العدد 328 -

السنة الثامنة والعشرون جمادى الأولى 1435هـ- آذار 2014م

جزائرُ «الاستقلال»: بين حقد جنرالات فرنسا وخبث عملاء الإنجليز (3)

بسم الله الرحمن الرحيم

جزائرُ «الاستقلال»:

بين حقد جنرالات فرنسا وخبث عملاء الإنجليز (3)

صالح عبد الرحيم – الجزائر

في أجواء المواجهة هذه مع مختلف القوى السياسية – وخاصة مع أتباع جبهة الإنقاذ الإسلامية الذين لوحقوا وأُدخل كثير منهم إلى السجون في الصحراء – جرى تفتيت وتفكيك وتشتيت الوسط السياسي، ما اضطر الجنرالات للظهور في واجهة الحكم للسيطرة على الموقف عبر إظهار القوة في وجه فئات الشعب، وأُلصقت تهمةُ الإرهاب بمن فاز في انتخابات 1991م (تماماً كما يفعلُ هذه الأيام أصحابُ الانقلاب في مصر بعد 3 يوليو 2013م)، وبدأ خلط الأوراق وإدخالُ البلدِ في لعبة محاربة القوى الإسلامية الصاعدة تحت غطاء محاربة الإرهاب والأصولية والتطرف، كما استُعمل كثير من أبناء الشعب من الأبرياء وقوداً في المواجهة.

نلفت النظرَ هنا إلى أنه خلال فترة التسعينات هذه (التي كان يديرها جهازُ الاستخبارات بكل حيثياتها وتفاصيلها) لم يقتصر التلاعبُ بأرواح ودماء أبناء الشعب المسلم على توظيف فريق من «الإسلاميين» من قِبل الانقلابيين من حيث إن هذا الجهاز (الذي كانوا قد أسسوه في شهر أيلول 1990م خصيصاً للمرحلة)، استثمر في سذاجتهم وسهولةِ اختراقهم وفي التنطع والغلو والتكفيرِ والغباء (السياسي) الذي كانت بذرتُه موجودةً بالفعل في بعض أوساطهم، وتمثل هذا الاستثمارُ سريعاً في بروز ما سمي حينها الجماعات الإسلامية المسلحة (سواء المطبوخة والمصنوعة أو المخترقة والمخدوعة، على اختلاف تسمياتها)، ولم يقتصر في نفس الوقت على توريط «الوطنيين» من السذج والمأجورين (ما يشبه الشبيحة والبلطجية اليومَ في سوريا وفي مصر) من قِبل الانقلابيين أنفسهم من خلال تأسيس المليشيات وقوات الدفاع الذاتي وتجنيد قوى الحرس البلدي والمسلحين من المجاهدين الوطنيين من أجل الوقوف و»الدفاع عن الجزائر!» ومناهضة قوى التعصب الرجعيةِ والإرهاب والأصولية (كما كان يسميها أصحاب الانقلاب)، بل جرى أيضاً توظيفُ وتوريط ما سمي فريق «الديمقراطيين» وما سمي حينها القوى التقدمية وأنصار الحداثة من المثقفين العلمانيين واللائكيين  (وهم اليومَ يقرون بذلك) للوقوف في وجه أصحاب» الأصولية الإسلامية والتطرف الديني» ونعتهم بكل الأوصاف المستهجنة كالتخلف والتعصب والرجعية والهمجية والظلامية، وكان جهاز الأمن والاستخبارات بأساليبه الدنيئة يعمد في كثير من الأحيان إلى تصفية رموز هذا الفريق «الحداثي» من أصحاب الفن والمسرح والغناء أو من الباحثين والأطباء والصحفيين (أو من غيرهم) لتُلصق التهمةُ بالطرف الآخر، كما يعمد إلى قتل الأبرياء من خلال الهجمات المزيفة بالاغتيال والتفجير في الأماكن العامة للتدليل على بشاعة «الإرهابيين»، وذلك بغرض حشد الدعم للمواجهة ومن أجل إذكاء نار الحقد والفتنة والاقتتال بين أبناء الشعب المسلم، وإقناعهم وإقحامهم في الحرب على «الإرهاب» على أنها حربهم، وإبراز وتبرير جدوى الطلب من هذا الأخير (الشعب) المساعدة والوقوفَ صفاًّ واحداً في وجه «التطرف الإسلامي والإرهاب الأعمى»! (تماماً كما يفعل بشار ونظامه في سوريا اليوم وكما يفعل السيسي وأنصاره في مصر بعد الانقلاب، وكما تفعل أميركا ذاتها في باكستان وأفغانستان مستخدمة أجهزة وشركاتٍ متخصصة في هذه الأفعال).

 كما نلفت النظرَ أيضاً إلى أنه في هذه الفترة بالذات ورغم تناغم اللعبة السياسية ومسعى الجنرالات في الجزائر مع تبني فكرة محاربة الإرهاب من طرف الولايات المتحدة الأميركية (زمن المحافظين الجدد بوش وعصابته) على المستوى العالمي واتخاذ الإسلام عدواً جديداً (في لعبة مكشوفة تحت مسمى الإرهاب) بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، رغم هذا التناغم، إلا أن مهمةَ ضباطِ فرنسا لم تكن أبداً سهلة.

وفي هذه الأثناء خفت صوتُ جبهة التحرير الوطني، وتوارى معظم وأبرز قادتها عن الأنظار، وتورط كثير من الدهماء من أبنائها السذج في القمع الدموي ( فيما عُرف بمجموعات الحرس والدفاع الذاتي ومن المسلَّحين عموماً)، وظهر للناس بوضوح أن العسكر، الجيش ومنه المخابرات، هم من يدير البلد، وازدادت الضغوط الدولية عليهم، خاصة وأن الجزائر باتت تمر بالمرحلة الأكثر دموية منذ «استقلالها». ارتُكبت في حق الشعب أفظعُ الجرائم المتخيَّلة من أجل إرهابه وإرعابه، وعوقب أشدَّ العقوبة على اختياره لجبهة الإنقاذ الإسلامية في انتخابات 1990م و1991م، أي على «سوء» اختياره. بدأت منظماتُ حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية تسلط الضوءَ على ما تقترفه الطغمةُ العسكرية الحاكمة من جرائم (خاصة بين1992م و1994م) وتنسبه لما تسميه الجماعات الإرهابية، وتعرَّى قادةُ الجيش العملاء لفرنسا أمام الرأي العام المحلي والدولي. في هذه الأثناء كان لابد للمؤسسة العسكرية (أصحاب القرار) أن تبحث عن مخرج والعودة لممارسة الحكم من خلف ستار، فطُرح بوتفليقة (كونه صديق أوروبا وأميركا وصاحب بومدين الثوري المحبوب لدى فئات الشعب) كخيار، طُرح بعد عشرين عاماً من غيابه عن الساحة السياسية المحلية ومكوثه ضمن الدوائر الخليجية المعروفة بالولاء للبريطانيين (الإمارات تحديداً)، وكانت مفاوضاتُ العسكر المعروفة معه. إلا أن رؤيتَه السياسية وشروطَه لتسيير المرحلة لم ترق للجنرالات (كون عودته كانت تعني بالضرورة عودةَ فريق مناوئ بكامله للواجهة)، فجيء بزروال رئيساً، وهو العسكري المتقاعد الذي لا علاقة له بالسياسة. وكان مقصوداً الإتيانُ برجل مثله لإرساء فترة انتقالية تكون المؤسسة الرئاسية «شبه مدنية»  وواجهةً لا غير، يتسنى من خلالها لقادة العسكر ترتيبُ وتهيئةُ الأجواء لمرحلة «ما بعد الإرهاب» بما يتفق ويتلاءم مع إبقاء الحكم بيد ضباط وجنرالات فرنسا، في ظل الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة على المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الحاكمة، بعد ذهاب أكثر من 200 ألف من الأبرياء من أبناء الشعب المسلم بين قتيل و»مفقود» بحسب أرقامهم. تطول قائمةُ الفظائع التي يشيب لها الولدان، والمجازرُ الرهيبة التي مورست على الناس انتقاماً وإرعاباً وإرهاباً وإخضاعاً لهم لحكم العسكر، حيث قد يصل الرقم الصحيح إلى 500 ألف أو يزيد! فكان لهم ذلك مع زروال حتى 1999م. نشير هنا إلى أنه بسبب خلافاتٍ حول كيفية إدارةِ المرحلة وإنهاء العنف المسلح بين أقطاب المؤسسةِ العسكرية والاستخبارات ومن ثم الوصول إلى هدنة أو «مصالحة» مع المسلحين في الجبال، كثيراً ما كان يلجأ هذا الطرف أو ذاك إلى التصعيد في وتيرة العنف بالتفجير والاغتيال في وضح النهار، والتورط في المجازر الرهيبة والجرائم الشنيعة التي كانت تُلصق دائما بـ«الإرهاب الأعمى وبقوى التطرف والظلامية!»، حتى وصل الصراعُ الدموي إلى مستويات لا توصف،  وبدأت فظاعةُ الإجرام تقلق «المجتمع الدولي»، وبدأ حجم القتل يُلفت أنظارَ العالم ويستجلب معه التدخل الخارجي (الأميركي خاصة) بشكل أخذ يزعج أصحابَ القرار! يضيق المقامُ هنا بسرد أساليب القتل البشعة ووسائل تصفيةِ الخصوم السياسيين وخصوصاً قادة الصحوة الإسلامية من جبهة الإنقاذ ومن غيرها من رموز المجتمع عموماً، بل وبطرقِ ارتكاب المجازر الرهيبة (بالمئات في كل مرة) على مدى سنواتٍ في حق الأبرياء من السكان! علماً أنه لم يكن وقتها فضائيات مهتمة بنقل الوقائع للعالم ولا بتسليط الضوء وكشف مدبري تلك الأحداث والمآسي كما هو اليوم!

وفي هذه الأثناء أنشأ العسكر (جهاز الاستعلامات) حزباً سياسياً جديداً لهم (في 1997م)، أريد له أن يصبح يافعاً ونافذاً في المجتمع في زمن قياسي، من حثالة الانتهازيين وغلاة النفعيين العلمانيين الذين لديهم مشاعر السخط على المجتمع وممن لم يجدوا مكاناً يروق لهم في جبهة التحرير الوطني (التي لا يخفى بالمناسبة أنه لا يزال فيها إلى اليوم الكثيُر من الثوريين والوطنيين الذين يعيقون مسعى ضباط فرنسا)، هذا الحزب هو التجمع الوطني الديمقراطي، أنشؤوه ليكون لهم يداً في الساحة السياسية وواجهةً سياسية وتزعَّمَه في البداية رئيسُ الحكومة السابق أحمد أويحيى، الذي لا يُستبعد أن يكون (هو أو غيره ممن هم من على شاكلته) مرشحَ الجنرالات للعب أدوار في مواقع مهمة في مرحلة ما مستقبلاً، أي في مرحلة ما بعد بوتفليقة إذا ما نجحوا في السيطرة على أهم القوى السياسية المناوئة والظفر بمواقع صنع القرار في البلاد بالشكل الكافي، يستكملون به إحكامَ قبضتهم على مقاليد الحكم في البلاد (بعد أن تتم تصفية الخصوم وإفراغُ الوسط السياسي إلا من رجالاتهم) وينفذون ما كانوا يصبون إليه ويتربصون به للشعب من سياسات على جميع الأصعدة، تُكرِّسُ – كما أسلفنا – تماماً عكسَ ما يطمح إليه هذا الشعب المسلمُ من تحرر وانعتاق من الاستعمار الغربي، ومن فرنسا بالذات (هذا ما يطمحون إليه على الأقل، وهو ليس أبداً بالأمر السهل).

إلا أن بوتفليقة ذلك «المجاهد الذي يذكِّر بجزائر الاستقلال الفتية» أيام الرئيس الراحل بومدين، ذلك الرئيس الذي «رفع رأسها عالياً في المحافل الدولية» في نظر الشعب، يبدو أنه كان ضرورياً للمرحلة (من أجل إنجاز التوافق)، فعاد نتيجة الصراع ليظهر من جديد هو وجماعتُه في 1999م – بما لهم من نفوذ في أوساط السياسيين والعسكريين على السواء وبما يلقون من دعم أجنبي خارجي من الإنجليز – عاد ضمن صفقة مع قادة الجيش والاستخبارات متفقٍ على تفاصيلها وَسَّعوا له فيها من هامشِ المناورة، أوَّلُها وفاق، ضمن الدائرة المشترطة بين أقطاب الحكم، ووسطُها وئام، وآخرُها «مصالحة». والحقيقةُ في عودة جماعة الإنجليز تكمُن في تضافر عاملين اثنين هما أولاً: تعري القادة العسكريين الدمويين التابعين لفرنسا أمام الرأي العام المحلي والدولي بالإضافة إلى عجزهم عن تسيير شؤون الحكم بالعقلية العسكرية، وثانياً: احتدام الصراع مع الطرف المناوئ على المواقع داخل منظومة الحكم طوال عقدٍ من الزمن (سنوات الدم والعنف المسلح)، وهو ما حال دون استفرادِ ضباط فرنسا (الانقلابيين) على كل مفاصل الدولة، وحال دون استحواذهم على كل المناصب العليا والحساسة فيها.

جرت في أيام بوتفليقة الأولى تبرئةُ الجيش ومن ثَم أُسدل الستار على فظائع جنرالات العسكر وكبار المجرمين (توافق جديد للمرحلة اللاحقة وفَّر لهم الحصانة وأبعدهم عن الأنظار وعن الملاحقة ولو إلى حين). كما فُتح باب «التوبة» للعائدين والتائبين من «الإرهاب». والحاصل بعد أكثر من عقدين من زمن الأحداث، أن مسار الوئام والمصالحة (كما خُطط له وشُرع في تنفيذه منذ مجيء بوتفليقة) لم يُستكمل بعد.

 والواقع أن الجنرالات إلى الآن يسعون لربح الوقت، رغم الواجهة السياسية التي وفرها لهم بوتفليقة وجماعتُه، ولهذا جرى تجديد عهدة بوتفليقة مرتين ضمن الوفاق بين الطرفين رغم مرضه بعد 2005م، كل ذلك من أجل تثبيت وترسيخ نتائج انقلابهم في 92 و»العودة» بالجزائر في هدوء إلى أحضان فرنسا من جديد قصد إنهاء القطيعة شيئاً فشيئاً مع المستعمِر القديم، وهذا في جوهره هو المعنى المقصود من إلغاء الشرعية الثورية، الذي أصبحوا الآن لا يخافون من الجهر به في بلد المليون ونصف المليون من الشهداء في الحرب ضد فرنسا الاستعمارية، كما صرح به الجنرال خالد نزار مؤخراً ! ومن المفارقة أن بوتفليقة صار هو الآخر – نفاقاً وخداعاً – ينادي بإنهاء الحكم باسم الشرعية الثورية وإنهاء مزية المشاركة في حرب التحرير، ولكن ما يقصده هو ليس ما يقصده أولئك. فبالنسبة له إنما ذلك يعني لزومَ التحول إلى الحكم المدني، وذلك بالاستقواء بالشرعية الشعبية والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة في مواجهة نفوذ جهاز الاستعلامات وهيمنةِ حكم العسكر، وهذا بعد ما أنجزوا انقلابَهم واستيلاءهم على بعض أهم المواقع والمراكز في السلطة. بينما يعني ذلك عند الطرف الآخر تقويض أسس فكرة الاستقلال عن فرنسا، ويعني بالضرورة إبعادَ الأسرة الثورية وإنهاء الحكم باسم الثورة وحرب التحرير، والقصد هو إبعاد رموز جبهة التحرير الثوريين والوطنيين (وبالأخص مجموعة وجدة)، ونسيان الماضي الثوري للشعب. ولم يكن بوتفليقة وجماعتُه يتحدثون بهذه اللغة (إقامة الحكم المدني وإبعاد الجيش ومنه جهاز الاستعلام أو تقليص دوره في الشأن السياسي) إلا بعد أن دار الزمان عليهم وفقدوا الكثير من نفوذهم. وهم اليومَ في سعي حثيث من أجل استرداد كل أو بعض نفوذهم ضمن التوافق على حكم الجزائر معتمدين على فكرة مدنية الدولة والرجوع إلى الشعب، وعلى ركوب موجة المطالبة الشعبية بالمؤسسات المنتخبة، وبالديمقراطية والحريات. كما لا يستبعد لجوؤهم إلى التحالف ولو سراً مع بعض القوى الإسلامية «المعتدلة» (الجاهزة دوماً لمثل هذه الأدوار الخيانية القذرة) لاستخدامهم فيما هو مقبلٌ من استحقاقات سياسية لمواجهة خصومهم، وقد نجحوا بالفعل في العودة بقوة إلى الواجهة منذ 1999م، أي منذ مجيء بوتفليقة وعودته إلى سدة الحكم.

نذكر في هذا السياق الندوة السياسية التي نوقشت خلالها «إشكالية الأولوية بين السياسي والعسكري في الجزائر» يوم 24/06/2011م بالجزائر العاصمة، وحضرها كلٌ من الراحل عبد الحميد مهري (الذي كان كما هو معلوم ضمن الوفد المشرف على العلاقات الخارجية لجبهة التحرير الوطني في القاهرة إبان الثورة التحريرية وعضو المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ثم الأمين العام الأسبق لجبهة التحرير قبل انقلاب92، وهو من أبرز السياسيين وقادة جبهة التحرير في الجزائر) والبريطاني هيوغ روبرتس مدير مكتب شمال أفريقيا لدى مجموعة الأزمات الدولية، والخبير في النظام السياسي الجزائري في ما قبل الثورة الجزائرية وما بعدها. وكان من أهم ما أكَّدا عليه خلال الندوة ودفعا بتناغم ملحوظ باتجاه وجوب حدوثه في الجزائر اليومَ، أي بعد سيطرة جنرالات فرنسا على بعض أهم مراكز القرار في الدولة بعد الانقلاب، (بعدما اتفقا بشكل ملفت على أن إشكاليةَ الخلاف العميق بين السياسي والعسكري في الجزائر ظلت من أيام الثورة إلى يومنا هذا معضلةً لم تجد حلاًّ)… نفتح هنا قوساً لنذكِّر بالمناسبة أن هذا الخلاف هو الذي على ما يبدو ذهب ضحيتَه القيادي الثوري عبَّان رمضان مهندس مؤتمر الصومام المشهور المنعقد في 20/8/ 1956م في بداية الثورة، والذي غاب عنه الممثلون العسكريون والسياسيون للولاية الأولى التي انطلقت منها الشرارة الأولى للكفاح المسلح ضد المستعمِر، وانتهى بتأكيده – عكس مؤتمر طرابلس الغرب لاحقاً في 1958م – بشكل بارز على أولوية السياسي على العسكري. وكانت قد حدثت على خلفية ذلك الصراع تصفيةُ القيادي عبان رمضان الجسدية في كانون الأول (ديسمبر) 1957م من طرف بعض «زملائه» الثوريين، وعُدَّ -رسمياً- من الذين سقطوا في ميدان الشرف! كما لم يكن صدفةً أنْ تم قبل عقد مؤتمر الصومام بأشهر قليلة في 27 آذار (مارس) 1956م تفجيرُ عبوة ناسفة (بتآمر من بعض رفقاء السلاح) ذهب ضحيتها مصطفى بن بولعيد أبرز قادة الثورة في الولاية الأولى (الأوراس) ذات الطابع العسكري السالفة الذكر بالذات.

 قلنا كان من أهم ما أكَّدا عليه في الندوة باختصار ما يلي:

قال مهري ضمن ما قاله في الندوة ما معناه: «إن الصراع على السلطة واقتسام السلطة إنما تحركه المصالح، والسلطة إنما تأتي من تفويض الشعب. لذا لا أجد تفسيراً لاقتسام السلطة بعيداً عن الشعب! إن بين السياسي والعسكري كان دائماً هنالك صراع، منذ القدم… إلا أنه إذا كان هذا الصراع يُدار في الكواليس وفي الخفاء بعيداً عن الشعب -كما كان يحدث أيام الثورة التحريرية تحت وطأة الاستعمار وفي غياب النقاش والحوار ونقص المعلومات بسبب الضغوط وظروف الحرب – فهذا هو ما يكون حتماً سلبياً، وما يجلب الشقاء للبلد. أما -وقد زالت هذه الظروف والمضايقات- إذا حصل الالتقاء بين القوتين أو السلطتين (السياسية والعسكرية) على أسس سليمة عند نقطة ما، ولم يكن هذا التنافس بينهما في منأى عن الشعب، فإن ذلك يكون بدون شك إيجابياً. إنني أرى أنه في حالة الجزائر إذا ما تضافرت طاقات وقدرات الطرفين (العسكري والسياسي) قريباً من الشعب -وهذا ممكن الآن- فإن ذلك يكون في نظري شيئا إيجابياً، ضمن تكامل من أجل بناء فكرة ديمقراطية صحيحة وصحية في البلد، تلتقي فيها الوظيفة السياسية مع الوظيفة العسكرية من أجل تحقيق مصالح الشعب

و هكذا نرى أنه كلما ضاقت السبل على السياسيين فإنهم يعودون للشعب ينشدون منه الإسعاف!

– أما روبرتس الإنجليزي من مجموعة الأزمات الدولية فإنه قال: «نعم إن منبع السلطة في الجزائر كان دوماً القوة العسكرية، وذلك منذ نشوء الدولة، بل من زمن الثورة. وكانت السلطة العسكرية وهيمنة الجيش تعوق وتمنع باستمرار الممارسة السياسية! كان هذا هو حال جميع من تناوب على الحكم في الجزائر. العسكريون هم من يأتي بمن يحكم، وبالتالي هم من يحكم! وهذا ما يفسر التضاد بين الطرفين! وهذا ما يفسر دائماً هشاشة السلطة المدنية الشكلية في مقابل القوة الفعلية المسيطرة، أي العسكر. وبالرغم من أن مؤتمر الصومام في 1956م أثناء ثورة التحرير كان قد فصل في المسألة، بتغليب السياسي على العسكري، إلا أن العسكريين كانت دائماً لهم الغلبة! إن ضعف النخب السياسية من أيام الثورة في مواجهة القادة العسكريين، هو ما جعلهم يحتكمون في نزاعاتِهم إلى العسكريين، وهو ما مكَّن قيادة الأركان من التغلب على الحكومة (السياسية) المؤقتة، وإقصاء رموزها الفاعلة. وهذا هو ما جعل مصير الجزائر من ذلك الوقت رهن هذا الصراع، وهو أيضاً ما جعل النزاعات كثيرا ما تنقلب أحداثاً مأساوية! آن الأوان – بصورة مستعجلة – لكي لا يشعر السياسيون والمدنيون بالضعف أمام العسكر. إن ما هو سياسي لا يحمل في طبيعته الضدية لما هو عسكري. لذا يمكن في الجزائر اليومَ إعادة التفاوض من أجل صياغة علاقة جديدة بينهما ليس فيها شيء من معنى التضاد والتصادم، بل التكامل. ومن أجل إعادة التوازن المفقود هذا، فإني أرى أنه لا بد من الرجوع إلى تقوية النخب السياسية لكي تضطلع بدورها في بعث حياة سياسية مبنية على الشرعية الديمقراطية، لا يكون للجيش دور مركزي فيها، بحيث لا يكون العسكر في مركز القرار السياسي في الدولة، كما تكون فيها المؤسسات تمثيليةً حقيقةً لا شكلاً ، تمثل الشعب ويكون من يحكم فيها هو من تأتي به الانتخاباتُ لا الجنرالات». هكذا قال.q

 (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *