرَّادين لسنَّته، فعن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِمُّوه..» ولقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجل الشبعان أصحاب الترفُّه والدَّعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانِّه، قال الخطابي: «في الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء كان حجة بنفسه».

أما ما رواه بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه…» فإنه حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: «هذا حديث وضعته الزنادقة» والزنادقة هؤلاء هم سلف الفرقة الآخرة من القرآنيين، والذين وضعوا أحاديث عرض السنة على الكتاب لتعضيد رأيهم؛ ولكنهم غفلوا عن كون ما وضعوه مخالفًا للقرآن؛ حيث إن الله تعالى أوجب طاعة رسوله طاعة مستقلة مطلقة من كل قيد، على أن تلك الأحاديث ليست لها قيمة من حيث الإسناد؛ إذ إن كل ما ورد في معناه باطل مكذوب.

تلك كانت لمحة موجزة عن نشأة القرآنيين ودعاويهم، أما عن سبيل الفرقة الأولى لإبطال السنة وهم المقصودون بالمقالة فهي سبل قائمة على المغالطة والتشكيك، قال الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ ١١٢ وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡ‍ِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ ١١٣).

ونحن هنا نذكر طرفًا من كل ما يفترون، ومن ذلك مغالطات ضرب المتون. فالقرآنيون يتخذون المغالطة طريقًا لدحض الحقائق، وتقوم المغالطة على ما يسمى باللغة القياسية، أو المنطق الصوري، أو الأرسطي، والذي هو ترتيب مقدمة على مقدمة للوصول إلى نتيجة. وسر المغالطة فيه يكون في ترتيب قياسي لمقدمات غير صحيحة أو واحدة منها للوصول إلى نتيجة باطلة، مثل التشكيك في المتون فهم يقولون: إن حديث (تأبير النخل) وفيه: «إنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ. قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، وعند البزار من طريق حمَّاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنتُم أعلمُ بما يُصلِحُكم في دنياكم، فأمَّا أمرُ آخرتِكم فإلَيَّ» فقال المشكِّكون إنه فرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم التسبُّب بخراب معاش الناس وضياع ثمارهم؛ فإذا كان ذلك كذلك فالحديث باطل؛ ولكن المزلَّة التي وقع فيها هؤلاء المتهوِّكون هي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتصرف في هذه الواقعة كرسول ونبي، وإنما تصرَّف كحاكم وراعٍ في أمر إداريٍّ رعويٍّ، وليس هو أمر ديني تبليغي حتى يستحيل على مقام النبوة والرسالة، وبهذا يكون ما اعتقدوه مقدمة حقيقية ليست كما حزروا وإنما هي مقدمة مغلوطة.

هذا ويستعمل القرآنيون مغالطة تعميم جزءٍ على كلٍ مثلُ حديثِ «التربة» والذي فيه أن خلق السموات  والأرض كان في سبعة أيام، ولقد جاء به مسلم في صحيحه تحت باب «ابتداء الخلق» من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بيَدِي فَقالَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَومَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَومَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المــَـكْرُوهَ يَومَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَومَ الأرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السَّلَامُ بَعْدَ العَصْرِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، في آخِرِ الخَلْقِ، في آخِرِ سَاعَةٍ مِن سَاعَاتِ الجُمُعَةِ، فِيما بيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ». ولقد تكلم الأوائل في هذا الحديث سندًا ومتنًا، واعتبره أكثرهم غلطًا لمسلم حيث قالوا: «وقع فيه الغلط في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار» وصحَّحه آخرون من جهتَي السند والمتن ولهم أجوبة ميمونة عن كل علة. وعلى كل حال، فالحديث إن كان غلطًا عندهم، فلا يجوز تعميم حالته على صحيح مسلم أو غيره، فالغلط يقدَّر بقدره؛ ولكن القرآنيين أخذوه وسمعوا به وعمَّموه على كل حديث، وعلى كل كتاب، وهذا أمر بيِّن البطلان.

ومن ذلك أيضًا مغالطات ضرب الرواة وخاصة المكثِرين منهم مثل سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه فقالوا: إن مروياته جاوزت خمسة آلاف حديث، وأنَّى له ذلك؟! فالعدد كبير وزمن ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم جد قصير، وهذه الأغلوطة ترديها الحقائق التالية:

 أولاها: إن العدد الحقيقي لمرويات أبي هريرة بعد حذف الطرق والشواهد لا يزيد عن (1300)حديث، وهو عدد قليل بالنسبة إلى مدة صحبته.

 ثانيها: لو فرضنا أن عدد مروياته (5000) حديث وقسمناها على مدة صحبته وهي(1460) يومًا لوجدنا أنه كان يحفظ ثلاثة أحاديث في كل يوم وهو أمر طبيعي.

 ثالثها: ليس كل ما رواه أبو هريرة شافهَ به النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد كان كغيره من الصحابة يروي بعضهم عن بعض، ومرسل الصحابي متفق على قبوله.

رابعها: إن من صغار العمر من الصحابة كابن عباس من بلغت رواياته الألوف، فلو صح الشك بمرويات أبي هريرة لكان الشك بمرويات ابن عباس أولى.

 خامسها: ما انفرد به أبو هريرة من الروايات نزر يسير، والباقي شاركه فيه صحابة آخرون.

 سادسها:الحافظة القوية التي تمتَّع العرب بها، فلقد بلغ حفظهم من أبيات الشعر عشرات الألوف، فهل يعِزُّ عليهم حفظ كلام أحب الخلق إليهم بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام.

ومثلها من المغالطات قولهم إن رد صحابي رواية صحابي آخر بتعلة عدم إمكان الجمع بينه وبين القرآن، أو معارضته الحس، أو لواقعة عاينها ذلك الصحابي فيه طعن على الأخبار كرد عمر رضي الله عنه خبرَ فاطمة بنت قيس، والذي فيه: أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، ثُمَّ أَخَذَ الأسْوَدُ كَفًّا مِن حَصًى فَحَصَبَهُ به، فَقالَ: وَيْلَكَ، تُحَدِّثُ بمِثْلِ هذا، قالَ عُمَرُ: لا نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:

 (لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ ) إن هذا وإن صحِّف لا يلزم منه أبدًا الطعن على الأخبار كلها، أو الطعن في علم الحديث، فعمر رضي الله عنه في ذلك كان يمارس علم الحديث، وإنه إن كان رد خبرًا فلقد قبل أخبارًا، وذلك كله رأي لعمر رضي الله عنه، ثم إن سلوكه هذا هو سلوكٌ لعلماء الصحابة، فكلهم كان يتثبت في الأخبار ويتحرَّى الصدق فيها، وعلى ذلك سار علماء الحديث. فعلم الحديث ثابت مستقر لا يطعن عليه إلا الجَهول الذي ليس له مُسكةٌ من علم؛ وعليه فإن ممارسة عمر وغيره لعلم الحديث تعزِّزه ولا تطعن عليه، مع العلم أن الرد للخبر رأي للصحابي لا يَلزمُ غيرَه، فغيره قد يقبله ويمضيه؛ إذ القواعد وطريقة التفكير واحدة ولكن تتفاوت وتختلف المعلومات المسبقة.

أما طعنهم في السنَّة من طريق التدوين، فهو قولهم أن السنَّة تأخر تدوينها لقرن ونصف من الزمان، فكان تناقلها الشفوي عرضة للوضع والغلط والخلط، وهذه الدعوى مغالطة احترافية إلا أن سقوطها حتمي قدَّام الحقائق، وهي أن التدوين لم يتأخر بالكلية حتى ذلك الزمان. فلقد وجد التدوين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ من المعلوم أن أجزاء من السنَّة تم تدوينها في حياة الرسول نفسه، وبتوجيه مباشر منه، من ذلك كتبه ورسائله لرؤساء الشعوب وزعماء العشائر والاتفاقات والمعاهدات والتصالحات التي جرت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مجموعة الآن في وثيقة قيمة، وبعضها مختوم بخاتمه صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك كتبه صلى الله عليه وسلم إلى عماله، وكان يذكر لهم فيها ما يعينهم على الفصل في الخصومات التي ترفع إليهم في ولاياتهم. ومثل أحكام الصدقات (الزكوات) والديَّات والميراث وبعض السنن، ويذكر في ذلك صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة الإمام علي، وكما كتب عام فتح مكة بأمر من النبي لأبي شاه اليمني. فالقول بأن عصر النبوة خلا تمامًا من تدوين السنة قول فيه بعد عن الصواب.

على أن التدوين آنذاك كان قليلًا لعدم الضرورة، فالسنَّة كانت محفوظة في صدور الرجال وأي رجال؛ رجال القرون الأولى الذين لم يفشُ الكذب فيهم، ولم تبلَ عليهم عباءة الدين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي اختلاط ما يكتبون بالقرآن فلم يسمح لهم بالتدوين الجماعي وإن سمح بالتدوين الفردي. وكذلك الحال كان في عهد الخلفاء الراشدين من بعده؛ إذ إنهم لم يُعنوا بالتدوين الجماعي للسنَّة لعدم الحاجة إلى ذلك، ولئلا يشغلوا حديثي العهد بالإسلام بما يمكن أن يوجد من تعارض بين الأخبار.

هذا والقول إن التدوين تأخر كثيرًا، وأنه كان أواسط القرن الثاني أو كان في القرن الثالث قول فيه تهويل وخداع؛ لأن تدوين السنة بدأ مع بداية القرن الثاني الهجري (عام 101هـ) في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فقد رأى هذا الإمام المسارعة إلى جمع السنة وكتابتها وتدوينها، خشية أن يضيع منها شيء، أو يلتبس الحق منها بالباطل من غيرها، فكتب إلى بعض الراسخين من العلماء، في نهاية القرن الأول الهجري، وبداية القرن الثاني، حسب مواقعهم من الأمصار الإسلامية.

روى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن حزم: «أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سننه، أو حديث عمر، أو نحو هذا فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء» وبما انتظم يكون الكلام عن تشكيك القرآنيين في المتون والرواة والتدوين قد اكتمل.

أما عن كونهم أبطلوا طاعة الرسول، فيغالطُ القرآنيونَ لإنكارِ حجيةِ «السنةِ الواقعيةِ» وهي كونُنا مأمورينَ باتباعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في أقوالِه وأفعالِه وتقريراتِه، ويجازفونَ فيقولونَ إنه لم يرد في القرآن آيةٌ واحدةٌ تدلُ على ذلكَ فقولُه تعالى: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) المقصود به الطاعة للرسالة وهي القرآن، وقوله تعالى: (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ) المراد به ما ورد في سياق الآيات وهي الغنائم نعم. هكذا يقولون وبهذا يلبِّسون، وسنلبِّس عليهم ما يلبسون. فالتوجيه للآية الأولى لا يسلم لهم؛ لأن الله أثبت الطاعة المستقلة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أراد القرآن فقط لما قال: (وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) وأما التوجيه للآية الآخرة فتحكمٌ محضٌ لا خلاصَ له من كون الآية عامة ألفاظها و«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» فلفظ (مَا) شامل للقرآن وغيره.

ويقول القرآنيون بالفرقِ بينَ مقامِ النبوةِ، ومقامِ الرسالةِ فيْ وجوبِ طاعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فطاعتُه واجبةٌ حيثُ يكونُ رسولًا في الرسالةِ، وهي غيرُ واجبةٍ حيث يكونُ نبيًا يحكمُ بما يراه لزمنه وقومه، وعليه فيه يرد الخطأ والزلل، وهذا قول مغرقٌ في الجهلِ والعمهِ لجهاتٍ عديدة منها: إنَّ من القرآن ما لم يفرِّق في وجوب الطاعة بين الصفتين، ومنه قوله تعالى:

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥ )، وكذا قوله تعالى: (قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ… )ثم؛ إنَّ الله تعالى يقولُ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ… ) فإذا كان خطابه هذا للنبي لا يعمنا ولا يلزمنا، فإن الغلول والخيانة تكون لنا جائزةً حينها، وهذا باطل لا محالة. على أن ما ورد في حق النبي صلى الله عليه وسلم من عتاب فهو كائن في التطبيق لا التبليغ والتشريع. وعتاب الله له لم يكن لخطأ وإنما لمخالفته الأولى؛ حيث إنَّ مخالفة الرسول لأوامر الله من قبيل المحال، وهذا هو الحالُ في الأسرى والامتناعِ عن الحلال وغيره. حتى إنَّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفرِّقون بين حال التبليغ وحال التطبيق؛ إذ يعتريان النبيَ صلى الله عليه وسلم كما في بدر والحديبية وغيرها من المواطن، وبذا يبين وهنُ ذلك التفريقِ وتبابُ غرضِه.

ومن مغالطات القرآنيين في إبطال طاعة محمد صلى الله عليه وسلم القولُ إنَّ التحريم لله وحده، وليس لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم، والقول إن النبي صلى الله عليه وسلم له أن ينهى فقط ونهيه هذا لزمنه لا لكل الأزمان هو قول لا أصل له، وهو قول قبيح لا يخرج إلا عن عابث وجاهل. فالله تعالى أثبت التحريم لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو مشرِّع، فقال: (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ…) أما قوله تعالى:

 (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ) والقول إن هذه الآية دليل على أن ليس للنبي أن يحرِّم قولًا بيِّن البطلان، فالنبي لم يحرم ما أحل الله؛ إذ التحريم هنا بمعنى أنه حلف أن لا يفعل، بدليل قوله تعالى: (قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ…) وخطاب الله تعالى لنبيه هنا ليس هو خطابَ تخطئةٍ ولا عتابٍ حتى. وإنما هو خطاب تنبيه على أنه خالف الأولى، ولا يسلم لأحد أن يقول إن النبي حرَّم بمعنى أنه اعتقد حرمة الحلال فهذا كفر، والكفر على النبي محال، ولا أن يقول أحد إن النبي خالف ممنوعًا، فهذا خَرْمٌ في النبوة على أن النبي له أن يمتنع عن الحلال إذا أراد، بدليل قوله تعالى: (كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ... ) ولعل الله تعالى نبَّه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما سبق خشية أن يعمَّ التحريم أمته، وأن يظن المسلمون تحريمه، وهذه نكتة لطيفة وإشارة دقيقة جليلة على كونه صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة في كل ما يصدر منه، فلو لم يكن كذلك لما منعه من ذلك والله تعالى أعلم.

وبهذا يكمل الكلام عن فرقة القرآنيين من حيث نشأتهم وأغاليطهم والرد عليها لتبقى الحقيقة ساطعة كالشمس في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة في فعله وقوله وتقريراته، وأن لا سبيل إلى ذلك إلا أخبار الصادقين ومروياتهم، وأن الرواية من قبيل الشهادة. ولقد أمرنا الله بقبول شهادة الصادقين، فكانت روايتهم مقبولة مع أن نقد وتحري العلماء للروايات أشد وأحرز مما يكون من القضاة في الشهادات.

 فكان صيارفة الحديث يخضعونه للنقدين النقد الداخلي والنقد الخارجي، وكان نقد المتون هو الأصل لنقد الأسانيد، فكان أولئك العظماء يجمعون كل روايات الرجل فينظرون فيها وفي أحواله كلها حتى يحصل لديهم تصور إحاطة برواياته، ثم يأتي بعد ذلك أقزام الزمان ليتطفَّلوا على كلام الجهابذة، وليتطاولوا على العمالقة… عافانا الله وإياكم من بلاء الجهل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *