صناعة الإحباط السياسي… أبعاده، وطرق مواجهته
2019/05/19م
المقالات
5,748 زيارة
صناعة الإحباط السياسي… أبعاده، وطرق مواجهته
طارق أبو علي
الناظر في أحوال الأمة الإسلامية اليوم يجد حالة من القنوط واليأس تتفاقم وتتزايد وتنتشر، وهذه الحالة لم تكن وليدة سياسة عشوائية تخبطية؛ بل كانت سياسة ممنهجة وذات أبعاد واضحة، وإذا أردنا أن نقف على أبعاد هذه السياسة وطرق مواجهتها لا بد من الوقوف على حقيقتها.
حقيقة سياسة الإحباط:
كلمة الإحباط مأخوذة في اللغة من «ح.ب.ط» ولها في اللغة معانٍ متعددة، ومن معانيها المأخوذة منها: (الحبوط)، والحبوط هو: الجمل أو الناقة التي تأكل نبتة سامة فينتج عن أكلها أن ينتفخ بطنها، فيظن الرائي للجمل أو الناقة أن الانتفاخ لحمًا نما في الجمل، والجمل السمين قيمته أعلى من قيمة الجمل النحيف، فيظن صاحب الجمل أن هذا الجمل سيجلب له عائدًا أكبر؛ فإذ بهذا الانتفاخ هواء سام نتج من النبتة السامة التي أكلها، فما هي إلا أيام ويموت الجمل الذي كانوا يعقدون عليه آمالًا كبيرة في أنه سيجلب لهم نفعًا كبيرًا، فينتج عن هذه الحالة إحباط عند صاحب الجمل، فسمي الجمل الذي هذه حالته بـ«الحبوط».
ومنه قوله تعالى: ( أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ )
فالكافرون بقوتهم ومالهم وسلطانهم في الدنيا يظنون أنهم على الحق؛ وهذه الانتفاخة في الظلم ما هي إلا سراب، فسرعان ما يزول ظلمهم وملكهم، فعبر الله عن هذه الحالة بلفظ (حبطت).
إذًا، عندما نتكلم عن صناعة الإحباط السياسي عند المسلمين، فإننا نتكلم عن حالة من التسمين والوهم والنفخ الشكلي الذي يقصد من خلاله قتل الحالة السياسية النافعة للدولة والمجتمع؛ حتى تصل إلى حالة من اليأس والقنوط من أي تغيير سياسي حقيقي عند الأمة.
أبعاد الإحباط السياسي:
كل أمة تمر بفترات من القوة أو الضعف، فلا توجد أمة على وجه الأرض تسير في منحنى ثابت؛ بل كل الأمم تسير في منحنيات متعرجة صعودًا ونزولًا، وتفقد الأمم حالة الصعود في المنحنى إذا وصلت إلى حالة من القناعة باستحالة الصعود، فحينها لا تجد في منحنيات هذه الأمة إلا حالة النزول حتى تصل إلى قعر المنحنى، وهي حالة الموت.
وأمة الإسلام في تاريخها الطويل مرت بفترات من القوة أهَّلتها لتتربع على عرش الأمم، وهذه الحالة كانت ناتجة عن ثقة هذه الأمة بمبدئها ونفسها، فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يراسل الملوك والأباطرة، ولم تكن دولة الإسلام وقتها إلا دولة وليدة، فقد كانت رسائله ليست رسائل ود وحب واستجداء؛ بل رسائل إخضاع وصناعة أتباع، وفي مفهوم الدول المعاصرة أن الدول حديثة النشوء تسعى لطلب الود من الدول الأخرى المحيطة بها لنيل شيء من الشرعية، أما دولة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضربت هذا العرف الدولي الشائع، وفرضت واقعًا جديدًا، ولم يكن هذا حكرًا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وجدت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنهم لا يملكون شيئًا ذا بال مقارنة مع غيرهم من المال والعتاد والقوة، رأيتهم يدخلون على ملوك الفرس والروم كأنهم هم الملوك، كربعي بن عامر، وكل هذا للثقة بهذا المبدأ.
وقد مرت الأمة الإسلامية بفترات ضعف؛ لكن هذا الضعف لم تُكتب له الديمومة، فما هي إلا فترات قد تطول وقد تقصر حتى ترجع الأمة كما كانت، وربما أقوى.
وهذه الحالة من التعرجات في منحنى القوة والضعف في حياة الأمة قد وعى عليها الاستعمار الحديث، فمصالحهم لا تتناسب مع دوام استفاقة الأمة ورجوعها، فحدد أعداؤنا ومن سار على منهجهم مسار الصراع، فكان مكمنه، في أمرين:
الأول: نزع الثقة بالإسلام.
فالإسلام هو الذي صنع للعرب حضارة وثقافة، فالعرب قبل الإسلام كانوا بلا هوية ولا قيمة ولا مكانة، فكانت ملوك العرب من المناذرة والغساسنة خدمًا للفرس والروم وعملاء لهم، فلما جاء الإسلام نهض بهم، وجعل الملوك تدين للمسلمين وتطلب ودّهم، وأصبحت دولة الإسلام صانعة السياسة الدولية، فإذا نزعت الثقة بالإسلام فقد غابت عنهم قيمتهم ومكانتهم.
الثاني: نزع ثقة الأمة بنفسها ومقدراتها.
المسلمون يملكون مقدرات جعلت كلاب الغرب يسيل لعابهم عليها، فأصبح هدفهم أن تسلم هذه المقدرات لهم دون مقابل، تحت حجة حماية الدول التي صنعها من أخطار موهومة صنعها الاستعمار: كالخطر الإيراني، أو كبَّر حجمها: كالجماعات (الإرهابية) حسب زعمهم، فأصبح الشعار الكبير: «المال مقابل الحماية»، وكل فترة يتم إيجاد صراعات موهومة وأزمات مصطنعة حتى يبقى مسار المال مستمر التدفق إلى الغرب، ولعل سياسة ترامب الأخيرة أظهرت هذه الحقيقة بجلاء مع أنها قديمة بقدم الاستعمار العسكري ووجود دول الضرار منذ إسقاط الدولة الإسلامية.
كيفية استمرار الاستعمار وأدواته في تعزيز الإحباط السياسي:
تعي دول الغرب، وعلى رأسها أميركا، حقيقة القوة الكامنة في الأمة الإسلامية، ويعرفون أن مصالحهم مرهونة ببقاء حالة الإحباط عند الأمة الإسلامية. وثورات الربيع العربي تعتبر حالة خطيرة عند دول الغرب، فمصالحهم مربوطة في وأد كل تفكير للخروج من ربقة الاستعمار وأدواته من حكام دول الضرار، فكانت الحاجة ماسة لاتباع أساليب مكر ودهاء أشد مكرًا ودهاءً من السابق؛ لترويض المسلمين والحفاظ على مصالحهم، وأقف على بعض هذه الأساليب:
أولًا: الإعلام ودوره في رفع سقف الآمال والأحلام الموهومة.
فرض الحراك الفكري والسياسي للأمة في الآونة الأخيرة واقعًا جديدًا على الإعلام ألزمه بأن يخرج عن الثوب التقليدي للإعلام الحكومي والرسمي، وهذا الإعلام الجديد بدأ يستخدم أساليب أكثر دهاءً ومكرًا؛ لأن الوعي تنامى، وكلما تنامى الوعي احتاج الإعلام إلى أساليب أشد خبثًا ودهاءً، وقد وجدنا مجموعة من الأساليب الخبيثة الماكرة، التي تنفس المشاعر، وتحرف البوصلة عن التغيير الحقيقي، ومن هذه الأساليب:
توسعة المساحة النقدية للأعمال الحكومية الرسمية.
البرامج الساخرة التي توسعت، والتي نجحت إلى حد كبير في تنفيس الكبت السياسي.
تسليط الضوء على بدائل للأنظمة، وهي في حقيقتها تغيير وجوه لا تغيير منظومة.
تسليط الضوء على أن المراد للشعوب العربية هو حالة إصلاحية للمعيشة والاقتصاد، دون البحث عن التغيير الحقيقي الشامل.
تسليط النقد على الممارسات الرسمية، وليس على النظام المطبق؛ حتى تصبح القضية إصلاح ممارسات دون تغيير نظام.
رفع سقف الآمال على التغييرات الشكلية بعد الثورات، حتى يكتشف الناس أنها لم تغير من واقعهم شيئًا؛ فيزداد الإحباط من التغيير.
فأخطر ما في الإعلام هو الإيهام بنجاح بعض التغييرات، وقرب تحقق المعجزات السياسية، فعندما تصل الشعوب إلى حالة من النشوة بالإنجازات، تجد نفسها لم تحقق شيئًا، بل ربما ازداد الواقع سوءًا، وهذا يزيد من حالة الإحباط السياسي.
ثانيًا: محاولة إفشال كل بديل حضاري.
يعتبر الغرب الإسلام هو أخطر حالة على مصالحه كبديل حضاري حقيقي، وحتى يُفقِد الثقة بالإسلام كبديل حضاري حقيقي، سمح من خلال الأنظمة بوجود مساحة لدخول الإسلاميين إلى الحكم؛ لكن بمشروع لا علاقة له بالإسلام؛ بل من غير مشروع أصلًا، وإنما تغيير وجوه فقط، فظن الناس أن الإسلام وصل إلى الحكم، والإسلام تركه الداخلون للحكم عند بوابة الحكم الخارجية، ودخلوا من غيره، ورغم هذا حرص الكفار وعملاؤهم على إفشالهم، وحرصوا على أن ينسب هذا الفشل للإسلام؛ حتى يزداد الإحباط من احتمالية وصول الإسلام إلى الحكم.
ثالثًا: استباق الأحداث من أجل فرض حالة من الإحباط.
يحرص أعداؤنا على أن تبقى زمام الأمور بيدهم، فهم في سياستهم لا يستبقون الأحداث فقط؛ بل يصنعون الأحداث، ويغيرون في السياسة كما يريدون؛ لكن في الآونة الأخيرة اختلفت المعادلة، فنزلوا في سياستهم من صناعة الأحداث إلى استباقها، فحجم الحراك في الأمة كبير، وحتى لا تخرج الأمور من أيديهم تعاملوا مع إدارة الأزمة دون حل جذري لها، أي إنهم يهدفون إلى إطالة أعمار الأنظمة العميلة لهم، من خلال تغيير الوجوه تارة، ومن خلال القمع والبطش تارة، ومن خلال زيادة مساحة من الحرية الموهومة تارة أخرى، وغيرها من الأساليب التي تهدف إلى إحباط أي تغيير حضاري حقيقي، أو تأخيره على الأقل.
رابعًا: إيجاد قناعة بأن الموجود أفضل من المتوقع.
مع وجود حالة التخبط السياسي عند من جاؤوا بعد الثورات، وعدم وجود حلول حقيقية، وربما ازدادت الأوضاع سوءًا بصناعة أزمات، حرصت قوى الكفر على إطالة عمر هذه الأزمات، مثل الاقتتال في اليمن، وحالة التيه في ليبيا، وحالة التخبط في تونس، وحالة القمع في مصر، وحالة القتل والدمار في سوريا، هذه الحالات صنعها الاستعمار وأدواته لتجعل الكثيرين يقولون: يا ليتنا بقينا كما كنا.
حرص الحكام في الدول التي لم تحدث فيها الثورات في كل مناسبة على التهديد بأنكم إن خرجتم في ثورات فسيحصل لكم مثل ما حصل في سوريا أو اليمن أو ليبيا، فارضَوا بالموجود أفضل لكم مما تتمنونه وتتوقعونه.
خامسًا: إيصال قناعة أن أي مشروع سياسي لا بد أن يخرج من بوابة الظالمين.
لبقاء زمام الأمور بيد الكفار وأذنابهم، حرصوا على أن لا يخرج أي تغيير إلا من بوابتهم، ومن يريد أن يغير من غير هذه البوابة ينكل به، وتشن عليه حربٌ شعواء، سواء إعلامية أم حقيقية، ويُتهم بالفساد والإفساد و(الإرهاب)، فوجدت قناعة عند الشعوب والجماعات أن السلامة في التغيير من بوابة الظالمين، ومعلوم أن من دخل تلك البوابة سيخلع دينه ومبدأه قبل أن يدخل البوابة… ووُجد إسلاميون واقعيون يبررون ذلك، تحت حجة: المصلحة العامة، والضرورات، وغيرها، التي تهدف إلى تبرير الخروج عن أحكام الإسلام، والدخول من بوابات الظالمين.
طرق مواجهة صناعة الإحباط السياسي:
الإحباط هو عبارة عن شعور بالعجز، تتولد عنه العزلة التي تدفع لعدم العمل لتغيير الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه. والذي يدفع المسلم للوقوع في وحل الإحباط والعجز فصل صلة العمل بالله عز وجل، وعدم إدراك معية الله عز وجل في الغاية والعمل، ولمواجهة هذه الحالة من الإحباط نذكر بعض الطرق التي نواجه من خلالها هذا الشعور:
أولًا: الوعي السياسي.
هناك فرق بين العمل السياسي والوعي السياسي، فقد وجدنا جماعات إسلامية تقوم بأعمال سياسية؛ لكن دون وعي الواقع السياسي، ودون إدراك المعادلة الدولية، ودون الوقوف على كيفية تلاعب الدول الكبرى بالعالم، فهذا أوقع كثيرًا من الحركات السياسية الإسلامية في شباك الألاعيب الدولية، فأصبحوا لتخبطهم السياسي جزءًا من المعادلة الدولية، وقد وجدنا كثيرًا من أصحاب الحركات الإسلامية يقولون: إننا لم نكن ندرك حقيقة الواقع السياسي وأبعاده؛ فاصطدمنا بهذا الواقع، كما رأينا في مصر وتونس وفلسطين وغيرها.
والحقيقة أن الذي أوقعهم في هذا الشَرَك والإحباط السياسي هو عدم الوعي السياسي، فلو كانوا يعلمون المعادلة الدولية، والأبعاد السياسية لجنبوا أنفسهم الولوج في أعمال سياسية أحبطتهم وأحبطت ملايين من أبناء الأمة الإسلامية، ولما أصبحوا أضحوكة وألعوبة بيد العلمانيين والظالمين؛ بل وجدنا من تحوَّل إلى ظالم مع الظالمين.
ثانيًا: وضوح المشروع السياسي.
العمومية في عرض الإسلام، وعدم وضوح البديل الحضاري لهذه الأنظمة الكافرة، هو الذي يوقع الإسلاميين في التخبطات السياسية التي أوقعت المسلمين في فقد الثقة بالإسلاميين بأنهم لا يستطيعون أن يديروا الواقع السياسي.
وما وجدناه عند كثير من العاملين في الواقع السياسي هو ليس فقط عدم وضوح المشروع السياسي؛ بل عدم وجود مشروع سياسي أصلًا، وهذا جعل من وصول الإسلاميين إلى الحكم لا يتعدى أن يكون نسخة مشوهة عن الأنظمة السابقة.
ثالثًا: وضوح الطريق لإيجاد المشروع السياسي.
الغاية مهمة، ووجود المشروع السياسي مهم؛ لكن كيف نصل إلى إيجاد هذا المشروع السياسي هو في غاية الأهمية؛ لأن التخبط في الطريق الموصل إلى الغاية يولد حالة من اليأس والقنوط؛ بل جعل كثيرًا من الإسلاميين يدخلون من بوابة الظالمين، وجعلهم يدخلون ضمن المعادلة الدولية الفاسدة، وأصبحوا في كثير من البلدان أبواقًا للظالمين. فالإسلام فكرة ومنه الطريقة، فوضوح الفكرة والطريقة هو من أهم العوامل التي تجعل للمسلم معيارًا يحكم فيه على من حاد عن الجادة.
رابعًا: بث روح الأمل عند الأمة.
الخطاب النفسي لا يقل أهمية عن الخطاب الفكري، فكلاهما صنوان. فالأمة الإسلامية بشَّرها الله تعالى بالنصر والتمكين والاستخلاف؛ وما هذه الابتلاءات التي نراها إلا من أجل أن يميز الله الخبيث من الطيب. والفتن والابتلاءات عامل تنقية وتصفية للمسلمين، فقد قال الله تعالى: (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ) والله تعالى يتكرم على عباده بالنصر والتمكين في أحلك الظروف، فالله تعالى نجّى موسى عليه السلام من فرعون في قمة تكبره؛ بل أغرق الله فرعون وجنوده، ونجّى محمدًا صلى الله عليه وسلم عندما طلبوه حيًا أو ميتًا بمائة ناقة؛ بل أقام له الدولة التي ملأت الأرض عدلًا وقسطًا، والنماذج في ذلك كثيرة، قال تعالى: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ )