العدد 397 -

السنة الرابعة والثلاثون – صفر 1441هـ – ت1 2019م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِ‍َٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ٢٦٧ ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ٢٦٨ ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

   أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

لا زالت الآيات في سياق الإنفاق، فبعد أن بيَّن الله سبحانه أن الإنفاق في سبيل الله يجب أن يكون بدون منٍّ ولا أذًى وإلا كان ذلك الإنفاق غير مقبول عند الله سبحانه.

  1. بعد ذلك يبين الله سبحانه في هذه الآية الكريمة ( ٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ ) أن تكون النفقة من الطيب وليس من الخبيث.

ففي الآية الكريمة نهي عن أن يعمد المرء للخبيث من ماله فينفق منه، وهذا النهي جازم بقرينة ما في الآية التالية(  ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ ) ومفهوم هذا المنطوق بدلالة الإشارة يفيد أن الذي يعمد للخبيث من ماله فينفق منه يكون متبعًا لأمر الشيطان، وهي قرينة على الجزم، أي أن النهي المذكور للتحريم؛ وحيث إنَّ النفقة من الخبيث حرام، فهو يعني أن الآية المذكورة هي النفقة الواجبة – الزكاة، ومنه النفقة في سبيل الله أي الجهاد، وأي نفقة وجبت على امرئ – فهي التي يحرم أداؤها من الرديء من المال.

عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله فيها ( وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ ) قال: هو الجعرور ولون حبيق: “فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة[1] أي في زكاة التمر، وهما نوعان رديئان من التمر.

عن عبيدة السلمان قال: سألت عليًا عن قول الله ( ٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ ) قال: فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة – أي الذي يجمع الزكاة – أعطاه من الرديء فأنزل الله سبحانه ( وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ ).

أما صدقة التطوع، فإنه وإن كان الأفضل أن يتطوع المرء بالجيد من ماله من التمر ولا يتـطوع بالرديء من ماله أو القليل منه، إلا أنه لا يمكننا القول بأنه آثم في تطوعه هـذا، وذلك لأنه ليس واجبًا عليه وإن كان في قبول الله له نظر؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب؛ ولذلك فالآية في تقاضي الحق الواجب على المرء فيجب أن يكون من الجيد، ولهذا ضرب الله لهم مثلًا في تقاضي حقوقهم، فلو كان لأحدهم حق على آخر فلا يتقاضاه بالرديء (وَلَسۡتُم بِ‍َٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ ) فهم لا يأخذون الرديء في قضاء حقهم إلا أن لا يروا ذلك العيب والرداءة. وفي ذلك إنكار وتوبيخ لفعلهم في أداء الزكاة من الرديء في الوقت الذي لا يرضون هم تقاضي حقوقهم من الرديء، فكيف يرضون لله ما لا يرضون لأنفسهم؟!

ثم يختم الله سبحانه الآية بأنه الغني عنهم، الذي لا ينتفع بصدقاتهم، بل يجزيهم عليها: مثوبةً إن كانت خيرًا، وعقوبةً إن كانت شرًا (وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ ) ثم إنه سبحانه المستحق للحمد من خلقه على نعمه عليهم، وليس من حمد الله على نعمه أن يؤدي حقه سبحانه من الرديء من أموالهم التي رزقهم الله إياها ( وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ٢٦٧).

( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ ) هو خطاب للمؤمنين بزكاة أموالهم من الجيد منها.

( أَنفِقُواْ ) زكوا.

( طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ ) الجيد من كسبكم.

(كَسَبۡتُمۡ )أي حصلتم عليه في المعاملات كالبيع والشراء والإجارة والتجارة والشركات والإرث والهبة والوصية وأمثالها، أي زكُّوا ذلك، وهو يشمل زكاة (عروض التجارة والنقدين والأنعام).

( وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ ) ويشمل زكاة الزروع والثمار المذكورة في الحديث: “التمر والزبيب والقمح والشعير” وكلّ ذلك بنصابه وشروطه.

( وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ ) أي لا تعمدوا للرديء من أموالكم فتخرجوا منه الصدقة أي الزكاة.

و( ٱلۡخَبِيثَ ) هنا ليس الحرام بل الرديء من المال؛ لأن الخطاب للمؤمنين بإخراج الزكاة من الجيد وليس من الرديء بقرينة ( مَا كَسَبۡتُمۡ ) و( وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ ) وكسب المؤمن لا يكون حرامًا؛ لأن اقترانه بخطاب ( ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ) وصف مفهم على حل كسبه. وهكذا ( وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ )فإسناده لله سبحانه يفيد حلال أصله. والمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين أن يزكوا أموالهم من الجيد منها وليس أن يعمدوا للرديء فيخرجوه زكاة أموالهم.

( وَلَسۡتُم بِ‍َٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ  ).

( تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ  )إما من أغمض الرجل في أمر كذا أي: تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز. أو من تغميض العين كناية عن عدم الرؤية. والأرجح أنها من تغميض العين؛ ذلك لأن الآية في سياق (أن الله لا يقبل قضاء حقه من الرديء من المال في جميع الأحوال لأنها متعلقة بالزكاة، كما لا يقبلون هم قضاء حقهم من الرديء من المال إلا أن يغمضوا فيه) وحتى يصحّ التشبيه وتكون الزكاة غير مقبولة بحال من الرديء من المال فإن هذا يعني أن الاستثناء لا يقع بالنسبة لله سبحانه.

فلو كان المقصود بـ( تُغۡمِضُواْ ) التساهل والتجاوز أي أن الله لا يقبل هذه الزكاة من الرديء كما لا تقبلون أنتم إلا إذا تساهلتم وتجاوزتم، فمعنى ذلك أن الله لا يقبل هـذه الزكاة إلا إذا تسـاهـل وتجاوز أي عفا وهذه ممكنة، وبالتالي تفيد احتمال قبول الزكاة من الرديء إذا تسـاهـل الله سـبحـانه بالنسبة لعبده، وهذا ليس المقصود من الآية، فهي تعني أن الزكاة بالرديء لا يقبلها الله.

وبالتالي يكون ( إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ  ) أي أن لا تروه ولا تعلموا العيب فيه؛ ولأن الله سبحانه منزه عن عدم العلم بحقيقة الأمر، أي أن هذا الاستثناء غير واقع بالنسبة لله سبحانه، ويكون المعنى في هذه الحالة:

إن الله سبحانه لا يقبل الزكاة من الرديء من المال كما لا تقبلون أنتم قضاء حقكم من الرديء إلا أن لا تروا هذا العيب، ولأن الله سبحانه يرى كلّ شيء. فالاستثناء هنا غير وارد بالنسبة لله سبحانه، أي أن الله لا يقبل الزكاة من الرديء بحال من الأحوال.

  1. يبين الله سبحانه في الآية التالية أن الشيطان يخوف أولياءه دائمًا بالفقر، ويوسوس إليهم أن لا ينفقوا من أموالهم فلا يزكوها، وإن اضطروا لذلك فمن الرديء من المال حتى لا يتعرضوا للفقر؛ فيزين لهم السوء وعصيان الله للمحافظة على دنياهم، وتكون النتيجة تعرضهم لعقاب الله سبحانه، فيكون وعد الشيطان لهم مَهلكة ( يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ١٢٠).

ذلك وعد الشيطان: الفقر والفحشاء.

أما الله سبحانه فيعدهم مغفرةً منه وفضلًا. ولم يقل سبحانه: يعدكم غنى في مقابل وعد الشيطان (الفقر) ليشمل وعد الله الفوز في الدارين، فهو وعد بالخير في الدنيا والآخرة، الرزق الحلال الطيب والمغفرة عن الذنوب والخطايا، أي وعد بخير الدارين.

ويختم الله سبحانه الآية بأنه واسع العطاء واسع المغفرة عليم بمن يستحق مثوبته ومن يستحق عقوبته ( وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ٢٦٨ ).

( ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ ) أي يخوفكم بالفقر إن أنفقتم، وهو استئناف لبيان سبب الخبيث في الإنفاق الوارد في الآية السابقة.

( وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ ) أي الفعلة الفحشاء كالبخل وترك الصدقات، وتشمل كذلك المعاصي كلها كالزنا والإنفاق في الحرام والربا وغيرها.

( وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ ) أي فوزًا في الدارين، مغفرةً عن الذنوب ورضوانًا من الله في الآخرة، ورزقًا حسنًا وسترًا في الدنيا، ولنعم أجر العاملين. (الوعد) في كلام العرب إذا أُطلق فهو في الخير، وإذا قُيِّد فحسب القيد، فقد يكون في الخير أو في الشر كلفظ (البشارة). فهذه الآية فيها تقييد الوعد في الوجهين:

( ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ) أي في الشر.

( وَٱللَّهُ يَعِدُكُم ) أي في الخير.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم وللمَلَكِ لَمَّةً، فأما لَمَّةُ الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لَمَّة الْمَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: ( ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ ).

و(اللمّة) بالفتح الهَمَّة والخطرة تقع في القلب، أراد إلمام الملَك أو الشيطان به والقرب منه، فما كان من خطرات الخير فهو من الملَك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان.

  1. يبين الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الحكمة نعمة كبرى من نعم الله سبحانه يؤتيها من يشاء من عباده، وهي الإصابة في القول والعمل والإتقان فيه مع التدبر والتفكر، ومن آتاه الله ذلك عرف خالقه والتزم شرعه ونال بذلك خيرًا كثيرًا.

وذكر هذه الآية بعد الآية السابقة وبخاصة قوله تعالى ( وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِ‍َٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِ ) فيه دلالة على أن أولئك المنفقين من الرديء من مالهم في سبيل الله هم خلو من الحكمة، ولو كانت لديهم لأدركوا أن ما لا يرضونه لأنفسهم فعلى الوجوب أن لا يرضَوه لخالقهم، فما داموا لا يقبلون إلا الطيب في قضاء حقهم، فإنه من باب أولى أن يدركوا – لو كانت عندهم حكمة – أن الله لا يقبل إلا الطيب في قضاء حقه كذلك.

ثم يختم الله سبحانه الآية بأن الذين ينتفعون بآيات الله هم أولئك الذين يعقلون، أصحاب الألباب الذين يتذكرون والذين يعتبرون ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٦٩ ).

[1]               النسائي: 2446، أبو داوود: 1369، الموطأ: 537

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *