العدد 402-403-404 -

السنة الرابعة والثلاثون – رجب – شعبان – رمضان 1441هـ – أذار – نيسان – أيار 2020م

حزب التحرير… سنته في التغيير وإقامة الخلافة هي ( سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا )

أحمد المحمود

إن قيام حزب التحرير امتثالًا لقوله تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) إنما كان بعد أن درس الواقع الذي تعيش فيه الأمة، ووجد أن الغرب قد فرض على الأمة أن تعيش بعيدًا عن التحاكم بالإسلام، (هدم دولة الخلافة، وقسمها إلى دويلات، وفرض على كل منها دساتير الكفر لتتحاكم إليها في حياتها، مبقيًا لها من الإسلام ما يتماشى مع فهمه للدين القائم على الفصل عن الحياة وهو، أي الغرب، من أجل أن لا تعود الأمة إلى ما كانت عليه من أمة واحدة، وخليفة واحد، وبلاد موحدة، ونظام حياة واحد، فرض عليها مناهج تعليم الإسلام على طريقته، وحرص على تخريج علماء يفهمون الإسلام فهمًا ناقصًا مختلفًا عن طريقة فهم الإسلام بشكل صحيح، وهذا ما حدث وأدى بالتبع إلى أن يعمَّ هذا الفهم الناقص والمختلف بين المسلمين…

القرن الذي قام فيه حزب التحرير هو قرن تجديد آن أوانه:

نعم، إن حزب التحرير بعد هذه الدراسة، وهذا الإدراك لواقع عيش المسلمين، وجد أن الواجب الشرعي على المسلمين الذي يعيد الأمور إلى نصابها الشرعي الذي يرضي الله سبحانه هو إقامة الخلافة الإسلامية الراشدة، على غرار الخلافة الراشدة الأولى التي كانت الوريث الشرعي للرسول صلى الله عليه وسلم في الحكم، والتي تقيم أحكام الدين كلها في الحياة، وتعيد وحدة الأمة ووحدة الدولة، وتجعل المسلمين يفهمون دينهم فهمًا صحيحًا قائمًا على العبودية لله وحده، وعلى تعبيد الناس له سبحانه وحده، ويعيشون على ذلك… وهذا الفهم يعني فيما يعنيه القيام بعملية تجديدٍ للدين، وبعثٍ جديد له. وهذا يذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها».

هذا وقد ذهب العلماء باتجاهين في تحديد القرن:

الاتجاه الأول، قدره بعدد سنوات على أقوال، أرجحها ما ذهب إليه الأمام أحمد رحمه الله الذي جعلها مئة سنة؛ حيث قال: «ليس هناك ما يثبت أنّ القرن مئة سنة أكثر مما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام بما رواه عبد الله بن بسر عندما وضع الرسول يده عليه، فقال: «وضعَ رسولُ اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – يدَه على رأسي فقالَ يعيشُ هذا الغلامُ قَرنًا» فعاش مئة سنة. والناظر في الوقت الذي هدمت فيه الخلافة وهو سنة 1342ه ونحن اليوم في سنة 1441ه، يرى أن الأمة قد قاربت القرن في عيشها خارج الحكم بما أنزل الله.

الاتجاه الثاني: لم يقدره بعدد وإنما بحالة؛ حيث ذهب إلى أنّ القرن لا يُقدّر بالسنوات، فقد نقل الواحدي عن الرازي أنّ القرن هو الفترة التي يجتمع فيها قوم معيَّنون في زمن معين ويفترقون بالموت وينتهي زمنهم، ثم يأتي من بعدهم أقوام آخرون ويُشكِّل كل قوم قرنًا… إنّه يدل على عصر معين فإذا انقضى العصر سُمّي قرنًا. وهذا يتوافق مع ما استعمله القرآن للفظ القرن، فقد سمَّى سبحانه الأمم التي سبقت وحاربت رسل الله في دعوتهم إلى الحق بالقرون؛ حيث قال الله تعالى: (وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ) وقال تعالى: (وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ) وقال أيضا:ً (وَقُرُونَۢا بَيۡنَ ذَٰلِكَ كَثِيرٗا) ويمكن القول إنّ القرن في القرآن الكريم هو القوم الذين يجتمعون في مكان واحد وزمان واحد، وجمعه قُرون، كما يطلق على الزمان، أو على العصر مهما طال وقته.

 وجمعًا بين الاتجاهين بالنسبة إلى واقعنا نرى بأنه فيما يتعلق بالأمة الإسلامية، فقد مضى عليها ما يقارب المئة سنة هجرية من هدم دولة الخلافة، وهذا يناسب الاتجاه الأول في تحديد القرن بالفترة الزمنية، فعسى أن يكون الأمر كذلك، والعلم عند الله.

وهنا يجدر القول: إن الواقع الذي نعيش فيه هو عصر الحكم الجبري، في نهايته، وتحديدًا في مرحلة الانتقال إلى عصر الخلافة الراشدة الثانية التي تكون على منهاج النبوَّة الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وفيه: «… ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»… ويمكن القول إن الله سبحانه شاء أن يكون عمل حزب التحرير في التغيير قائمًا على هذا الأساس، ونسأل الله أن نكون في الحزب كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن معاوية قال: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك». ففي ذلك إكرام للحزب وأي إكرام، وإكرام للأمة التي ستكون معه في إحقاق الحق ونشر الدين.  

 أما بالنسبة إلى الاتجاه الثاني المتعلق بالحالة، وهي سيطرة الرأسمالية على دول العالم وتحكمها في كل مفاصل الحياة فيها، أي العصر الرأسمالي، فإننا نلحظ أنه قد استنفذ أهدافه، وبان فساده وضرره حتى أضحى يشكل خطرًا عظيمًا على العالم أجمع بمن فيه أهله، وجعل جميع الناس، مسلمهم وكافرهم، يشعرون أن هذا المبدأ في آخر أجله، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ) يقول ابن كثير في تفسيره: «ولكل أمة (أي: قرن وجيل) أجل، فإذا جاء أجلهم) أي: ميقاتهم المقدر لهم) لا يستأخرون ساعة (عن ذلك) ولا يستقدمون». ويقول القرطبي في تفسيره: «وأجل الموت هو وقت الموت، كما أن أجل الدين هو وقت حلوله». ويقول الطبري: «ولكل أمة أجل: ولكل جماعة اجتمعت على تكذيب رُسل الله، وردِّ نصائحهم، والشرك بالله مع متابعة ربهم حججه عليهم «أجل» يعني: وقت لحلول العقوبات بساحتهم، ونـزول المثُلات بهم على شركهم، فإذا جاء أجلهم، أي: فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، يقول: لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا، ولا يُمَتَّعون بالحياة فيها عن وقت هلاكهم…».

عمل حزب التحرير في التجديد:

 ثم إنَّ عمل الحزب في تجديد الدين يقتضي منه أن يكون، في فهم الإسلام وفي الدعوة إليه، على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي». من هنا وجد الحزب أن الأمة تحتاج إلى إحداث نهضة فيها، فطرح مشروعه للتغيير متلمسًا إعادة الأمة إلى ما كانت عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يحقق ذلك، كانت البداية أن يطرح فهمه للإسلام على ما كان عليه الرعيل الأول من المسلمين، خير القرون، الرسول وصحبه، وأن يسير كما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة من أجل إقامة الدولة الإسلامية كالتي أقامها الرسول في المدينة؛ ليصل إلى تطبيق الإسلام في الحياة وجعل حياة المسلمين قائمة على العبودية لله وحده، وحمل الدعوة للعالمين عن طريق الجهاد الذي يفتح الله به البلاد وقلوب العباد؛ ويَظهر فيه الإسلام على الدين كله… وهكذا يكون تجديد الدين.

وعليه، فإن تجديد الدين اقتضى من الحزب أن يعمل على إعادة النقاء إلى فهم العقيدة الإسلامية لتعود كما كانت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فأقامها الحزب على الأدلة القطعية (العقلية منها والنقلية) وجعل العقيدة الإسلامية هي الأساس لكل تصوُّر فكري عن الحياة، والمسيِّرة لأعمال المسلم، والضابطة لأقواله، والناظمة لإشباع غرائزه. وأبعد عنها التأثر بالفلسفة اليونانية من علم الكلام في صفات الله، والقضاء والقدر، والهداية والضلال… وأزاح الغشاوات عن مفهوم الرزق والأجل والروح والروحانية… وكذلك اقتضى التجديد من الحزب إعادة النقاء إلى أصول الفقه وإبعاد المنطق عنها، وحصر مصادر التشريع بأربعة فقط هي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة دون غيره من الإجماعات، والقياس الشرعي المستند إلى النصوص الشرعية فحسب، ثم بنى ثقافته الفقهية اللازمة لعمله عليها كمصادر، وعلى القواعد الشرعية وكان منضبطًا بها، فما تبنَّى حكمًا إلا وذكر طريقة استنباطه له مراعيًا بناء الشباب عليها. ولئن كانت العقيدة الإسلامية تقوم على عبادة الله وحده دون إشراك؛ فقد كان ما تبنَّاه الحزب من أصول للفقه هو الضابط المحقق لفقه يحقق هذه العبودية تمام التحقيق، من غير تأثر بالظروف ولا سير بحسب المصلحة، ولا أخذ لأحكام الأمر الواقع، وإنما بحسب الشرع حصرًا؛ بحيث يكون الشرع وحده هو مصدر التفكير حصرًا، والواقع هو موضع التغيير وليس العكس. ووضع كتبًا فكرية راقية وأخرى سياسية لازمة له في عمله، وضبطَ عمله بنظام إداري صارم ليمنع تشرذمه وانشقاقه، وهذا أمر في غاية الأهمية. فكانت فكرة التبني، والجزئية الحزبية، والطاعة، والثقة بالأمير، والبر بالقسم… هي من الأمور اللازمة شرعًا للحفاظ على وحدة الحزب؛ بحيث لا تتم هذه الوحدة إلا بها. والتي لولاها لكان الحزب أثرًا بعد عين. ولما استطاع أن يستمر طيلة هذه الفترة، بل هو استمر بها، وكان استمراره بها مثار إعجابِ حتى الأعداء. إن هذا الذي نذكره من التزام للحزب بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي هو مثار فخر لنا، كان للأسف مثار استهجان واتهام عند الآخرين من حملة الدعوة والعاملين في التغيير، واتهام طريقتنا بالطريقة الخشبية التي لا تراعي الظروف، وتعيش في النص وتغفل عن الواقع، ولا تعتبر المصلحة… ومن يقارن ما عليه الحزب من فهم للإسلام وما كان عليه المسلمون الأوائل يجد أن هناك تماثلًا يطمئن إلى صحة الاقتداء، ويطمع برضى الله ونصره،  

بهذا الفهم للإسلام، وبهذا السلوك لطريق الرسول ،صلى الله عليه وسلم يكون القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد رسما معالم الطريق للحزب، وحدَّدا ما سيواجه دعوته من صنوف الشدة. وهذا الفهم لعملية التغيير تفرَّد بها الحزب، ولا يزال، وعلى من يريد أن يحكم على عمل الحزب، فعليه أن يقيسه على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس على دعوات الآخرين. ومن خلال الانضباط والتقيد الشرعي البعيد عن التأثر بكل ما ليس بشرع.

أما بالنسبة لسلوك الحزب لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الدولة الإسلامية، فإن سلوكها جعله يقوم بمثل ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال كانت ملزمة في حقه، وجعله يمرُّ بنفس ما مرَّ به مع صحابته الكرام من مرحلة التثقيف التي جعل فيها أصحابه ينضجون على الإسلام وتتحفز نفوسهم للجهر به… ومرحلة التفاعل بكل ما فيها من تكذيب وتعذيب وتغريب وإشاعة وحصار… والصبر على كل ذلك، والتي جعلت فكر الدعوة ينتشر ويؤثر، وجعل القائمين عليها تتأهل شخصياتهم ليكونوا رجال دولة وحملة دعوة على طريقة الصحابة رضوان الله عليهم … وهذا ما مرَّ به الحزب فعلًا وما يزال، وهذا ما جعل الحزب بمسؤوليه وشبابه يشعرون بأنهم بسيرهم هذا يعيشون بفترة مشابهة: فكريًا ومشاعريًا وعمليًا ونضجًا وشعورًا بالمسؤولية تجاه المسلمين والناس أجمعين، لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في مكة، يصيبهم ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبل من عنَت ومشقة…

سنة حزب التحرير في التغيير هي سنة الأنبياء من قبله:

نعم، لقد شاء الله لنا أن نكون أولئك الذين يحملون هم إقامة أمر الله على طريقة الرسول وأنبيائه، وشاء سبحانه أن نمر بنفس ما مروا به من ابتلاءات من تكذيب وتعذيب وإخراج وإشاعة واستضعاف وسنة تأخير للنصر… وهنا يمكن القول إن هذه الدعوة إن لم تمرَّ بما مر به الأوائل فهي لن تحقق هدفها وعليها أن تراجع نفسها. ونحن لو عدنا إلى القرآن لوجدنا أن دعوة الرسول، كما الأنبياء، صلوات الله عليهم جميعًا، قد أصابها حالات واحدة تكررت لديهم أجمعين، من استضعاف المؤمنين وقلَّتهم، واستكبار الكفار وجبروتهم وإجرامهم وإيذائهم للمؤمنين. وتكرُّرها يجعلها سنَّة لازمة تصيب كل الدعوات الحقة التي تريد إخراج الناس من الظلمات إلى النور. ولما ربطها القرآن بالنصر جزاء على الصبر عليها، كان لا بد من المرور بها حتى يتحقق هذا النصر. ومن هذه المواصفات اللازمة:

– سنَّة استضعاف المؤمنين وقلتهم واستكبار الكافرين وربط ذلك بالنصر من الله تعالى للمستضعفين: لقد ذكَّر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بأن من قبله من الأنبياء مرُّوا في حالة من القلة والاستضعاف وقلة النصير واستعلاء واستكبار الكافرين وربط ذلك بمنَّة النصر من الله سبحانه؛ حيث قال: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ) وقال سبحانه محققًا النصر لموسى ومن معه: (وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ) وعن شعيب وقومه: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ كُنتُمۡ قَلِيلٗا فَكَثَّرَكُمۡۖ وَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ) وكم ترددت مثل هذه الآية في العديد من السور بحق مختلف أقوام الأنبياء الذين استكبروا في الأرض بغير الحق وكان عاقبة أمرهم خسرًا، فقال سبحانه: (قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ) (عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ) (عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ) عَٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِينَ) (عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ). وكلُّنا قد قرأ كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في ذروة استضعافه «اللهم إني أشكو إليك ضَعف قوَّتي وقِلَّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي! إلى مَن تَكلُني؟! إلى بعيدٍ يتجهَّمُني؟!، أم إلى عدوٍّ ملَّكتَه أمري؟!، إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ، فلا أبالي…». ثم إن الله سبحانه أنزل في المدينة مذكِّرًا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين يوم كانوا في مكة مستضعفين فقال سبحانه: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) فاتِّباع طريقة الرسول والأنبياء هي بنفسها تقصد أن توجد هذه الحالة لأنها تولد الصبر، وعدم التخلي عن الدين تحت أي ظرف، وتساهم في بناء أهل الإيمان، وتجعلهم يتخلون عن حظوظ الدنيا، فالنفس المريضة تستهويها القوة على الحق، والخوف على الحياة. وبمثل هذه الصفات تخرج خير أمة للناس… ثم لو نظرنا إلى الآية لوجدنا أنها تربط حالة الاستضعاف بالنصر(وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ) (وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا) (فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ)، وهذا الربط يجعل هذه السنة لازمة للنصر.

– سنَّة التكذيب والتعذيب والإيذاء وربط ذلك بالنصر من الله تعالى على الصبر عليه: من يقرأ القرآن يجد أن أنبياء الله تعالى ورسله، بمن فيهم رسولنا الكريم، فضلًا عن تعرضهم للسبِّ والشتم والاستهزاء من قبل أعدائهم، والدعاية السيئة ضدهم، ومن ذلك قولهم عن سيدنا محمد: (قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۢ)  وعن نوح (فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ) وعن موسى: (ثُمَّ تَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٞ مَّجۡنُونٌ) وعن هود: (قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦٓ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ)هم كذلك قد تعرضوا للتكذيب والإيذاء، وربط ذلك بالنصر، قال تعالى: (وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَآءَكَ مِن نَّبَإِيْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ)  كذلك فقد رُوي عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تَستنصر لنا؟! ألا تَدعو لنا؟! فقال: «قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفينِ، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»

– سنة البأساء والضراء وربطها بالنصر: إن لله سبحانه وتعالى كان يصيب الأمم التي كانت تأتيهم رسلهم لتبلغهم دين الله بسنة البأساء والضراء لعلهم يتضرعون، (وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ) وعن ربط هذه السنة بالنصر قال الله تعالى: (أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ).

– سنَّة الإخراج من البلد وربطه بالنصر: قال تعالى عن الأنبياء السابقين: (وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةٗ مِّن قَرۡيَتِكَ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَتۡكَ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ فَلَا نَاصِرَ لَهُمۡ) وقال سبحانه: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ) وقال عن رسولنا الكريم: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

– سنَّة تأخير النصر: وعن هذه السنَّة وربطها بالنصر، قال تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡ‍َٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ) وقال تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ). ووصف الرسول للصحابي خبَّاب بن الأرتّ الذي سأله أن يطلب من ربه النصر، وصفه بالاستعجال بقوله له: «ولكنكم تستعجلون».

 لا شك أن في تأخير النصر اختبارًا للمؤمنين وليتعلموا حسن الالتجاء إلى الله، وحسن التوكل عليه، فلو كان الطريق إلى النصر سهلًا لسار فيه الناس أجمعون ولذهب سريعًا كما أتى سريعًا، وكما قال الشاعر:

ومن أخذ البلاد من غير    حرب يهون عليه تسليم البلاد

بل يؤخر الله سبحانه النصر ابتلاءً لعباده، وتمحيصًا لهم، كما قال تعالى: (ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ ) لكن تأخير النَّصر يبيِّن لنا أهلَ الإيمان من غيرهم. فأهل الإيمان ثابتون، وعليهم ينزل نصر الله عز وجل. فهؤلاء أمامهم مهمة كبرى تنتظرهم وهي قيادة البشرية جمعاء قيادة رشيدة؛ من هنا كان النصر معقودًا من الله للمؤمنين الذين يسيرون على خطى رسولهم، ويمرون بسنن الدعوة التي مرَّ بها. وهذه السنن الماضية في كل دعوة حق من لدن آدم وحتى قيام الساعة، حتى لا تكون مصدر تشكيك لدى المؤمنين بعملهم، وحتى تكون مصدر ثقة بها، فقد ذكرها القرآن تثبيتًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تثبيت وموعظة وذكرى لنا من بعده، قال تعالى:

 (وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَآءَكَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةٞ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ). وفي هذا المقام يقول الإمام ابن القيم الجوزية، رحمه الله: كلامًا عميق المعنى بعيد الأثر: «فمن ظنَّ بأن الله لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالةً مستقرةً، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإنَّ حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظنَّ به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته»

وهنا نذكر أن الاستخلاف كما هو مربوط بما عليه المؤمنون من مواصفات، هو كذلك مربوط بما عليه الكافرون من معاندة وقطع كل حجة لهم يوم القيامة. فالله سبحانه يريد أن يقيم الحجة على الكافرين بعد أن تأتيهم دعوة الرسل، فقد جعل الله سبحانه موعدًا للكفار بالهزيمة، كما جعل موعدًا للمؤمنين بالنصر. وهذا يجب حسابه عند المؤمنين، كما يجرون الحساب على أنفسهم. ففي الوقت الذي يحاسب المؤمنون أنفسهم على الطاعة والالتزام وعدم الحيد عن أمر ربهم ومراجعة أنفسهم وأحكام طريقتهم… حتى يستحقوا النصر. فكذلك الكفار هناك حجة يجب أن تقوم عليهم، وعندما يصل الكافرون إلى حد من استضعاف المؤمنين وظلمهم والصد عن الدعوة وتكذيبها والإشاعة على أصحابها بالتطرف والإرهاب والجمود… وعندما يصلون إلى حالة يشعرون معها أنهم قابضون على الأمر بحيث أنه لا يمكن أن يفلت من قبضتهم، وعندما يصلون إلى حالة أنهم قد صموا وعموا وأنهم لن يؤمنوا… عندها تقام الحجة عليهم، ويأذن الله بالاستخلاف؛ وذلك كما جاء في قوله تعالى: (وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا)، وقوله: (وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ١٣ ثُمَّ جَعَلۡنَٰكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ). وهذه الآية الأخيرة تبين أن الاستخلاف للمؤمنين جاء بعد وصف الله سبحانه وتعالى لحالة الكفار الذين يواجهون الدعوة أنهم وصلوا إلى حالة من الظلم، والإياس من إيمانهم، ومعاداتهم للدعوة والقائمين عليها حتى تكون عندهم هي العدو الأول… عندها يأتي نصر الله. أما متى يحدث هذا؟ ومتى يأتي نصره تعالى فلا يعلم ذلك على الحقيقة إلا الله. أما المؤمنون فيعلمونه على التقريب. وفي هذا يقول تعالى: (حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ).

وهكذا نرى أن الله تبارك وتعالى شاء أن يبتلي رسله وأنبياءه ومن تبعهم بصنوف الأذى والشدائد لتمحيصهم، ورفع درجاتهم، وإقامة الحجة على أعدائهم، وليكونوا قدوة للدعاة والعاملين من بعدهم، ولتتضاعف أجورهم وتتكامل فضائلهم، ويميز الله فيها الخبيث من الطيب، ويسقط فيها من يسقط ويثبت فيها من يثبت، هذا الثبات هو الذي سيساعدهم على أن يصبحوا مؤهلين للنصر وما بعده، قال تعالى: (مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَ‍َٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ) وقال تعالى: (الٓمٓ ١ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ  لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ)

هذا التاخر هو سنة الله في الدعوات، ونحن لسنا أمام تجارب بشرية للتغيير والإصلاح، وإنما هو التزام وتقيُّد بأمر الله من ألفه إلى يائه. ففي حال التأخر، على القائمين بالعمل أن يقوموا بإعادة النظر بما عندهم؛ فإذا تمت مراجعة ما عندهم وتقليب الرأي فيه، ومن ثم لم يجدوا شيئًا… فقد برئت ذمتهم أمام الله، وليس لأحد عليهم أمام الله حجة فيما يقومون به، وما عليهم في هذه الحالة إلا الصبر: الصبر على الالتزام بما عندهم وعدم الحيد عنه، والصبر على لأواء العمل. عندما تكون خطوات السير منضبطة بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ومُدرَك كيف أنها تؤدي إلى النصر؛ بحيث لا يكون هناك فجوة أو فراغ في الطريق، أو انقطاع في العمل لا نعرف بعده كيف نحقق هدفنا الأخير بالنصر، أو لا نعرف أين وصلنا، ولا كيف نكمل المسير… عندها يمكن الاطمئنان أننا نسير على بصيرة من الله، ونعلم أنه قد أصابنا ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من سنة تأخير النصر، كل ما في الأمر أن النصر قد طال، وهناك صعوبات حقيقية في العمل ومحاصرة جدية تؤخر الظهور. وبالمختصر، هناك سنَّة يجب أن تبلغ أجلها…

هكذا يجب أن يكون حساب العمل ومقياسه وميزانه. وهذا الميزان سيختلف عند من لا يرى من المسلمين أن طريق العمل هو نفس طريق الرسول ممن يبنون ثقافتهم الإسلامية من المعاهد الشرعية التي تعلم الإسلام على طريقة الغرب في فهم الدين، فهؤلاء لن يكون مقياسهم وميزانهم وبالتالي حكمهم على ما وصلت إليه الدعوة  من قرب نصر متوافقًا مع الشرع ، بل للأسف سيكون متوافقًا مع مقاييس الغرب في تحقيق النتائج.

 

وفي الختام، يلاحظ أن الحزب قد قطع مراحل العمل وقام بالأعمال المطلوبة منه شرعًا وما يزال. وها هي الأمة قد أصبحت جاهزة لقيام دولة الإسلام فيها، وهذا هو الغرب يخشى من ظهور الخلافة، ويجعل من محاربتها الآن حجر الزاوية في علاقاته الخارجية. وليس ذلك فحسب، بل إنه يتوقع سقوط حضارته… فالجميع اليوم على موعد مع التغيير. مع التجديد.

إن ثمرة عمل الحزب ستكون بإذن الله ومنِّه: خلافة راشدة على منهاج النبوة، وبعدها سيستمر عمله في أن يكون منه رجال حكم في الدولة، أو وسط سياسي فيها، وسيكون محاسبًا للدولة وضامنًا لعدم اعوجاجها… فالصحابة كان دورهم بعد وفاة الرسول كبيرًا وكبيرًا جدًا. وكما أنه عمليًا لا يمكن تصور قيام دولة الخلافة الراشدة من خارج ما يطرحه الحزب؛ لأنه لا وجود لغيره يشاركه فيما يقوم… كذلك لا يمكن تصور استمرارها من دونه، على الأقل في الفترة الأولى ريثما تتهيأ الأمة بعلمائها ليكون منهم رجال الدولة والقضاة والفقهاء والمجتهدون، وليكون منهم القوَّاد العسكريون الأفذاذ، والسياسيون المبدعون… ولو عدنا إلى النصوص الصحيحة، التي وإن لم تبلغ حد التواتر ولكن يصدِّقها الواقع، ونرى الأمور تحدث قريبًا منها، فهناك أحاديث صحيحة أن خلافة راشدة ستقوم في آخر الزمان وستحكم بلاد المسلمين، وأنها ستكون بعد الحكم الجبري الذي يعم بلاد المسلمين، وانها ستكون في أكناف بيت المقدس، وأن المسلمين سيقاتلون يهود في الأرض المباركة وسيقضون عليهم، وأن الإسلام سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأن الخلافة ستفتح روما… وكل هذا نرى بأن الواقع يصدقه وينتظر وقوعه… فهناك حكم جبري يحكم المسلمين والناس قد ثارت عليه في كل مكان، ونرى أن هناك من يدعو إلى إقامة خلافة راشدة وقد أعدَّ لها عدتها، ونرى أنها موجودة في أكناف بيت المقدس، ونرى أن هناك دولة ليهود في الأرض المباركة قد آن أوان إزالتها من الوجود، ونرى أن المبدأ الرأسمالي على حافة السقوط وأن منظومته قادمة على الانفراط، وأن دوله مقبلة على الانقسام، ونرى أن المستقبل لهذا الدين، فما تحدث من مشكلة عالمية اليوم إلا ويظهر الإسلام أنه هو الذي يستطيع حلها. فعندما حدثت الأزمة المالية العالمية وكادت تعصف بالنظام الرأسمالي برمتِّه قال مفكرون في الغرب وسياسيون واقتصاديون أن الإسلام يملك حلها، بل إن نظامه يمنع حدوثها. وها هي جائحة فيروس كورونا والتي تهدد العالم إنما هي تعبر عن أزمة حضارية في الغرب أكثر بكثير مما هي أزمة صحية، والإسلام قد ملك حلًا لها بنصوص أحاديث نبوية شريفة… وهكذا بدأ تأثير الإسلام يلمس في حل المشاكل العالمية قبل أن تقوم خلافته… فكيف إذا قامت. إن إقامة الخلافة الإسلامية الراشدة،كما هي فريضة شرعية على المسلمين، فهي أصبحت ضرورة بشرية لإنقاذ العالم من الرأسمالية ومما ولدته من أزمات. وإن غدًا لناظره قريب.

إن التبشير بإقامة الخلافة فيه اتباع لمنهج نبويّ، فالمسلمون عندما كانوا يحفرون الخندق، وهم يترقبون عدوًا قادمًا عليهم، يتربص بهم الدوائر قد أوعدهم وألَّب عليهم الناس، فلا يدرون في أي لحظة ينقضُّ عليهم، وفي هذه الأثناء عرضت لهم – وهم يحفرون الخندق – صخرة لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله، فوضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، فقال: «بسم الله». فضرب ضربةً، فكسر ثلث الحجر، وقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا!». ثم قال: «بسم الله» وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا!». ثم قال: «بسم الله» وضرب ضربةً أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا».

بقيت مسألة واحدة في البحث، وهي أن هناك شبه اتفاق في الرأي لدى الباحثين في الاستراتيجيا الدولية أن الأوضاع الدولية ستشهد تغييرات كونية، ويتوقعون معها تغيير النظام الدولي، ويخرجون بتصورات مختلفة للنظام الدولي الجديد… ولكن لا أحد يتوقع أن تسفر عملية التغيير عن إقامة دولة الخلافة، وسبب ذلك أن الغرب يعتبر أن ما يقوم به من حرب على الإسلام تحت اسم الحرب على الإرهاب إنما يمنع من إقامتها، والحق هو أن الغرب لن يستطيع منع ظهور أمر الله إذا جاء، قال تعالى: (هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ) هذا قرن الحضارة الرأسمالية قد دنا أجله غير مأسوف عليه، وقرن الإسلام قد حان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *