العدد 327 -

السنة الثامنة والعشرون ربيع الثاني 1435هـ – شباط 2014م

الوعي السياسي على القوى المحلية والدولية المؤثرة

الوعي السياسي على القوى المحلية والدولية المؤثرة

(من خلال آيات القرآن الكريم)

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله عند تفسيره لآيتي:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) )

فائدة عظيمة في بيان أن الرسول  صلى الله عليه وسلم  كان يقوم ، بوحي القرآن الكريم له، بالصراع الفكري والسياسي إلى جانب الصراع المادي العسكري، مع التركيز هنا على الصراع السياسي مع يهود لأنهم كانوا الأقرب إلى دولة الإسلام في ضواحي المدينة وحولها، ولأنهم كذلك كانوا الأكثر خبثاً ولؤماً في المؤامرات والكيد للإسلام والمسلمين. وهو ما يلي:

وهنا لا بدّ من وقفة نتدبر فيها ما أورد الله سبحانه في سورة البقرة حول طبائع اليهود الخبيثة وأعمالهم السياسية الحاقدة الماكرة ومحاولاتهم العقيمة ومناوراتهم السقيمة لندرك الحكم الشرعي المتعلق بالوعي على الواقع المحلي والدولي بالنسبة للإسلام وحملته.

وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً لا بدّ من تدبر هذا الأمر في مكة والرسول  صلى الله عليه وسلم وصحبه يصارعون فكرياً وسياسياً مجتمع مكة الجاهلي الكافر، ثمّ من بعدُ نتدبر الصراع السياسي والفكري وكذلك الصراع المادي مع الكفار بعامة ويهود بخاصة في المديـنـة عنـدمـا كانت للمسلمين دولة تطبق الإسلام وتقيم الحدود وتسيّر الجيوش وتنشر الإسلام بالدعوة والجهاد.

وبناءً عليه نبدأ باستعراض واقع الصراع السياسي والفكري مع الكفر وأهله في فترة حمل الدعوة الإسلامية في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة.

وباستقراء الأدلة الشرعية الواردة والوقائع التي كانت جارية يتبين ما يلي:

أولاً: لقد كانت الآيات تنزل في مكة على رسول الله  صلى الله عليه وسلم تبين العقيدة الإسلامية لتنقذ ذلك المجتمع الجاهلي الكافر من الظلمات إلى النور، وكذلك تنزل مبينة فساد عقائد الكفر وتسفيه أحلامهم وأصنامهم وتقيم الحجة عليهم فكرياً، فكان الصراع بين الدعوة الإسلامية والكفر وأهله صراعاً عَقَدِياً وفكرياً، – وسنبينه إن شاء الله في موضع آخر – وبالإضافة إلى ذلك كان هناك الصراع السياسي لبيان فساد رؤوس الكفر وكشف مؤامراتهم وحقدهم على الإسلام والمسلمين فضلاً عن قيامهم بالصدّ عن سبيل الله وتعذيب حملة الإسلام وإلحاق الأذى بهم، ثم وقوف رؤوس الكفر أولئك في وجه الدعوة إلى الله بكلّ ما أوتوا من ظلمٍ وظلامٍ وشرٍّ.

وسنرجئ البحث في الصراع العَقَدِي والفكري بين الدعوة الإسلامية والكفر وأهله إلى موضع آخر – إن شاء الله – ولكننا سنتناول هنا الوعي السياسي على رؤوس الكفر كما وصفهم القرآن وصفاً حياً بآيات تنطق بفساد علانيتهم وخبث سرائرهم وتكشف مؤامراتهم وصدهم وكيدهم للإسلام والمسلمين:

  1. فهذا أبو لهب يبين الله هلاكه على الكفر دون أن تنفعه أمواله في تأخير العذاب عنه، بل هو في نار جهنم خالداً فيها، وصاحبته معه بسوء صنيعها من إحضارها الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإلحاق الأذى به صلوات الله وسلامه عليه ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

) سورة المسد.

  1. وذاك الوليد بن المغيرة وكان قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ، قل في محمّدٍ قولاً يبلغ قومك أنك منكرٌ وكارهٌ له، قال: ماذا أقول؟ والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنَّ لقوله لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلاه ومشرقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليَحْطِمُ ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: دعني حتى أفكر. فلما فكر قال: هذا سحرٌ يؤثر يأثره عن غيره، فأنزل الله فيه ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

نَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) ) المدثر/آية11-25.

  1. ثم يتوعد أبو جهل ويتهدد المسلمين ويقول: هل يعفر محمّد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل لأطأنَّ على رقبته ولأعفرنَّ وجهه في التراب. فأنزل الله فيه ( كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18))العلق/آية15-18. وكان أبو جهل يستهزئ بآيات الله فيأتي بالتمر والزبد فيقول: تزقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمّد، فأنزل الله فيه ( (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)) الدخان/آية43-49.

  2. وكان الأخنس بن شريق يسعى بالفساد والإفساد، كذاب حقير الرأي، فأنزل الله فيه قولاً بليغاً مبيناً فساد طبعه ونسبه ( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) ) القلم/آية10-13.

  3. وكان عقبة بن أبي معيط يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيزجره أبي بن خلف، فأنزل الله فيه ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) الفرقان/آية27-29.

هذه الآيات وآيات غيرها تبين أهمية الوعي السياسي على القوى المؤثرة التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية والكشف عن مؤامراتها وحقدها وطباعها اللئيمة المليئة بالغدر والمكر، وارتباطاتها برؤوس الكفر عدوة الإسلام والمسلمين، وذلك لتكون الطريق مضاءةً أمام حملة دعوة الإسلام، يتفادون الغدر من الظهر، ويضعون أقدامهم حيث لا أشواك ولا ظلام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي الوقت نفسه يخلخلون قلاع الأعداء ويكشفون ثغراتهم بل مناطق الضعف فيهم وكيف يُؤتون ومن أين يُؤتون.

ثانياً: لقد ازداد هذا الوعي السياسي على أعداء الإسلام بعد أن كانت الهجرة وأقيمت الدولة وأصبح للإسلام سيادة وسلطان في المدينة المنورة.

فاستمرت الآيات تنزل في العقيدة الإسلامية وفي بيان عقائد الكفر، وهنا أضيف للمشركين في مكة العرب، عقائد أهل الكتاب اليهود والنصارى، واستمرت كذلك تنزل في بيان فساد الأفكار المضللة وتنزل في الصراع السياسي مع القوى المحلية والدولية المؤثرة، وأصبحت هذه أوسع من ذي قبل فضُمّ لها – أي لكفار مكة ومشركي العرب – المنافقون واليهود والنصارى وفارس والروم وغيرهم، ثم أضيف إلى ذلك كله الصراع المادي بالجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام بالدعوة والجهاد.

غير أنني هنا – كما ذكرت من قبل – سأركز فقط على الصراع السياسي مع يهود لأنهم كانوا الأقرب إلى دولة الإسلام في ضواحي المدينة وحولها، ولأنهم كذلك الأكثر خبثاً ولؤماً في المؤامرات والكيد للإسلام والمسلمين.

أما عن باقي أوجه الصراع فلعلني أتمكن من ذلك في وقتٍ آخرٍ وفي موضعٍ آخرٍ إنْ شاء الله.

وأما عن يهود فقد كشف الله طباعهم للملأ وبيّن حقدهم وكيدهم بياناً شافياً وافياً كدرسٍ عظيمٍ للتعامل معهم وبخاصة أنَّ كيانات كانت لهم، أي أنهم كانوا دولاً في جوار دولة الإسلام في المدينة:

  1. فعـلاقتهم مع الله علاقة كفر به سبحانه وبنعمه، فلم يلبث أن ذهب موسى – عليه السلام – لميقات ربه حتى اتخذوا العجل من بعده إلهاً لهم فكفروا علانيةً، فلما رجع موسى – عليه السلام – وتقبل الله توبتهم عادوا يرفضون الإيمان حتى يروا الله جهرةً فأخذتهم الصاعقة، ثم تاب الله عليهم وأنزل عليهم المنَّ والسلوى ومع ذلك كفروا بهذه النعم وظلموا أنفسهم بتعريضها لعقاب الله وشديد عذابه ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )البقرة/آية51-52 ( (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) البقرة/آية55-57.

  2. وعلاقتهم مع دينهم التحريف والنفاق:

فهم يحرفون التوراة على علمٍ، يعلمون صفة الرسول  صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يغيرونها، ويعلمون ما فُرِضَ عليهم من أحكام ثم يبدلونها ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)) البقرة/آية75 ( الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) البقرة/آية146.

ثم إنهم في النفاق لأولو باعٍ طويلٍ لا يضرهم أن يعلنوا الإيمان ثم يخفوا التآمر والكفر (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) البقرة/آية76.

  1. وعلاقتهم مع الأنبياء الغدر والقتل والحسد:

فكان النبي إذا جـاءهـم على غير ما يشـتـهـون قتلوه واستكبروا عنه ولم يتبعوه (  أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) البقرة/آية87 (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة/آية91 (  ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) البقرة/آية61.

حتى إنهم وقد كانوا على يقين بأن محمّداً  صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر والموعود في كتبهم بصفته ونعته، وأنهم كانوا يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وكانوا يستنصرون به على الأوس والخزرج ويتوعدونهم بأنَّ نبياً سيبعث ويكونون من أتباعه، ومع ذلك فلما جـاءهـم هذا الرسـول  صلى الله عليه وسلم امتلأت قلوبهم غيظاً وحسـداً كيف يكون من ولد إسماعيل – عليه السلام – وليس من ولد إسحاق عليه السلام جدهم كما يقولون!، فلم يؤمنوا بالرسول  صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون صدقه (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) البقرة/آية89-90.

  1. وعلاقتهم مع العهود والمواثيق نقضٌ وإعراضٌ، وكلما أخذ الله منهم ميثاقاً نقضوه، فأخذ الله عليهم ميثاق تنفيذ التوراة، فرفضوا فهددهم الله بعقاب أليم أن يرفع الجبل ويوقعه عليهم، فوافقوا ثم عادوا فأعرضوا لأن النقض والإعراض عن تنفيذ المواثيق هو ديدنهم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )البقرة/آية63-64.

  2. وعلاقتهم مع تنفيذ أمر الله التلكؤ والتبريرات والحيل والتأويلات: فقد مُنِعوا الصيد يوم السبت لكنهم كانوا ينصبون الشباك ويحفرون قنوات ليدخل السمك فيها يوم السبت، ثم يذهبون لإحضارها يوم الأحد فيكون الصيد قد حصل عملياً يوم السبت وهم يعلمون (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) البقرة/آية65 «لعن الله اليهود، حَرَّمَ الله عليهم الشحوم فجَمَلوها وباعوها وأكلوا ثمنها[1] فهم قد حرمت عليهم الشحوم فتحايلوا على التحريم بأن استعملوها في غير الأكل للاستصباح بها وطلاء السفن.

ثم إنهم قتلوا نفساً وأنكر كلّ منهم أنه القاتل، أمرهم الله سبحانه أن يذبحوا بقرة فيضربوا القتيل ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله، ولكنهم تلكأوا بالتساؤلات والاستفسارات ليعطلوا تنفيذ الأمر أكبر قدر ممكن حتى لم يجدوا سبيلاً لمزيد استفسار فأدوا الأمر بتثاقل سقيم ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) البقرة/آية67-71.

  1. وعلاقتهم مع غيرهم من الناس فسادٌ وإفسادٌ دون أن يراعوا في غيرهم حلالاً أو حراماً، بل يجيزوا السوء معهم وهم يعلمون ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران/آية75. والأميون عندهم غير اليهود فليس عليهم سبيل في إساءة التعامل معهم ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) المائدة/آية64 (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )المائدة/آية62 والسحت هو المال الذي يكسبونه بالحرام.

  2. ثم إنهم يجيزون مخالفة دينهم إن كان في ذلك مصلحة من جاهٍ أو سلطانٍ أو أمرٍ من الدنيا، بل إذا لزم الأمر يغيِّرون آيات الله بثمنٍ بخسٍ يتقاضونه مقابل ذلك من مالٍ أو أية مصلحةٍ دنيويةٍ لهم، فلا قيمة ثابتة لديهم ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) البقرة/آية79.

وأمر آخر، فإذا لزم أن يقتلوا بعضهم ليؤججوا حرباً بين أقوام عدو لهم فلا يجدون ضيراً في ذلك، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة أنى كانت، وقد صنعوا هذا فيما مضى بتأجيج الحرب بين الأوس والخزرج بوقوف كلّ فريق منهم مع قبيلة منهما الأوس والخزرج ثم يثيرون الفتنة كلّ فريق منهم مع قبيلة لتبقى الحرب مستعرة لإضعاف القبيلتين، وقد يقتل من يهود أثناء ذلك، ولكن لا بأس عندهم في ذلك ما دام فيه مصلحة من هيمنةٍ أو سلطانٍ، يخالفون دينهم بقتل أنفسهم إن كان ذلك يحقق لهم هدفاً ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة/آية85.

  1. ثم إنهـم يغـمـزون ويلـمـزون ويسـيـئـون الأحـاديـث وينـشـرون الأبـاطـيل ويحـيكون المؤامـرات لإبعاد المسلمين عن دينهم؛ فهم يبحثون عن كلمات بدلالات سيئة لنشرها ضدّ الإسـلام ورسـوله صلى الله عليه وسلم كما صنعوا باستغلال كلمة (راعنا) ذات دلالة السـب والشتم في لغتهم، واستغلال موافقة حروفها لكلمة (راعنا) العربية التي كان يسـتعـملها المسـلمون في مخـاطبة الرسـول صلى الله عليه وسلم بمعنى أنظرنا وأمهلنا، فاستغلوا ذلك وأكثروا من استعمال كلمتهم بدلالتها السيئة، ويوجهون ذلك إلى رسول الله e، إلى أن أنزل الله في ذلك قرآناً منع استعمالها وردّ كيدهم في نحرهم ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) النساء/آية46.

  2. ثم إنهم كانوا يؤمنون تارةً ويكفرون بعدها محاولين التأثير على المؤمنين، ويودون بذلك أن يرجعوهم عن الإسلام حسداً من عند أنفسهم وكيداً للإسلام والمسلمين (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) آل عمران/آية72 (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) المــائـدة/آية61 (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) البقرة/آية109.

  3. تطفلهم على الآخرين فلا قوة لهم ولا عزة ولا طمأنينة في غنىً أو أمنٍ إلا في حالتين:

أ. الذين آمنوا مع أنبيائهم – حبل من الله – وتلك قد انتهت.

ب. في حال تطفل وتبعية على الدول الأخرى – حبل من الناس – وهذه حالتهم منذ أن كفروا وحرّفوا دينهم، هي حالة واضـحة عليهم لا تفارقهم فقبل الإسـلام كانت قوتهم تارة تأتي بالتبعية للروم أو للفرس ثم بشقّ الصف بين الأوس والخزرج لإضعافهم، فلما قضى الإسلام عليهم ككيان عاش من بقي منهم في ذلةٍ ومسكنةٍ وغضـبٍ مـن الله ولم تقم لهم قائـمـة حتى استطاعوا أن يلتصقوا بالدول الكافرة المستعمرة خلال هذا القرن بعد زوال دولة الإسلام – دولة الخلافة – فهم على الدوام في خضوعٍ وخنوعٍ لدولةٍ أو أكثر من دول الأرض، يتطفلون عليهم في القوة والمال. وحال دولتهم الحالية المغتصبة لفلسطين ماثلة للعيان لا يحتاج إلى برهانٍ، وإنَّ أضعف الأعداء من كان خالياً من القوة الذاتية والقوة المستندة إليه والمؤونة المالية المغطاة من إمكانياته، وهذا ما يفتقده يهود والوقائع تثبت ذلك، والقضاء عليهم قريب بإذن الله بقرب عودة الخلافة للوجود، وقرب استئناف الجهاد عبر الحدود ( لنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)) آل عمران/آية111-112.

وجملة القول إن من تدبر هذه الآيات العظيمة التي ذكرناها سواء ما نزل منها في مكة بالنسبة لرؤوس الكفر هناك قبل قيام الدولة الإسلامية أو ما نزل منها في المدينة بالنسبة ليهود بعد قيام الدولة الإسلامية، فإن المتدبر لها يرى أن الله سبحانه قد وصف واقعهم وبيّن طبائعهم بياناً لا يقف عند الإجمال بل يدخل في التفاصيل في أمورٍ كثيرةٍ منها، وكلّ ذلك ليتبين المسلمون، وبخاصة حملة الإسلام منهم العاملون لاستئناف الحياة الإسلامية في الأرض، ليتبينوا أن معرفة الواقع السياسي للقوى المؤثرة أفراداً كانوا أو جماعاتٍ أو دولاً أمر مهم ومهم للتعامل معهم بما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله  صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه ليكون المسلم واعياً على ما يجري حوله كيّساً فطناً وليس خباً ولا الخبّ يخدعه، ولا تكسره المصائب ولا تهزه النوائب، لا يُؤخَذ على حين غرةٍ، ولا يطعن في الظهر وهو غافلٌ لا يدري من أي اتجاه تأتيه السهام أو تصيبه السيوف، بل يهتم بأمر المسلمين، ويقف على ثغرةٍ أو فوقها من ثغر الإسلام، لا يؤتى من محذره ولا من مأمنه، ثابتٌ على الحقّ كالطود بإذن الله ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ) إبراهيم/آية27.q

[1]               البخاري: 2071، 2072، مسلم: 2961

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *