العدد 384 -

السنة الثالثة والثلاثون – محرم 1440هـ – أيلول / سبتمبر 2018م

استراتيجيات سياسة القوة لدى مفكري الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين: كيفية السيطرة على العالم باستخدام القوة (2)

استراتيجيات سياسة القوة لدى مفكري الغرب

في القرنين التاسع عشر والعشرين:

كيفية السيطرة على العالم باستخدام القوة (2)

عبد الحميد عبد الحميد

لأننا في عالم رأسمالي متوحش لا مكان فيه للضعفاء، ونطمح إلى بناء دولة يجب أن تصمد نواتها الأولى أمام هجوم الدول الراسخة في القوة، ثم تقوى هذه النواة وتتمدد لتحوي حدودها جميع بلاد المسلمين، ثم تقوى وتتمدد لتحكم العالم أجمع بالإسلام.. لأجل ذلك رأينا أن نفتح هنا نافذة نطلّ منها على مبدأ سياسة القوة ونظريات منظّريه الغربيين، لنقف على أساليب تفكيرهم، وأسباب انطلاقهم من وجهات نظر مختلفة في الأداة الأهمّ الواجب استخدامها لأجل حكم العالم.  

وكنا قد عرضنا في العدد السابق عنوانين في الموضوع، وهما:

1- مفهوم سياسة القوة     2- المفهوم السياسي للقوة البحرية ـ الاستراتيجية البحرية.

وسنعرض في هذا العدد:

3- المفهوم السياسي للقوة البرية – الاستراتيجية البرية:

كان البر منذ البداية هو المسرح لتنافسات وخصومات المجتمعات البشرية من أجل السيطرة على الأرض التي تمد هذه المجتمعات بمقومات البقاء؛ حيث تكوَّنت دويلات المدن القارية التي راحت تتوسع على حساب بعضها كلما أتيح لها ذلك، مشكّلة أقدم الإمبراطوريات القارية المعروفة، كالبابلية والآشورية والفرعونية والفارسية.

ثم قامت الدولة الإسلامية وتوسعت على أساس قاري حتى وصلت حدودها إلى فرنسا والصين، إلا أن جبال طوروس صعبة المسالك شكلت عائقًا طبيعيًا أمام تقدم القوات الإسلامية باتجاه البيزنطيين، مما اضطر المسلمين زمن بني أمية والعباس لركوب البحر، لبسط السيطرة على جزر المتوسط وصولًا إلى القسطنطينية.

ومن ثم نشأت إمبراطورية المغول الذين انساحوا غربًا بمساعدة التضاريس السهلية ومعرفتهم بالأوضاع الداخلية للدول الأخرى، حتى وصلوا إلى غرب بلاد المجر حيث اعترضت جحافلَهم تضاريس جبلية تكسوها الغابات مما لا يتوافق مع بيئتهم السهلية الصحراوية. وبعدها ضمت الخلافة العثمانية بلادًا واسعة في كل من قارتي آسيا وأوروبا، إلى أن قامت في أوروبا إمبراطورية نابليون الفرنسية ثم سقطت بالتحالف الأوروبي عليها.

وهكذا فإن الصراعات بين المجتمعات البشرية في معظمها كانت ذات طابع قاري، لأن احتلال الأرض والاستفادة من خيراتها وحكم الناس بشرائع الفاتحين هي أسباب هذه الصراعات، وكانت القوات البحرية على الأغلب رافدًا للقوات البرية التي كانت هي الأساس في حسم المعركة والقضاء على العدو على اليابسة.

وعندما تتوسع الدولة القارية إلى مناطق متباعدة وتشرف على شواطئ بحرية تجد نفسها ملزمة بركوب البحر للدفاع عن ممتلكاتها التي يمكن أن تهددها أساطيل بحرية لدولة قوية تعتمد على البحر في علاقاتها الاقتصادية مع العالم الخارجي. وكذلك فالدولة البحرية ملزمة ببناء قواعد عسكرية برية لها في البلاد المحتلة، لدعم قوتها البحرية بعامل استناد جغرافي بري في مناطق انتشارها، كي لا تنهار الدولة بمجرد سقوط عاصمتها.

ويعد البريطاني ماكندر من أكثر الجغرافيين قناعة بانتصار القوة البرية على القوة البحرية في المستقبل، والتاريخ البشري برأيه ما هو إلا صراع ما بين القوتين. وقد حاول وضع فرضية توضح ارتباط الأحداث السياسية الدولية بالعوامل الجغرافية، منطلقًا من الواقع التضريسي لسطح الكرة الأرضية المتمثل في كتلة واحدة متماسكة تحيط فيها البحار والمحيطات باليابسة إحاطة السوار بالمعصم.

فقد قسم ماكندر الأرض إلى ثلاث مناطق إقليمية كبرى: قلب الأرض، والهلال الداخلي، والهلال الخارجي. وعدّ كتلة العالم القديم بمثابة الجزيرة العالمية الأساسية، التي تقارب مساحتها ثلثي مساحة اليابسة، والبالغة نحو /149/ مليون كم2.

وبحسب ماكندر فإن قلب الأرض هو المنطقة الوسطى من الجزيرة العالمية، الممتدة من نهر الفولغا غربًا إلى شرق سيبيريا، والبالغة مساحتها /21/ مليون كم2. حيث تشمل السهل الروسي ومنغوليا مع غرب الصين وأفغانستان وبلاد فارس وبلوشستان باستثناء شريطها الساحلي. وهي منطقة حصينة يصعب غزوها؛ حيث تحدها من الجنوب تضاريس جبلية صعبة الاجتياز، ومن الشمال المحيط المتجمد بمناخه القاسي. أما الأنهار الثلاثة الكبيرة في الشرق (أوبي، ينيسي، لينا) فتصب في المحيط القطبي؛ مما يجعلها صعبة الاستخدام في المواصلات المائية. وتحوي هذه المنطقة نهر تاريم الداخلي، إضافة إلى نهر الفولغا الصالح للملاحة والذي يصب في بحر قزوين الداخلي؛ ولذلك تعد هذه المنطقة أفضل منطقة دفاع في العمق، وأمنع معقل لقوة البر.

ثم أضاف ماكندر إلى منطقة القلب جميع مساحة روسيا الأوروبية وشرق أوروبا حتى نهر الألب في ألمانيا، مشتملًا على السهل الأوروبي الكبير بموارده الغنية. ثم وسعها لتشمل جميع أراضي الاتحاد السوفياتي باستثناء الشرق الأقصى. وبذلك تكون هذه المنطقة محصنة من جميع جهاتها ما عدا الجهة الغربية الممتدة من البحر الأسود إلى بحر البلطيق، التي أطلق عليها ماكندر اسم «الباب المفتوح»، حيث تنفتح على ألمانيا وغرب أوروبا. وبانضمام أوروبا الشرقية إلى حلف وارسو فيما بعد استطاع هذا القلب أن يسد الباب المفتوح عليه من الغرب، والذي يمكن أن يهاجم منه. لذلك رأى ماكندر ضرورة اتحاد روسيا وألمانيا لقيام دولة عالمية.

ولقد عد ماكندر منطقة جنوب الصحراء الأفريقية قلبًا جنوبيًا للأرض، حيث تجري فيها أنهار ذات تصريف خارجي، هي النيجر والكونغو والزامبيزي، الصالحة للملاحة في مجاريها العليا. ولأنها غير صالحة للملاحة في مجاريها الدنيا بسبب الشلالات فيعد هذا القلب صعب الغزو من جهة البحر. وتشكل بلاد العرب جسرًا يصل بين قلبي الأرض عبر تضاريسها السهلية وأنهارها الطويلة، دجلة والفرات والنيل.

أما منطقة الهلال الداخلي التي تحتضن منطقة القلب الشمالي من الجنوب فتتمتع بتربة خصبة في معظمها، وتشرف على المحيطات الهادي والهندي والأطلسي، وتشمل مناطق جنوب وشرق وجنوب شرق آسيا والجزء الواقع من بلاد العرب جنوب غرب آسيا إضافة إلى منطقة غرب أوروبا. وهي منطقة ذات تصريف خارجي عبر أنهار الدانوب والراين والألب ودجلة والفرات والسند والغانج واليانجستي، وهي جميعها صالحة للملاحة. وتعد هذه المنطقة في نظر ماكندر هي منطقة الصدام بين القوى البرية والقوى البحرية.

وأما منطقة الهلال الخارجي فتشمل الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا والفليبين وإندونيسيا وماليزيا وبريطانيا واليابان وجميع جزر المحيط الهادي؛ حيث يفصل بين الهلالين الداخلي والخارجي بحار ومحيطات شاسعة.

وعندما لاحظ ماكندر صعود نجم الولايات المتحدة وانكفاء دول غرب أوروبا إلى الدرجة الثانية، اصطلح اسم «الحوض الأوسط» على منطقة حلف شمال الأطلسي، وعدّ منطقة الرايخ الألماني فاصلًا ما بين القلب الشمالي والحوض الأوسط؛ ولذلك لا بد من التحالف بينهما للقضاء على العسكرية الألمانية، وهذا ما تم فعلًا.

وخلص ماكندر من كل ما سبق إلى أن من يحكم شرق أوروبا ـ وهو الطريق إلى القلب ـ يسيطر على القلب، ومن يحكم قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم القديم، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم. وتوقع أثناء الحرب العالمية الثانية خروج الاتحاد السوفياتي منتصرًا على ألمانيا، وذلك أهله لأن يصبح أقوى قوة برية، وصاحب أقوى مركز دفاعي في العالم من المنظور الاستراتيجي. 

أما الانتقادات التي وجهت إلى نظرية ماكندر، فمنها أن القوى الناجحة في المستقبل ستكون هي القوى التي تمتلك أعظم قاعدة علمية وصناعية متطورة، سواءً أكانت برية أم بحرية. وقد أسقط ماكندر من حسابه التطور السريع للقوة الجوية القادرة على ضرب أية نقطة في العالم، واحتمال تطوير أسلحة مستقبلية جديدة.

وانتقد بأنه ليس من المستبعد أن تبرز اليابان مستقبلًا كقوة بحرية لموقعها الجُزُري المشابه لموقع بريطانيا. ولكن مع تغير الظروف الدولية بات ذلك مستبعدًا فعلًا. فاليابان اليوم مكبلة بقوتين كبيرتين مجاورتين لا طاقة لها على مجاراتهما عسكريًا، هما روسيا والصين، وذلك لصغر مساحتها وندرة مواردها الاقتصادية من المواد الخام، وهذه نقطة ضعف تجعل من اليابان قوة محدودة حتى وإن امتلكت ناصية العلم والتقنية الصناعية. فأي خطر على استمرار توريد المواد الأولية سيهلك صناعتها ويسقطها.

فأمام اليابان اليوم ثلاثة احتمالات:

  1. التبعية للولايات المتحدة بصورة تحالف معها؛ ما يجعلها بمثابة الخاصرة الضعيفة لروسيا والصين ورأس حربة أميركية ضدهما، وهذا يجعلها ورقة بيد أميركا يمكن أن تتخلى عنها لأعدائها الروس والصينيين في أية مساومة مستقبلية، ويكون عملها بذلك خدمة لأميركا أكثر من خدمتها لنفسها ومصالح شعبها.

  2. البقاء على الحياد في خضم المنافسة الأميركية ـ الروسية والأميركية ـ الصينية في شرق القارة الآسيوية.

  3. التحالف الاستراتيجي مع الصين، بمزج التقنية اليابانية مع المواد الخام والطاقات البشرية والعمق الدفاعي للصين، مع اعتبار علاقة الجوار الجغرافي والتقارب السلالي المغولي بينهما، مما يمهد لقيام نواة قوة عظمى تشكل عامل جذب لشعوب شرق وجنوب شرق آسيا من المجموعة المغولية، وتسحب البساط من تحت الأقدام الأميركية في المنطقة، وتمنعها من التحكم منفردة بإدارة شؤون العالم، إن لم تقصِها عن مركز الدولة الأولى.

أما الأميركي سبايكمان /1893 ـ 1943/ م، فقد قلَّل من أهمية القلب الروسي والدور الذي يمكن أن يلعبه في السياسات الدولية كمركز للمواصلات والحركة والفعاليات الاقتصادية الزراعية والصناعية، ومن ثم كمحور للقوة، ورأى أن السيطرة على أوراسيا ومن ثم على العالم تأتي من السيطرة على الأقطار المحيطة بالقلب الروسي، وهي الهلال الداخلي في نظرية ماكندر، والتي أسماها سبايكمان «الإطار الأرضي»، حيث تضم كامل أوروبا وجزيرة العرب مع الشام والعراق وتركيا وإيران، وصولًا إلى شرق وجنوب شرق آسيا.

وقسم سبايكمان الأرض بين روسيا كقوة برية وبريطانيا كقوة بحرية، واعتبر أن منطقة الإطار الأرضي ذات التربة الخصبة والتصريف المائي الخارجي هي منطقة التنافس والتصادم بين القوتين البرية والبحرية، وبذلك يتفق مع ماكندر. ونادى بضرورة أن توجه الولايات المتحدة سياستها المبنية على القوة باتجاه الإطار الأرضي، فمن يسيطر على الإطار الأرضي يسيطر على أوراسيا، ومن يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم، حيث تم اتباع رأيه في ذلك من قبل السياسيين الأميركان.

وقال إن السيطرة على أوروبا تتم من خلال التعاون بين القوات البرية لروسيا والقوات البحرية لبريطانيا والولايات المتحدة، وإن قوة روسيا سوف تبقى محصورة في إقليمها غرب جبال الأورال؛ لأنه غني برواسب الحديد والنفط والقدرة المائية والإمكانات الزراعية.

وقسم سبايكمان العالم إلى قسمين: غربي يضم الأميركيتين، وشرقي يضم العالم القديم وجزر المحيط الهادي الكبرى، ورأى أن القسم الشرقي يطوق القسم الغربي، ومساحة الأول تزيد مرتين ونصف على مساحة الثاني، وعدد سكانه يبلغ عشرة أضعاف عدد سكانه، وأن إنتاجه من الفحم والحديد يزيد على ثلثي الإنتاج العالمي حسب معطيات سنة /1937/م، وبناء عليه فقد نصح الولايات المتحدة بالوقوف ضد أي تقارب روسي ـ أوروبي.

وأما فوست فقد وافق على أن من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على منطقة القلب، حيث تسيطر روسيا على هذه المنطقة منذ القرن السادس عشر انطلاقًا من قاعدتها في شرق أوروبا. ثم اعتبر أن من المبالغة القول بأن من يحكم القلب يسيطر على العالم، فلا تملك منطقة القلب من أسباب القوة ما يكفي للسيطرة على الإطار الأرضي، وهي لم تسيطر عليه سابقًا رغم العديد من الغزوات التي خرجت منها باتجاه الأطراف، كغزوات المغول والتتار. وقال إن قوة الإمبراطورية العالمية لا تكمن في القلب، بل في أراضي شرق أوروبا الآهلة بالسكان، ومع ذلك فإن اتحاد القلب مع شرق أوروبا فقط لن تكون له تلك القوة الاستراتيجية كما توقع ماكندر، بل دعا إلى اتحاد القلب مع كل أوروبا لأنها توفر الموارد الطبيعية والبشرية التي تمكنه من السيطرة على الأقاليم الهامشية من العالم، وعندها فمن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم.

لكن ويغِرْت ورغم اعتباره أن نظرية مركز القوة الأرضية ـ القلب هي في عصره (سنة /1949/م) أقوى من أي وقت مضى، إلا أنه اعتبر أن ماكندر قلَّل من أهمية الولايات المتحدة، ونظر إليها على أنها شبه معزولة عن العالم كما أراد لها هو ذلك عندما وضعها في منطقة الهلال الخارجي،  لكنها الآن متصلة بمنطقة القلب بوساطة شمالي المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي. وتوقع أن تطور سكان الهلال الداخلي كمًا ونوعًا، وبخاصة في الصين والهند، سيضعف القلب الروسي والدول الغربية، وسيؤثر في العلاقات الدولية القائمة بين القلب والهوامش، وسيجعل القلب كالقائم على قاعدة من الرمل. واعتبر أن ماكندر في محاولته لإيجاد علاقة ثابتة لتوازن القوى في العالم قائمة بين القلب وبقية الأقطار أغفل احتمال ظهور محاور أخرى يمكن أن تحدث خللًا في موازين القوى، كالقوة الأميركية التي كانت آخذة في الصعود وقتها.

[يتبع]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *