العدد 402-403-404 -

السنة الرابعة والثلاثون – رجب – شعبان – رمضان 1441هـ – أذار – نيسان – أيار 2020م

فارس الإسلام الإمام العابد المجاهد السّرْمَاري

محمود هلال – تركيا

نحن في مقالنا هذا، سنتناول شخصية إسلامية عابدة وعالمة ومجاهدة، ولعل من يقرؤها من علماء هذا الزمان أن يحذوَ حذوَهم فيكونوا في الصفوف الأولى العاملة للتغيير. وإن الناظر إلى حال الأمة في وضعها الراهن يجد أنها أحوج ما تكون إلى علماء ربانيين يرشدونها إلى طريق الحق والنجاة في مساربِ هذه الحياةِ، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، ومنارات الهدى التي تنير للناس الطريق ليصلوا إلى مدارج التوفيق، فَعَنْ أبي الدرداء رضي الله عنهقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وإنَّ العُلَماءَ ورَثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذه أخَذ بحظٍّ وافرٍ». وهنا سطور عن الإمام العابد المجاهد بنفسه وماله أَحْمد بن إِسْحَاق السّرْمَاري، صاحب المشاهد والمواقف العظيمة في الزهد والجهاد.

اسمه ونسبه:

أَحْمد بن إِسْحَاق بن الْحصين بن جَابر بن جندل أَبُو إِسْحَاق السّلمِيّ البُخَارِيّ المعروف بالسّرْمَاري، وسرمارى قرية من قرى بُخَارَى، وهو والد أبي صفوان إِسْحَاق بن أَحْمد. أخرج البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَصفَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغزوة الْحُدَيْبِيَة والتوحيد وَتَفْسِير الْفَتْح وَغَيرهَا عَنهُ عَن عبيد الله بن مُوسَى وَعُثْمَان ابن عمر بن فَارس ويعلى بن عبيد وَعَمْرو بن عَاصِم.

مولده ونشأته:

ولد هذا الإمام الجليل في قرية سرمارى التي تبعد حوالى عشرين كيلومترًا عن بُخَارَى، تلك المدينة الجميلة الراقدة في أحضان الخضرة الممتدة في وادي نهر السند والواقعة الآن في دولة أوزبكستان. لم يصل إلينا من سيرة هذا الإمام الزاهد المجاهد أَحْمد بن إِسْحَاق السّرْمَاري، سوى أسطر قليلة على الرغم من أهميته كرجل علم وجهاد، ويكفيه أنه أحد شيوخ الإمام البخاري، ويعود الفضل في تسليط الأضواء عليه للائمة السمعاني، الذهبي، وابن حجر العسقلاني.

سيرته وثناء العلماء عليه:

كان السّرْمَاريّ إمامًا في العلم والزهد، كما كان فارسًا لا يشق له غبار، فلم يركن إلى حلقات العلم تلميذًا أو أستاذًا فحسب، وإنما مارس العلم والجهاد معًا، فكان متطوعًا في الحملات التي تخرج للجهاد وصدِّ هجمات العدو؛ ولذلك اشتهر بلقب المـُطَّوِّعي حيث كان المـُطَّوِّعون لا يقلون أهمية عن القوات النظامية في الدفاع والهجوم في كل ثغور ورباطات المجاهدين.

قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: (الإمام، الزاهد، العابد المجاهد، فارس الإسلام أبو إسحاق)، (وكان أحد الثقات، وبشجاعته يضرب المثل) (أخبار هذا الغازي تَسُرُّ قلب المسلم).

قال إبراهيم بن عفان البزاز: كنت عند أبي عبد الله البخاري، فجرى ذكر أبي إسحاق السّرْمَاري، فقال: «ما نعلم في الإسلام مثله»، فخرجتُ، فإذا أحيد رئيسُ المـُطَّوِّعة فأخبرتُه، فغضبَ ودخل على البخاري، وسأله، فقال البخاري: «ما كذا قلتُ. بل: ما بلغنا أنه كان في الإسلام ولا في الجاهلية مثلُه».

قال إبراهيم بن شماس: كنت أكاتب أحمد بن إسحق السّرْمَاري، فكتب إليَّ: إذا أردتَ الخروج إلى بلاد الغُزَيَّة في شراء الأسرى، فاكتب إليَّ، فكتبتُ إليه، فقدم سمرقند، فخرجنا، فلما علم َجَعْبَوَيه استقبلنا في عِدَّة من جيوشه، فأقمنا عنده، فعرض يومًا جيشه، فَمَرَّ رجل فعظَّمه وخلع عليه، فسألني عنه السّرْمَاري، فقلت: «هذا رجل مبارز، يُعَدُّ بألف فارس»، قال: «أنا أبارزه»، فسكت، فقال جَعْبَوَيه: «ما يقول هذا؟» قلت: «يقول كذا وكذا»، قال: «لعله سكران لا يشعر، ولكن غدًا نركب»، فلما كان الغد ركبوا، فركب السّرْمَاري معه عمود في كُمِّه، فقام بإزاء المـُبارز، فقصده، فهرب أحمدُ حتى باعده من الجيش، ثم كَرَّ، وضربه بالعمود فقتله، وتبع إبراهيم بن شِماس، لأنه كان سبقه، فَلَحِقه، وعلم جعْبَوَيه، فجهَّز في طلبه خمسين فارسًا نقاوةً، فأدركوه، فثبت تحت تَلٍّ مختفيًا، حتى مَرُّوا كلّهم، واحدًا بعد واحد، وجعل يضرب بعموده من ورائهم، إلى أن قتل تسعةً وأربعين، وأمسك واحدًا، قطع أنفه وأذنيه، وأطلقه ليخبِر، ثم بعد عامين تُوفي أحمد، وذهب ابنُ شِماس في الفداء، فقال له جَعْبَوَيه: «من ذاك الذي قتل فرساننا؟» قال: «ذاك أحمد السّرْمَاري»، قال: «فلمَ لم تحمله معك؟» قلت: «توفي»، فصَكَّ في وجهي، وقال: «لو أعلمتني أنه هو لكنت أعطيته خمسمائة برذون – ضرب من الدواب – وعشرة آلاف شاة».

قال غنجار: سمع محمد بن خالد وأحمد بن محمد، قالا: سمعنا عبد الرحمن ابن محمد بن جرير، سمعت عبيد الله ابن واصل، سمعت أحمد السّرْمَاري يقول، وأخرج سيفَه، فقال: «أعلم يقينًا أني قتلت به ألفَ تركي، وإن عشت قتلتُ به ألفًا أخرى، ولولا خوفي أن يكون بدعةً لأمرت أن يُدْفَنَ معي».

وعن عمران بن محمد المطوعي، قال: سمعت أبي يقول: (كان عمود السّرْمَاري ثمانية عشر مَنًّا –المَنّ رطلان عراقيان- فلما شاخ جعله اثني عشر مَنًّا، وكان يقاتل بالعمود)

وعن محمود بن سهل الكاتب قال: (كانوا في بعض الحروب يحاصرون مكانًا، ورئيس العدو قاعد على صُفَّة، فرمى السّرْمَاري سهمًا، فغرزه في الصُفَّة، فأومأ الرئيس لينزِعَه، فرماه بسهم آخرَ، خاطَ يَده، فتطاول الكافر لينزِعه من يده، فرماه بسهم ثالث في نحره، فانهزم العدو، وكان الفتح).

زهده في الدنيا:

قال ولده أبو صفوان : وهب المأمون لأبي ثلاثين ألفًا، وعشرة أفراس، وجارية، فلم يقبلها.

ومن أقواله:

عن أحمد بن إسحاق قال: «ينبغي لقائد الغُزاة أن يكون فيه عشرُ خِصال: أن يكون في قلب الأسد لا يَجْبُنُ، وفي كِبَر النَّمِرِ لا يتواضع، وفي شجاعة الدب يقتل بجوارحه كلِّها، وفي حَمْلة الخنزير لا يُوَلِّي دُبُرَه، وفي غارة الذئب إذا أيِس من وجهٍ أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنَّمْلة تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي الصبر كالحمار، وفي الوَقاحة كالكلب لو دخل صيدُه النارَ لدخل خلفه، وفي التماس الفرصة كالدِّيك».

وفاته:

عن بكر بن منير قال : رأيت السّرْمَاري أبيض الرأس واللحية، ضخمًا، مات بقريته، فبلغ كراء الدابة إليها عشرة دراهم، وخلف ديونًا كثيرة، فكان غرماؤه ربما يشترون من تركته حزمة القصب بخمسين درهمًا، إلى مائة، حبًا له، فما رجعوا حتى قضي دينه .

قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: توفي في شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وأربعين ومائتين رحمه الله تعالى، فإنه كان مع فرط شجاعته من العلماء العاملين العبَّاد .

 

خاتمة:

سيرة الإمام السّرْمَاري ماهي إلا صفحة من صفحات العلماء الربانيين الذين صدعوا بالحق أمام الأمراء والسلاطين، وقاموا بأداء هذه الأمانة الغالية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاهدوا أفضل الجهاد وأشرفه وأعظمه، جهادًا تبقى صفحته مدى الأيام ناصعة منيرة بيضاء، تهدي وتشد أزر العاملين.

ومن يقلب صفحات التاريخ الإسلامي يجده حافلًا بنماذج من العلماء الأفذاذ الذين حملوا هذا الدين بجد وإخلاص. هؤلاء العلماء الربانيون الذين جمعوا إلى الفقه البصر بالسياسة، وعلى أكتافهم وصل الإسلام إلى ما وصل إليه.

بأمثال أَحْمَدُ بنُ إِسْحَاقَ ،كانت أمة الإسلام تزخر برجال أفذاذ عبَّاد علماء مجاهدون ربانيون، صنعهم الإسلام وصقلتهم أحكامه فكانوا شخصيات إسلامية بارزة في تاريخ هذه الأمة العظيمة، جعلوا همهم مرضاة رب العالمين، ومن غير أن تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، صدقوا مع الله فصدقهم وأحبوه فأحبهم .

ما أحوجنا اليوم إلى سيرة هؤلاء الأعلام لنقتفي أثرهم ونستنير بهم لنخط تاريخًا جديدًا مشرقًا لهذه الأمة ونعيد سيرتها الأولى خير أمة أخرجت للناس، تقوم عليها خير دولة هي دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.

اللهم ما أعطيتَنا مما نحبُّ فاجعله قوة لنا فيما تحب، وما زويتَ عنا مما نحب فاجعله فراغًا لنا فيما تحب، اللهم أحيِ قلوبنا بحبك، واجعل سعينا في مرضاتك… وانصرنا وعجِّلْ لنا ولهذه الأمة بالفرج الكبير. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *