العدد 384 -

السنة الثالثة والثلاثون – محرم 1440هـ – أيلول / سبتمبر 2018م

وماذا بعد الأخلاق؟

وماذا بعد الأخلاق؟

لطفي بن محمد – ماليزيا

على مدى سنوات طويلة، والخطاب الديني وخاصة الرسمي منه والمسموح به وحتى المقبول إعلاميًا ينحى منحًى واحدًا ألا وهو حصر الدعوة في المجال الأخلاقي وربط كل العقد بها، فمشكلة المسلمين في نظر هذا الطرح تتلخص في أن أخلاق المسلمين انحدرت، وأنه بالدعوة إليها وجعلها محور دورانهم سيؤدي لا محالة إلى تغيُّر أحوالهم. وبناء على هذا الأساس، فقد عقدت المؤتمرات، الواحد تلو الآخر، وألِّفت الكتب ومنحت بالمجان؛ كل هذا من أجل استعادة الأخلاق الإسلامية وجعلها الأساس الذي يتصرف من خلاله المسلم، وجاؤوا بكل ما يسند أقوالهم من أحاديث وسنن الصحابة وحتى أبيات الشعر، وأسسوا لها المؤسسات، وجاءوا بنصوص وأدبيات تدعو إلى “أخلقة” العلوم الإنسانية والعلمية، بل وجعلوا لها حصصًا في الجامعات، وعملوا على تقسيم الأخلاق إلى دينية ودنيوية، ودعوا إلى عقد المقارنات بين الفكر الأخلاقي في الديانات الأخرى، على اعتبار أن الأخلاق من أهم الأمور المشتركة بين الديانات والرسالات. ولم يتركوا منبرًا إلا وكان الحديث حول أخلاق وشمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أنه ذلك الإنسان الطيب المتسامح الخلوق، وأن رسالته كانت لسبب وحيد هو إتمام كمال الأخلاق التي كانت موجودة على زمن الجاهلية وجاء الإسلام ليعطيها دفعة ومسحة ربانية.

 الملاحظ أن الدعوة إلى الأخلاق تتم بصورة مضخمة، وتسخر لها الكثير من الطاقات، وتفتح لها المنابر، سواء الرسمية منها أم الخاصة؛ ولكن في المقابل ألا يتوجب علينا النظر بنظرة نقدية واعية ومستفيضة لهذا المنهج، خاصة وأننا نسمع ونرى الكثير من الأحداث التي تقشعر لها الأبدان وتوحي بأن أخلاق الأمة في تدهور مستمر وبشكل متسارع، فقد زادت مشاكلنا الاقتصادية وزاد فقرنا، واحتلت بلادنا، وانتشر الجهل والفساد بكل أنواعه الأخلاقي والإداري والسياسي والعائلي… وانهارت الكثير من القيم وأصبح الإسلام غريبًا في دياره، وتكلم فينا الرويبضات؛ كل هذا بالرغم من الجهود التي يبذلها دعاة هذا المنهج، سواء بحسن نية أم بسوئها. ولمناقشة هذا الطرح وتبيان ما له وما عليه، وجب أن نتناوله من جوانب عدة لإزالة الغبش عن الأذهان وتصحيح مفاهيمه.

عرف الفيروز أبادي الخُلق بأنه السجية والطَّبع، والمروءة والدين. وقد فرق اللغويون بين الخَلْق بفتح الخاء والخُلق بضمها؛ قال العلامة الراغب الأصفهاني: “والخَلْق والخُلْق في الأصل واحد كالشَّرب والشُّرب، والصَّرم والصُّرم، لكن خُصَّ الخَلْق بالهيئات والأشكال والصور المـُدرَكة بالبصر، وخُصَّ الخُلْق بالقوى والسجايا المـُدرَكة بالبصيرة”. أما التعريف الشرعي للخُلُق، فإن الاستخدام القرآني للمصطلح لم يختلف كثيرًا عن الوضع اللغوي، فقد ورد لفظ الخلق مرتين في القرآن الكريم. الأولى في قوله تعالى على لسان قوم هود: ﴿إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا خُلُقُ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣٧﴾ [الشعراء: 137] والمقصود به على تفسير ابن عباس دِينهم وعادتهم وأخلاقهم ومذهبهم. والثانية في قوله تعالى مخاطبًا سيد الخَلْق محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤﴾ [القلم: 4]. قال الطبري في تفسيره للآية: “يقول – تعالى ذِكْره – لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد، لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه به، وهو الإسلام وشرائعه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”. ونقَل عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد والضحاك قولهم في تفسير: ﴿خُلُقٍ عَظِيمٖ﴾؛ أي: دين عظيم.

أما في السنة فقد ورد مصطلح الخلق في مواطن عدة لا يمكن حصرها كقول أمّنا عائشة رضي الله عنها في وصْف خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم: «كان خُلُقه القرآن» أخرجه أحمد وفي الحديث الذي رواه مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُق».

أما اصطلاحًا، فقد عرفها الطاهر بن عاشور على أنها السجيَّة المتمكِّنة في النَّفْس، باعثة على عمل يُناسِبها من خير أو شر، ويقال خلق حسن وآخر ذميم. وعبَّر عنها الشيخ تقي الدين النبهاني على أنها إحدى مقومات الفرد، وهي تلك الأحكام التي تنظم العلاقة بين الإنسان بنفسه، والتي تشمل إلى جانب الأخلاق المطعومات والملبوسات. وبالرغم من أن الشريعة فصلت الكثير من الأحكام وأوْلت اهتمامًا بها إلا أن أحكام الأخلاق اعتبرت على أنها أوامر ونواهٍ من الله دون تمييزها عن غيرها من الأحكام، حتى إن الفقهاء لم يجعلوا لها أبوابًا في كتبهم وإنما اعتبروا أن الأخلاق جزء من الشريعة وقسم من الأوامر التي وجب الالتزام بها، وتحقيقها في واقع المجتمع عمليًا يقتضي إيجاد المشاعر والأنظمة الإسلامية.

فالمجتمع الإسلامي هو ذلك الكيان الإنساني الذي يمارس نمط حياة متميزاً يشمل الأفكار والمشاعر والأنظمة، وتكون الناحية الروحية فيه مرتبطة بالعقيدة الإسلامية في كل جوانبه. فكل جزئية في حياة الفرد والجماعة المسلمة قد خصص لها الإسلام معالجة تنتهي بها إلى بر السلام. فمثلًا معالجة الفقر تكون بتطبيق مجموعة من الأحكام الشرعية التي من خلالها تنتظم شؤون المال في المجتمع، فالتوزيع العادل للثروة من خلال آلية الزكاة والأوقاف ومنع الكنز وربط العملة بالمعدنين وغيرها هي الأحكام التي بتطبيقها نحصل على مجتمع خالٍ من الفقر والفقراء، وقد يكون دور الأخلاق فيها ثانويًا، ومعالجة الظلم تقتضي وجود قضاة شرعيين يحتكمون إلى الإسلام ويفصلون في القضايا. فالرجل الذي كان يتسول لم يأمره رسول الله بحسن الخلق، وإن كان مما يجب أن يتصف به، وإنما سأله: هل في بيتك شيء؟ قال في بيتي قطعة جلد وقربة. فقال له عليه الصلاة والسلام: ائتني بهما. فذهب الرجل وأحضرهما، فأخذها رسول الله وقال: “من يشتري هذا؟” قال صحابي: أنا يا رسول الله. قال: بكم؟ قال: بدرهم. فقال عليه الصلاة والسلام: “من يزيد؟” قال أحدهم: بدرهمين. فباعها رسول الله للرجل، ثم قال للرجل السائل: “خذ هذين الدرهمين، واشترِ بأحدهما طعامًا لأهلك وبالثاني فأسًا”. فذهب الرجل وفعل كما أمره رسول الله، ثم جاء إلى رسول الله وبيده فأس، فأخذ النبي عليه الصلاة السلام الفأس ووضع فيه عودًا وقال له: “اذهب بهذا الفأس واحتطب به، ولا تأت إلينا إلا بعد خمسة عشر يومًا”. فذهب الرجل واحتطب وباع ما احتطبه، وبعد خمسة عشر يومًا جاء وقد كسب عشرة دراهم.

وجاءه شخص يشتكي من آخر فسمع منهما وحكم للمظلوم. وعند اعتداء اليهود وخيانتهم لم يطلب من المسلمين أن يلتزموا الدعاء وإنما حرك الجيوش، فالإسلام استسلام لله وليس لأعداء الله. وعند وفاته أوصى بإنفاذ جيش أسامة… وبهذا يظهر أن أفضل البشر أخلاقًا كان يتعامل بحسب الوحي ويعالج كل أمر بما يقتضيه من حكم. فمن أين جاء أصحاب هذا الطرح أن التخلّق هو الحل؟! فلا يمكن بأي حال من الأحوال مطالبة الناس بالتخلق من أجل القضاء على الفقر أو الظلم أو الاحتلال، فهذا منطق معوج وقلب للمفاهيم وقصر عن فهم الإسلام وتشريعاته، بل هي محاولة يائسة لحصر الإسلام وجعله على سياق واحد مع بقية الأديان، وهذه النظرة الدونية للإسلام هي في حقيقتها نظرة تتوافق مع الرؤية العلمانية لمفهوم الدين ودوره في الحياة. ولو كان الأمر كذلك لاقتصر القرآن على آية واحدة، ولكانت الغاية من بعث الرسول هي جعل الأمم متخلقة فقط، وهو ما يتنافى مع الغاية الأساسية للإسلام، ألا وهي إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

وليتضح المعنى أكثر نضرب مثالًا: فمن المعلوم أن بعض الدول الغربية المتقدمة تكاد تخلو من الفقراء بالرغم من أن سوء أخلاقهم لا يختلف فيه اثنان؛ الشذوذ وزنا المحارم والخمر والعنصرية… وبالرغم من هذا كله نجد أن الفقر منعدم، وعلى العكس في كثير من بلاد المسلمين كالسودان وموريتانيا تجد أن بها أحسن الناس خلقًا، ولكن الفقر هو السمة الغالبة هناك. وعليه فالمعادلة هي أن الأخلاق ليست عنصرًا في قيام المجتمع ولا رقيه أو انحطاطه، بل المؤثر هو العرف العام. وفي هذا الصدد يذكر أحد الرحالة البريطانيين في زيارة له لمدينة جدة في بلاد الحجاز، خلال الوجود العثماني، أن الفرد يمكن له أن يتعلم كل أمور دينه خلال أسبوع واحد؛ لأن الكل بمن فيهم الحاكم والمحكوم يتناولون الإسلام في أغلب أحاديثهم وأمور دنياهم. على العكس في بلادنا نجد أن الأنظمة تسعى إلى إيجاد عرف مميّع لا هو إسلامي ولا هو علماني بحت، وإنما هو خليط مسخ، وتعمل بكل جد لبثّ المفاهيم المغلوطة من خلال الوسائل المتاحة لها. فيجابه دعاة الأخلاق بكمٍّ هائل من الناس وقد تلبدت أفكارهم وسلوكياتهم، فيحاولون مخاطبتهم بخطاب وعظي إنشائي يزول بانتهاء مفعول الحقن الوعظية. إن القضية أكبر من أن يتم اختزالها في أخلاق، وإنها أكبر من أن يتم حصرها في جانب واحد من الإسلام، بل هي قضية وجب النظر إليها باعتبارها قضية مصيرية يتحدد بموجبها غاية وجودنا كأمة صاحبة رسالة، والتي لن تتحقق إلا بوجود المجتمع الذي يتخذ العقيدة الإسلامية قاعدة فكرية لكل أفكاره وأنظمته ومشاعره.

وعليه فإن الأمر يحتاج إلى فهم دقيق للواقع بكل تجلياته وخاصة الجانب السياسي منه، في ظل الترسانة الإعلامية والمادية المسخرة لهذا الطرح الذي يتسم بكونه دعوة تسير في تيار لا يعادي الباطل بشكل جلي، بل على العكس هو طرح يشرعن للباطل ويسكت عنه، وذلك بإلقاء اللوم على الشعوب، ونفيه عن الأنظمة التي ما فتئت تسوم الناس أنواع الظلم والفساد والذي هو نتيجة لتطبيق الكفر عليهم. إن مطالبة الناس بالعودة إلى الإسلام وعقيدته وجب أن تكون شاملة، ودليل ذلك هو تلك الأحاديث الكثيرة التي ربطت التمكين والاستخلاف بالتمسك بأحكام الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه» وقال أيضا «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ» هذه الأحكام التي غابت في مجملها وصارت موروثًا تاريخيًا على حد قول البعض، وأصبحت الشكوك تثار حول قدرة الإسلام على مسايرة العصر واعتباره أمرًا قد تجاوزه الزمن ووجب البحث عن بديل آخر، وغيرها من المفاهيم التي يتم الترويج لها والتي وجدت مناخًا مناسبًا وفره لها أصحاب المنهج الأخلاقي الذين لم يبرزوا الإسلام ولم يعطوه حقه، وعملوا على حصره في زاوية ضيقة، فما كان من التيار العلماني والمعادي للإسلام إلا أنه اقتنص الفرصة وسعى إلى نشر سمومه بناء على قاعدة التدافع بين الحق والباطل. إن الاستمرار في هذا الخطاب هو تكريس للتضليل على الأمة ونشر للإحباط في أوساطها خاصة مع هول الفساد وضخامته.

إنه مما لا شك فيه أن أي فكرة إصلاحية تتبنى مشروعًا عمليًا للإصلاح وتسعى لأن تنقل به الناس من حال إلى حال لا يمكن أن يكون له تأثير في أوساط الناس إلا إذا تبنته جماعة آمنت بالفكرة وحملتها إلى الناس لإقناعهم بالعمل بها ومعها، وهذه سنة من سنن الحياة. فوصف الأمة بأنها كيان سياسي أمر يقودنا إلى القول إن هذه الصفة السياسية للمجتمع تجعل العمل على تغييره عملًا سياسيًا لأن الرؤية السياسية هي التي تحمل مشروعًا كاملًا لا تستطيع أي كتلة أخرى على حمله، وهذه الكتلة تسعى من خلاله إلى قولبة المجتمع بنظام معين في كل ما يتعلق به من تشريعات وأحكام. وإنه لمن المؤكد أن أصحاب الفكرة الإصلاحية المبدئية سيصطدمون بالفئة الحاكمة باعتبار أن الهدف هو نقل المجتمع الذي تحكمه منظومة قانونية وفكرية ليست من جنس المبدأ، وعليه فإن أي طرح يناقض أو يُطرح بديلًا لتلك المنظومة سيجعل صاحبه في صدام لا مفر منه؛ ومن هنا كان العمل السياسي ذو النزعة الجذرية في التغيير غير مرغوب فيه بين أوساط الناس، وإن كانوا يدركون أنه هو الأصوب؛ ولهذا كانت ولا زالت الأحزاب السياسية أشد الجماعات المضطهدة من طرف الطبقة الحاكمة لأنها تطرح مشروعًا سياسيًا بديلًا يحتوى على كل ما يتعلق بالحكم والرعاية، وهو ما يشكل خطرًا على وجود الأنظمة. على عكس بقية التجمعات التي تعمل تحت أطر متنوعة من مثل جمعيات المجتمع المدني والأخلاقي. وعلى هذا الأساس فإن الأنظمة في البلاد الإسلامية تسمح بوجود من يتنبى الطرح الأخلاقي وتعمل على دعمه وفتح المجال له، وهذا يوفر لها مصداقية لدى الكثير من أبناء الأمة حين يرون الرئيس يستقبل العلماء ويشارك في لقاءاتهم، وهذا هو التضليل بعينه. إن الإسلام هو مجموعة حلقات مترابطة متكاملة تؤتي أكلها بتطبيق مجموعها تطبيقًا شاملًا يتحقق بموجبه المجتمع الإسلامي، ويصبغ الفرد فيه بصبغة العرف العام الذي يوجد بوجود الأنظمة والمشاعر والأفكار التي يسهر الحاكم على تطبيقها وبثها في المجتمع.

وفي الأخير، إن مجرد الحيد عن المبدأ الإسلامي بفكرته وطريقته هو مجلبة للضعف والهوان؛ لأن من سنة الله في كونه أنه لا يمكَّن للمسلمين بالطريقة ذاتها التي مُكِّن بها الكفار، إنما يمكَّن لهم فقط إن هم استقاموا على الطريقة. فالقول بأن الإسلام عقيدة روحية سياسية، أي أنها منظومة فكرية تضبط علاقات المجتمع كلها من حكم واقتصاد وتعليم وسياسة خارجية ضبطًا له مصدر واحد ألا وهو العقيدة، هو ما يؤدي لا محالة إلى طراز معين في العيش تتحقق من خلاله النهضة الصحيحة  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *