العدد 396 -

السنة الرابعة والثلاثون – محرم 1441هـ – أيلول 2019م

من مواقف العلماء الربانيين المشرفة

من مواقف العلماء الربانيين المشرفة

o حضر القاضي عمر بن حبيب مجلس الرشيد فجَرت مسألة فتنازعها الخصوم، وعلت الأصوات فيها، فاحتجَّ بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فدفع بعضٌ الحديث، وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: أبو هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث أن جاءني غلام فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنَّطْ وتكفَّنْ. فقلت: اللهم، إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه؛ فسلمني منه، وأُدخلت على الرشيد، وهو جالس على كرسيٍّ، حاسرًا ذراعيه، بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصُر بي قال: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحدٌ من الدفع والرد بمثل ما تلقَّيتَني به وتجرأتَ عليَّ، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلتُه، ودافعتُ عنه، ومِلْتُ إليه، وجادلتُ عنه ازدراءً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، فإنه إذا كان أصحابه ورواة حديثه كذابين، فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحدود، مردودة غير مقبولة. فالله الله يا أمير المؤمنين، أن تظنَّ ذلك، أو تصغي إليه، وأنت أولى أن تغارَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، فلما سمع كلامي رجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب، أحياك الله ، أحييتني أحياك الله،  أحييتني أحياك الله. (تاريخ بغداد 11 /197).

o  قيل للإمام مالك (رحمه الله): إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: «يرحمك الله، فأين المكلّم بالحق».          

      فالإمام مالك هو من قابل الرشيد بكلمته المشهورة: «لا تكن أول من وضع العلم فيضعك الله» وذلك أنه لما قدم هارون الرشيد المدينة، وجَّه البرمكي إلى مالك، وقال له: احمل إلىّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فقال مالك للبرمكي: «أقرئه السلام، وقل له: إن العلم يُزار ولا يزور» فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين، أيبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! أعزم عليه حتى يأتيك، فأرسل إليه فقال: قل له: «يا أمير المؤمنين، لا تكن أول من وضع فيضعك الله»

o   لما فتح عبد الله بن علي العباس دمشق، قتل في ساعة واحدة ستة وثلاثين ألفًا من المسلمين، وأدخل بغاله وخيوله في المسجد الأموي الجامع الكبير، ثم جلس للناس وقال للوزراء: هل يعارضني أحد؟ قالوا: لا. قال: هل ترَون أحدًا سوف يعترض عليّ؟ قالوا: إن كان فـالأوزاعي – والأوزاعي محدِّثٌ فحلٌ، أميرُ المؤمنين في الحديث، أبو عمرو، كان زاهدًا عابدًا، من رواة البخاري ومسلم – قال: فأتوني به، فذهب الجنود للأوزاعي فما تحرك من مكانه، قالوا: يُريدك عبد الله بن علي، قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل، انتظروني قليلًا»، فذهب فاغتسل، ولبس أكفانه تحت الثياب؛ لأنه يعرف أن المسألة موت أحمر، وقتل ودماء. ثم قال لنفسه: «الآن، آن لك يا أوزاعي أن تقول كلمة الحق، لا تخشى في الله لومة لائم». فدخل على هذا السلطان الجبار. قال الأوزاعي وهو يصف القصة: «فدخلت، فإذا أساطينُ من الجنود – صفَّان – قد سلُّوا السيوف، فدخلت من تحت السيوف؛ حتى بلغت إليه، وقد جلس على سرير، وبيده خيزران، وقد انعقد جبينه عقدة من الغضب، قال: فلما رأيته، والله الذي لا إله إلا هو، كأنه أمامي ذباب. قال: فما تذكرت أحدًا، لا أهلًا، ولا مالًا، ولا زوجة، وإنما تذكرت عرش الرحمن إذا برز للناس يوم الحساب، قال: فرفع بصره وبه غضب عليّ ما الله به عليم، قال: يا أوزاعي، ما تقول في الدماء التي أرقناها وأهرقناها؟ قال الأوزاعي: حدّثنا فلان، قال: حدثنا ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» فإن كان من قتلتهم من هؤلاء فقد أصبت، وإن لم يكونوا منهم فدماؤهم في عنقك. قال: فنكتَ بالخيزران ورفعت عمامتي أنتظر السيف، ورأيت الوزراء يستجمعون ثيابهم ويرفعونها عن الدم. قال: وما رأيك في الأموال التي أخذناها؟ قال الأوزاعي: إن كانت حلالًا فحساب، وإن كانت حرامًا فعقاب!! قال: خذ هذه البدرة – كيسًا مملوءًا من الذهب – قال الأوزاعي: لا أريد المال، قال: فغمزني أحد الوزراء، يعني خذها؛ لأنه يريد أدنى علة ليقتل، قال: فأخذ الكيس ووزَّعه على الجنود وهويخرج، حتى بقي الكيس فارغًا، فرمى به وخرج، فلما خرج قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل، قلناها يوم دخلنا وقلناها يوم خرجنا» (فَٱنقَلَبُواْ بِنِعۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٖ لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٞ وَٱتَّبَعُواْ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَظِيمٍ ١٧٤).

o   عندما حالف الملك إسماعيل الصليبيين وسلَّم لهم صيدا وغيرها من الحصون الإسلامية؛ وذلك لينجدوه على نجم الدين بن أيوب ملك مصر، أنكر عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء آنذاك هذه الفعلة، وحاسب الملك عليها من على المنبر يوم الجمعة، وذمَّ الملك وقطع الدعاء له من الخطبة، فأُخبر الملك بذلك، فورد كتابه بعزل العز بن عبد السلام عن الخطابة واعتقاله ومنعه من الإفتاء في الناس، ثم بعث إليه الملك يعده ويمنيه، فقال له الرسول: تُعاد إليك مناصبك وزيادة، وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان. فما كان جواب الشيخ إلا أن قال: «والله ما أرضاه أن يقبِّل يديَّ، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ».  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *