العدد 327 -

السنة الثامنة والعشرون ربيع الثاني 1435هـ – شباط 2014م

جزائرُ «الاستقلال»: بين حقد جنرالات فرنسا و خبث عملاء الإنجليز (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

جزائرُ «الاستقلال»: بين حقد جنرالات فرنسا و خبث عملاء الإنجليز (2)

صالح عبد الرحيم – الجزائر

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد،

نقدم في ما يلي رؤية سياسية تساعدُ على فهم ما يحدثُ في الجزائر اليومَ، وتكشف المستورَ (أو بعضه) مما يحيكه الاستعمار الغربي في هذا البلد، كما فعل ويفعل في كل أقطار البلاد الإسلامية لإبقائها تحت النفوذ والهيمنة الاستعمارية، أملاً في أن يتحرك المسلمون مجدداً – في الجزائر وفي غيرها – في اتجاه التحرر الحقيقي، بالإسلام لا بغيره… ولن يكون ذلك  إلا بقيام دولة الخلافة من جديد…

والحقيقة أن شكلَ السلطة المستقبلية في الجزائر كانت قد بدأت تظهر ملامحُه منذ اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في كانون الأول (ديسمبر) 1959م فيما عُرف بمؤتمر طرابلس الغرب في ليبيا، بتأثير وتدبير أجنبي واضح (من الإنجليز خاصة)، وكان من أهم ما تمخض عنه المؤتمر إنشاء هيئة أركان عامة  للقوات المسلحة أُسندت للعقيد هواري بومدين، ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر أعمال هذا الأخير واستراتجيته لأخذ السلطة، ومنها إعداده وتنظيمه الجيد لما كان يعرف بجيش الحدود لإنهاك فرنسا عسكرياً واقتصادياً من جهة، ولكن من جهة أخرى لجعله قوة عسكرية (وسياسيةً في ذات الوقت) يكون بوسعه الاعتمادَ عليها  – إلى جانب القوى الموالية في الداخل – في اللحظة الحاسمة، أي عندما تتهيأ ظروف أخذ الحكم،  وليكون كذلك سنداً بعد الاستقلال ،كلما لزم الأمر، للمحافظة على النفوذ والبقاء في السلطة. ومن اللافت أن يوسف بن خدة الذي خلَف فرحات عباس في رئاسة الحكومة المؤقتة بعد تنحية هذا الأخير في 1961م عشية الاستقلال قام – مدفوعاً من بعض خصوم بومدين العسكريين والسياسيين ـ بخطوة جريئة، وحاول إبعادَ بومدين عن الجيش في تشكيلة الحكومة الانتقالية الجديدة، إلا أن محاولتَه هذه باءت بالفشل، ولم يفلح في إقصائه، لهذا جرى تحييد بن خدة مباشرة بعد «الاستقلال» ثم تم إيقافُ نشاطه السياسي نهائياً فيما بعدُ من طرف العقيد (كما جرى أيضا تحييدُ وإبعاد سلفه فرحات عباس بشكل كامل، وهو الذي شغل رئاسةَ البرلمان لبعض الوقت في الدولة الجديدة خلال  فترة رئاسة بن بلَّا).

استخدمَ العقيد بومدين (وجماعتُـه) هذه الحيلة، أي وضع بن بلَّا في الواجهة عشية الاستقلال، ضمن ما كان يريد تحقيقَه من أهداف سياسية أخرى، لكي يُخفي من جهةٍ انقلابَه العسكري المقنَّع ولتَظهرَ أمام أنظار العالم الجزائرُ الجديدةُ المستقلة بحكومة «مدنية» لا عسكرية، يكون هو وزير الدفاع فيها، وتستحق بالتالي كل الدعم من كل الأطراف الدولية التي «تدعم» تقريرَ مصير الشعوب (أميركا والاتحاد السوفياتي خصوصاً) وتؤيد طموحها للتحرر من الاستعمار، وهذا ما كان! ومن جهة أخرى لكي يتسنى له ترتيبُ أوراقه والتخلصُ بذكاء من خصومه السياسيين والعسكريين على السواء – مستخدماً شرعيةَ الدولة الجديدة – ليتهيأ بعد ذلك للوثوب على السلطة ولو بالقوة لاحقاً، بعدما تنضج خطتُه وتتغير الأجواء  والملابساتُ، وبعدما يضعفُ أو يندثر الخصوم الثوريون والعسكريون والسياسيون المحتملون، أو يتم تحييدهم أو القضاءُ عليهم (تصفيتهم) أو نفيُهم أو إبعادُهم. هذا ولا يخفى أن بن بلَّا كان هو الآخر قد شرع بعد 1962م في تنفيذ جملة من الخطوات لإقصاء بعض خصومه أملاً في تغليب كفة النفوذ لصالحه بدعم من أميركا وعبد الناصر ولكن دون جدوى، إذ لم يكن الأمر سهلاً، خاصة و أنه كان يفتقر إلى دعم الركيزة الأساسية في الدولة الناشئة (الجيش) خصوصاً بعد ما ساءت علاقتُه مع وزير الدفاع، إذ لم تكن مفاتيح الحكم الحقيقيةُ بيده.

–   أما  المكيدة  الثانية  التي  دُبرت لِـ بن بلَّا: فهي بالتأكيد إزاحته الفعلية عن الحكم، عندما قرَّر بومدين     وجماعتُه أن الفرصة قد صارت مواتية، وأن بن بلَّا قد انتهى دورُه. و هذا ما كان فيما عُرف بانقلاب 19 حزيران 1965م، عندما قام بومدين بمساعدة محمد خيضر وبعض رفاقه ومؤيديه منهم على الخصوص الطاهر الزبيري – وبدعم من عميل الإنجليز وصديق فرنسا وأميركا واليهود ملك المغرب الحسن الثاني – قام بانقلابه المعروف على بن بلَّا ووضعه في السجن ثم حبسه في إقامة جبرية (إلى غاية أكتوبر 1980م). بطبيعة الحال أنصارُ بومدين إلى اليوم يرفضون وصفَ هذه الخطوة بالانقلاب، و يطلقون عليها اسم التصحيح الثوري. سيطر بومدين يومَها على الدولة باسمِ ومن خلالِ مجلس الثورة الذي أنشأه وضمَّنه رجالاتِه وصار فعلياً هو من يحكم البلاد، كما سيطر على جبهة التحرير من خلال اللجنة المركزية و المكتب السياسي فيها، اللذين كان يُختارُ أعضاؤهما من «المناضلين المخلصين» سواء العسكريين أم المدنيين، أي من الموالين من أمثال قايد أحمد ومساعدية وغيرهما. و لهذا يخطئ من يظن أن جبهةَ التحرير هي من كان يوماً يحكم الجزائرَ خلال كل تلك العقود التي تلت خروج القوات الاستعمارية. إلا أنه لا يخفى ما صار بذلك حينها لجبهة التحرير الوطني (كأداة من الأدوات في الحكم و التحكم، وواجهة سياسية لدى أصحاب القرار) من نفوذ في الأوساط الشعبية وفي مراكز الدولة ومواقع القرار، وكانت هي الحزب بالألف واللام، حتى أصبحت لا يمكن فصلُها عن الدولة، وكانت العضوية في جبهة التحرير الوطني تعني مزية وميزة كبرى لمن يطمح لمنصب في الإدارة و غيرها، بل شرطاً غير مكتوب  لتولي مناصب معينة في الدولة. إلا أن الحكمَ رغم ذلك كلِّه كان كلُّه وما يزال بيد العسكريين منذ 1962م إلى اليوم (لهذا الطرف أو ذاك).

لهذا أمكن القول إجمالاً على ضوء ما سبق ودون مبالغة إن بومدين رجل الدولة العسكري-السياسي (المرتبط بالإنجليز و المدعوم من جانبهم في الخفاء) البعيد النظر والذي درس بالزيتونة وبالأزهر هو مَن خط الخطوط العريضة للبلد، وهو وجماعته – مجموعة وجدة التاريخية – مَنْ شكلوا  الجزائر الحالية. و لا شك أنه كان – بوصفه رئيساً لمجلس الثورة بعد الانقلاب- يحكم البلادَ والعبادَ بدهاء سياسي كبير باسم الشرعية الثورية (الجهاد ضد المستعمر) ويكافح الإمبريالية والاستعمار، وكان يتحدث بلغة الشعب (العربية  والإسلام)، ويستخدم في ذات الوقت رصيدَ جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير في الثورة، وكان قريباً من العمال والفلاحين والكادحين الطلبة، ويتبنى الوطنية والاشتراكية والعروبةَ والإسلامَ والوحدة الأفريقية وفكرة عدم الانحياز، وفصل الدين عن الدولة، وهي الخلطة السحرية التى دوَّخ بها الشعبَ مدة ليست بالقصيرة (خلطة الإنجليز). ولهذا لم يبعد الشيخ البشير الإبراهيمي (رغم انتمائه للمدرسة الإصلاحية المتأثرة بالوطنية  وبأفكار محمد عبده المرتبط هو الآخر بالإنجليز كما هو شأن أستاذه الأفغاني) عن الحقيقة عندما قال: إن الإنجليز هم أول الشر ووسطه وآخره، كما لم يخطئ السلطان عبد الحميد الثاني عندما قال في مذكراته: إن أكثر ما يجب على المرء أن يحذره من بين الدول الكبرى هو إنكلترا. ومما يجدر ذكره بل التركيز عليه أن بومدين استطاع أن يجعل في واجهة حكمه جبهةَ التحرير الوطني، التي كانت الواجهة السياسية لجيش التحرير الوطني أيام الثورة، وذلك بتوريط المنتسبين إليها في المزايا والمطامع وغمسهم في المكاسب والمنافع، ثم أصبحت في ما بعدَ «الاستقلال» مليئةً عن قصدٍ بالمنتفعين والانتهازيين من جميع الفئات عسكريين ومدنيين. كما جعل منها حزباً وحيداً مسيطراً على المجتمع ومهيمناً على الحياة السياسية ينفذُ الرئيس من خلاله إرادتَه وسلطتَه على جميع الأصعدة.

كان العقيد هواري بومدين (محمد بوخروبة اسمه الحقيقي) بوصفه رئيساً للدولة ووزيراً للدفاع في ما بعد 1965م يفعل كل ذلك وعينه لا تنام عن ضباط فرنسا وأتباعهم ومناصريهم، الذين باتوا – كعسكريين     وسياسيين في ذات الوقت – يتحركون بوتيرة أسرع منذ 1976م نحو قمة الهرم. إلا أنه على ما يبدو كان يثق بشكل مفرط في قدرته على التحكم في الأوضاع سياسياً وعسكرياً، كما يُمكن القول إنه كان في نفس الوقت متواطئاً، إذ لم يأخذ بتحذيرات الضباط (الوطنيين على الأقل فضلاً عن ذوي الاتجاه الإسلامي) المتخرجين من الأكاديميات العربية المناوئين لعملاء فرنسا المندسين خاصةً في الجيش  وفي الإدارة (لدرجة أنه كان يردع من يحذره)، وقرر الاستفادةَ من الضباط الذين كانوا في الجيش الفرنسي من حيث خبراتهم وقدراتهم في إعادة تنظيم وتدريب وعصرنة جيش التحرير، وذلك من أجل الوصول إلى أغراضه السلطوية ضمن ارتباطاته بالجهات الخارجية التي كانت تدعمه سياسياً ومادياً   وأمنياً، و كان يرى في ذلك التوافق مصلحة مشتركة! وهو ما سهَّل دخولَهم وارتقاءهم إلى أعلى المواقع المختلفة والمناصب الحساسة في الجيش خاصة، وجعَلهم أيام الثورة يتدافعون بل ويتهافتون لتقديم خِدماتهم، عن قصد وسابق تخطيط، لقيادة هيئة الأركان ولجيش التحرير! وهكذا خطط وكاد بعضهم لبعض. والحقيقة التي تخفى على الشعب  هي  أن  هذا  المسار  الذي  رُسم لـ«جزائر الاستقلال» – بعد إزاحة بن بلَّا – كان توافقاً بريطانياً-فرنسياً ضَمِن بقاءَ هذا البلد في نطاق النفوذ الاستعماري الأوروبي إلى اليوم، بعيداً عن التدخل والنفوذ السياسي الأميركي.

ومع النجاح في إبعاد بومدين في كانون الأول (ديسمبر) 1978م بعد إصابته بمرض عضال – أعجز السوفيات (الروس) عن علاجه – إثر تسميمه من طرف هؤلاء الخصوم السياسيين كما أسلفنا، تم أيضاً إقصاءُ  كثير من رجالاته وإبعادُهم عن مواقع التأثير (عسكريين وسياسيين)، منهم بالذات عبد العزيز بوتفليقة وقاصدي مرباح على سبيل المثال، وكان هذا الأخير رجلَ مخابرات بومدين في سبعينات القرن الماضي        وجرت تصفيتُه لاحقاً في أتون الصراع على المواقع في دواليب الحكم عقب انقلاب 1992م في أوج الأحداث الدموية التي عرفتها البلاد… وغيرهم كثير. علماً أن قاصدي مرباح لم يكن في قيادة هيئة الأركان على الحدود الشرقية مع بومدين إبان الثورة، وإنما كان يشتغل على الحدود الغربية مع عبد الحفيظ بوصوف الذي كان يشغل منصب وزير الاستخبارات والتسليح في الحكومة المؤقتة، إلا أنه سار مع بومدين بعدما رجحت كفةُ هذا الأخير على الباءات الثلاثة الأقوياء في الصراع على السلطة (كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف والأخضر بن طوبال الذين كانوا يشغلون في الحكومة الجزائرية المؤقتة على التوالي: منصب وزير القوات المسلحة، منصب وزير الاستخبارات والتسليح، منصب وزير الداخلية)، وسلَّم مرباح أرشيف استخبارات الحكومة المؤقتة كاملاً إلى العقيد بومدين، باستثناء بعض الملفات (منها مثلاً ملف تصفية العقيدين عميروش وسي الحواس)! تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن بومدين -منذ استلامه قيادة الأركان في نهاية 1959م وربما قبل ذلك – كان قد أسس جهازاً للاستخبارات والأمن العسكري خاصاً به مستقلاً تماماً و موازياً لجهاز استخبارات الحكومة المؤقتة، وكانت نواته تتألف على وجه الخصوص من القياديين مهدي الشريف وحسين هامل والعربي بوقادوم وعبد الحميد جوادي وكذلك مسعود زقار المدعو رشيد كازا الذي كان مكلفاً لدى بومدين بأوروبا وأميركا، وآخرين… ).

وجد أولئك الضباط بعد إزاحة بومدين في الشادلي بن جديد – الذي لم يكن ذا نصيب من الدهاء السياسي ولا بعيد النظر – شخصيةً بسيطةً يمكن أن تشكل جسراً يؤدي إلى ما يطمحون إليه ولو بعد حين. إذ لم يكن الرجل يحملُ أيديولوجية سياسية معينة ولا مشروعاً سياسياً أو نهضوياً يحدد نمطاً للحكم مناوئاً لطرفٍ سياسي بعينه. (يكفي أنه قال عن نفسه يوماً – وهو رئيس للدولة – إنه ليس رجلاً سياسياً!). وهذا بالضبط هو ما «أهَّلهُ» لتلك المرحلة أي للعب الدور المنوط به من طرف ضباط فرنسا الذين حرصوا منذ أمد بعيد على تغيير الوِجهة السياسية والاقتصادية والثقافية للجزائر بما سيخدم مصالح ومآربَ المستعمِر القديمِ أي فرنسا لاحقاً!

وفي الحقيقة لم يكن هذا الأخير – الشادلي في الرئاسة – إلا حلاًّ توافقياً ضمن توازنات الصراع السياسي في تلك المرحلة بين الأطراف المتنافسة والمتصارعة. من بين الشخصيات النافذة التي كانت تتنافس على موقع الرئاسة لخلافة بومدين نذكر على سبيل المثال بوتفليقة وزير الخارجية آنذاك، ومحمد الصالح يحياوي الرجل القوي في جبهة التحرير الوطني، والعقيد عبد الغني قائد الناحية العسكرية الخامسة، والعقيد بن الشريف قائد الدرك في تلك المرحلة. كان بن جديد قائداً للناحية العسكرية الثانية في غرب الجزائر، ومما يُذكر لدى العسكر أنه عندما طُلب للمهمة كان على طاولة للقمار على متن سفينة قبالة ساحل وهران. كان إلى حد ما مقبولاً من الطرفين على كل حال، بعد أن ألصقوا في جنبه بعضَ رجالاتهم أبرزهم رئيس ديوانه فيما بعد الجنرال الراحل العربي بلخير شديد الولاء لفرنسا الذي كان يوصف بأنه رجل الظل وكان من أبرز من خطط لهذه المرحلة، ويُعتقد أنه يهودي متخفٍّ.  تميزت مرحلة بن جديد، الذي لم يكن بالتأكيد مهندسَ ولا مدبرَ المرحلة اللاحقة ولا عارفاً بمرامي التحولات الكبيرة التي عرفتها، تميزت ببداية تفكك منظومة الحكم وتقليص هيمنة الحزب الواحد عكس ما كانت عليه أيام سلفه بومدين، إذ لم يكن بن جديد رجلاً سلطوياً، وما أن استلم الرئاسةَ يوم 7 شباط (فبراير) 1979م حتى ظهر سريعاً و جلياً أن البلاد شرعت في تغيير الوِجهة، وكانت النتيجة أن شهدت فترته تحولاً سياسياً واقتصادياً غيرَ مسبوق، وتبديداً سريعاً لاحتياطات البلد من النقد الأجنبي (بدأ الخطر في 1986م)، وبروزَ أطراف سياسية مناوئة من جميع الأطياف، فكانت أحداث أكتوبر 1988م المفبركة وما تلاها من انفتاح سياسي مرتب وموجه ومقصود،  وظهور الأحزاب بالعشرات. طمع قادةُ جبهة القوى الاشتراكية التي يتزعمها الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد (من قبائل البربر ومؤسس أول حزب معارض في 1963م على خلفية رفضه ورفض أشياعه تولي العسكريين السلطة في البلاد في لحظة «الاستقلال»، كما أن هذا الموقف كان هو عينه موقف القيادي الثوري محمد بوضياف من انقلاب 62)، طمعوا  في موقع في الساحة السياسية الجديدة، فدخل زعيمهم البلاد بعد سنواتٍ طويلة في أوروبا، كما طمع أقطاب الصحوة الإسلامية وآخرون. أُفسح المجالُ عن قصد بشكل مدروس ومحسوب لظهور أحزاب إسلامية (ذات اتجاه إسلامي)، وظهرت جبهة الإنقاذ المعروفة وغيرها. في هذه اللحظة بالذات – وليس قبلها – فهمت جبهةُ التحرير الوطني أنه آن الأوان لتغيير جلدها وارتداء لبوس المرحلة. كل المعلومات والاعترافات الآن تؤكد أن الظروف والملابسات التي تأسست وظهرت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ذاتها كانت من صنع وتهيئة النظام، وبالذات الجناح الموالي لفرنسا المتحكم في زمام الأمور في ذلك الوقت، وكان الهدف أساساً استعمالها في مباشرة فك الارتباط بين جبهة التحرير الوطني والدولة، وهو ما يعني ضرب الأسرة الثورية في مقتل، تمهيداً لتقليص نفوذ هذه الجبهة الأخيرة وتهميشها، وإنهاء ممارسة الحكم في الجزائر باسم الشرعية الثورية، وباسم المشاركة في حرب التحرير. والحقيقة أن هذا المسعى (فك الارتباط) لم يبلغ مداه إلى اليوم، وتبين أن الأمر لم يكن سهلاً، خصوصاً وأن محترفي السياسة في الحزب العتيد (جبهة التحرير) يتقنون فنَّ المناورة والمراوغة السياسية وما زالوا متغلغلين بل ومتجذرين في كل دواليب الدولة والمجتمع، ويستعمل كثير منهم ثورةَ 1954م-1962م أي حرب التحرير كسجل تجاري، ويلعبون مع النظام (أي مع مَن في السلطة كائناً من كان، كونهم علمانيين يفصلون بين الدين والسياسة ويدينون بالمصلحة والنفعية) ويلعبون مع قادة العسكر كل الألاعيب من أجل النفوذ ومن أجل البقاء والالتصاق بجهاز الحكم، سواء باسم الشرعية الثورية أم بغيرها، ولكن باسم الوطنية وباسم الشعب، ومنهم بوتفليقة، ومهري وبلعياط وحجار وبلخادم وغيرهم كثير. ووضعهم اليوم شبيه بوضع البعث في العراق من حيث وعورة الاجتثاث. يخطئ من يظن أن فترة الرئيس الشادلي بن جديد في بدايتها (1980م) شهدت تعزيزاً لدور جبهة التحرير في دوائر السلطة ودواليب الحياة السياسية، خاصة بعدما صدرت المادة 120 الشهيرة التي فرضت على الإطارات والنقابيين وحتى ممثلي الطلبة الانتماءَ للجبهة أي أن يكونوا مناضلين في صفوفها كشرط مسبق لتولي مناصب مسؤولية معينة في المنظمات  المجتمعية وهيئات الدولة والإدارة العمومية. على العكس من ذلك تماماً: لقد كان ذلك أحدَ الأساليب الخبيثة المخططة والمقصودة من أصحاب القرار لجلب النقمة الشعبية سريعاً على جبهة التحرير الوطني لتقليص نفوذها لاحقاً، و هذا ما كان. ومن ناحية أخرى أُريد لجبهة الإنقاذ الإسلامية ألا يكون لها مشروعٌ سياسيٌ واضحُ المعالم، وأن تكون جبهة مفتوحةً لكل أحد، بغض النظر عن وعيه وفهمه للإسلام أو لما يجري في الواقع، وأن تتبنى الإسلامَ بشكل مفتوح عام مبهم وبمعنى غير محدد، لكي يسهل توجيهُها واختراقُها، وبالتالي دفعُها أو جرُّها أو إيقافُها حسب ما تقتضيه السياسة، وبخاصة ضرب الصحوة الناشئة (التوجه الإسلامي المتصاعد) وتشويه «الإسلام السياسي» المتطلع إلى تغيير نظام الحكم، وهذا ما كان أيضاً.

وهذه الحقيقة في نشأة جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية (ضمن التعددية السياسية الكاذبة، وبهذه الكيفية بالذات)، هي ما يفسر الالتقاء أو التوافق الغريب والمستغرب في تأسيس الجبهة بين أتباع علي بلحاج خطيب المسجد في باب الوادي بالعاصمة وممثل التيار السلفي الذي كان بعيداً عن السياسة إلى تلك اللحظة (على الأقل في تلك البداية) وأتباع رئيس الجبهة عباسي مدني البراغماتي الإسلامي-الوطني والأستاذ الجامعي المتخرج من بريطانيا، وهذا ما يفسر أيضاً العداء الشديدَ الذي ظهر فجأةً على أرضية الصراع السياسي من أجل السيطرة على مراكز التأثير في كل مكان وفي كل موقع، بين أنصار جبهة الإنقاذ فور إنشائها من جهة، و مناضلي جبهة التحرير من جهة أخرى، خصوصاً في مواسم الحملات الانتخابية، وبدا جلياً لدى المتتبعين الواعين في المجتمع أن الجبهة الإسلاميةَ جيء بها باسم التعددية السياسية الزائفة والخادعة خصيصاً لضرب الحزب العتيد الذي كان زمن الحزب الواحد واسعَ النفوذ لا يتميز عن الدولة ومؤسساتها، و بدا بين الطرفين كره شديدٌ و عداوة نكراء، و ظهرت بغضاء و شحناء مستغربة بين المسلمين من الجهتين، من أجل السيطرة على المواقع والمنابر حتى في المساجد! استُغلَّ  هذا البغض فيما بعدُ بشكل مدروس ومخطط من قبل الاستخبارات العسكرية التي سيطر عليها حينها رجالاتُ فرنسا، ليصبحَ في ميدان الصراع عنفاً مادياً مسلحاً وتقاتلاً بين أبناء الشعب، وليصبح مبرراً للتنكيل والقمع، كما استخدمته المؤسسة العسكرية الحاكمة أو قادتها بالأحرى بدهاء عندما تقرَّرَ إنهاءُ المسار الديمقراطي وإلغاء المسار الانتخابي ومواجهةُ الشعب بالحديد و النار. إلا أن خطةَ «حزب فرنسا» – كما يسميهم الوزير الأول الأسبق عبد الحميد ابراهيمي الموجود الآن في لندن على رأس إدارةِ مركز الدراسات المغاربية هناك والمحسوب على الضباط الوطنيين من جماعة الراحل بومدين من أيام الثورة، والذي كان ضمن منظومة الحكم في فترة الشادلي بن جديد، حيث شغل منصب رئيس الوزراء، وكان عضواً في المكتب السياسي لجبهة التحرير بين 1984م و 1988م، والذي تم إقصاؤه خارج البلاد نهائياً من طرف ضباط فرنسا، ولم يُمكَّن من العودة حتى في زمن الوئام البوتفليقي! – هذه الخطة من «حزب فرنسا» المتمثلة في الظاهر في تبني التعددية الحزبية والديمقراطية والانفتاح السياسي، كانت تقتضي في الحقيقة عكس هذا التوجه تماماً. انقلبوا على الأجواء بعد فوز جبهة الإنقاذ وأوقفوا المسار الديمقراطي     واستولوا على السلطة كما كان مخططاً بعد إجبار بن جديد على إعلان تنحيه عن الرئاسة في شهر كانون الثاني (يناير) 1992م، وألزموه الصمت مدة ليست بالقصيرة.

ومن اللافت أنه في هذه اللحظة التاريخية ظهر زيف الديمقراطية بشكل سافر، وتخلى «الديمقراطيون» عن ديمقراطيتهم، وتنحى عنهم الغطاء، وأصبح الذين تمنوا بالأمس فتحَ المجال السياسي وإطلاق مجال الحريات   وتحرير الإعلام، من العلمانيين و حثالة الشيوعيين على قِلَّتهم، أصبحوا يطالبون النظام والجيش بالإسراع في غلقه وإنقاذ البلاد، أي يطالبون بالديكتاتورية – إذ كان البديل في نظرهم هو «الإسلاميين»!! بما في ذلك جماعة آيت أحمد الذين سيَّـروا حينها المسيرات الحاشدة في العاصمة لقطع الطريق على من فاز في الانتخابات أي على «الإسلاميين»، الذين قبلوا بسذاجتهم الدخولَ في اللعبة الديمقراطية وفي المعترك السياسي على شروط خصومهم! وكان شعار مسيرة أنصار آيت أحمد الذين تجاوز عددهم في شوارع العاصمة يومَها المليون شخص يقول: لا للدولة البوليسية، لا للدولة الأصولية، نعم للدولة الديمقراطية! (والحقيقة أن تلك المطالبة بغلق المجال من كل هذه الأطراف كانت بإيعاز وبتواطؤ مع العسكر، تماماً ًكما فعلت مؤخراً أطراف سياسية عديدة مع الانقلابيين في مصر في لحظة إزاحة مرسي وإبعاد الإخوان وشبح «الإسلام السياسي»). يسجل التاريخ أيضاً الموقفَ المخزي لإخوان الجزائر التابعين للتنظيم العالمي في اللحظة الحرجة، حيث تعاون كبيرهم مع طغمة الجنرالات وتورطَ حزبُه مصلحياً (كما كان متَوقَّعاً) ضمن صفقة سياسية في اللعبة من أجل “إنقاذ الجزائر” ومن أجل قطع الطريق على قوى “التطرف والأصولية”!

جرى تنصيب مجلس أعلى للدولة مؤلف من خالد نزار وعلي كافي وتيجاني هدام وعلي هارون برئاسة محمد بوضياف الرجل الثوري الذي كان موجوداً في المغرب من أيام الحسن الثاني بعد معارضته – كما سلف الذكر – للسطو على السلطة من قِبل العسكريين أي من قِبل بومدين وزمرته في 1962م، و جرى إقناعه في تلك اللحظة التاريخية الموعودة بوساطة سيد أحمد غزالي رئيس الوزراء آنذاك بالمجيء وتلبية نداء الوطن (لِـ «إنقاذ الجزائر من خطر الأصولية»!)، ومن ثم استدراجُه لحتفه بعد اغتياله في وضح النهار في مدينة عنابة بشرق البلاد بعد ستة أشهر من قدومه، من طرف عصابة بلخير ونزار، في لعبة الصراع السياسي على النفوذ  والمواقع وتصفية الحسابات القديمة والجديدة.q

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *