الثورات في البلاد العربية والعمل الضخم المناط بحملة الدعوة
2011/08/12م
المقالات
1,948 زيارة
الثورات في البلاد العربية
والعمل الضخم المناط بحملة الدعوة
د. أسعد أبو بلال
بخلاف ما كان يظنه كثير من الناس بما في ذلك مراكز الأبحاث الغربية من أن الأمة الإسلامية عاجزة وخانعة وخاضعة ولن تقوم لها قائمة، جاءت الثورات في البلاد العربية بشكل مفاجئ للجميع لتؤكد على أن الأمة حية وقادرة، وأن الخير فيها إلى قيام الساعة، وأنها كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
لقد كانت هذه الثورات ولازالت فأل خير على المسلمين، فقد أعادت الأمة إلى معدنها الصافي، أمة عزيزة منيعة. فقد تحركت وثارت على حكامها الطغاة الظلمة، وقالت للظالم إنك ظالم، وكسرت حاجز الخوف بفضل من الله ونعمه، ولم تعد تخاف الحكام ولا أجهزتهم القمعية، بل قابلت الرصاص بصدور عارية وبشجاعة منقطعة النظير أذهلت المراقبين ورسخت فيها مفاهيم الشهامة والشجاعة والتضحية والكفاح والإيثار، وهي أوصاف لازمة لتحقيق الغايات العظام، وهي مقدمة لتضطلع الأمة بدورها الريادي في قيادة العالم.
كما بدأت هذه الثورات بإعادة سلطان الأمة المسلوب إليها في ظل الحكم الجبري الذي رزحت تحت نيره عقودًا طويلة، وأصبحت تشعر أنها هي صاحبة السلطان تختار من تريد، كما أوجدت فيها التيقظ والمراقبة والمحاسبة للحكام للمطالبة بحقوقهم وللحيلولة دون الالتفاف على ثوراتهم، حيث أصبحت تصرفات الحكام تحت المجهر من الناس كافة، يستوي في ذلك الصغير والكبير، والمثقف والعامي، فالكل يتابع الأحداث السياسية، ويقف على التعيينات والإجراءات ويحاسب عليها، إلى درجة أربكت الحكومات وجعلتها تفكر ألف مرة قبل أن تتخذ قرارًا أو تعين وزيرًا، وقد ظهر ذلك جليًا في تونس حيث أضحى دوام الوزير في منصبه من المحال. ومن أروع ما حققته هذه الثورات حتى الآن، هو ما كان يردده المخلصون ولعقود طويلة، من أن الجيش جزء من الأمة غير منفصل عنها، وأن وقوفه مع الأمة طبيعي وضروري، وأنه لا يمكن أن تنجح ثورة دون التحام الجيش بالشعب، وأن عملية التغيير تستوجب موافقة الجيش، وحتى التغيير الشكلي كما حصل في كل من مصر وتونس، أما التغيير الحقيقي للنظام فيستلزم أن يتم كسب الفئة القوية في الجيش لتتبنى الفكرة التي تحملها الأمة وتريد التغيير على أساسها، وعندئذ يقف الجيش مع الناس فيساندهم ويمنع دينهم، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بأخذ النصرة لإقامة الدولة.
لقد أرغمت هذه الثورات الغرب الكافر المستعمر أن ينحني أمامها ويسايرها، ويدعي زورًا وبهتانًا أنه يدعمها، وهو الذي كان ولعقود طويلة يسند هذه الأنظمة القمعية، ويسعى بالمكر والمال إلى احتواء هذه الثورات، وتصوير أن الديمقراطية هي البديل الوحيد للدكتاتورية كما هو الحال في مصر وتونس، أو إلى تشويهها من خلال تدخله العسكري مع إطالة عمر الأزمة كما حصل في ليبيا. والخط العريض الذي تسير عليه السياسة الغربية هو إعادة تشكيل نفس الأنظمة القائمة بما يتناسب مع متطلبات المرحلة، عبر إصلاحات شكلية وتغيير في الوجوه وكشف جزء من الفساد، والأهم من ذلك كله هو منع الإسلام السياسي من الوصول إلى الحكم، وقد أسند الغرب هذا الدور الخطير لعملائه من حكام ومعارضين. ومع أن الإسلام موجود ولو بشكل مشاعري في مطالب الناس في هذه الثورات المباركة، ولكن الإعلام الخبيث تجاهل بشكل متعمد تغطية هذا الهدف والشعار النبيل، وركز بالمقابل على شعارات الغرب التي تؤمّن مصالحه وسيطرته على مقدرات الأمة وشعوب المنطقة. وما ساعد الغرب حتى الآن في النجاح المؤقت في حرف الثورات عن الاتجاه الصحيح للتغيير، هو أن الثورات حدثت بشكل تلقائي من الناس دون أن يكون لهم برنامج سياسي مبلور، أي دون أن يكون لهم تصور واضح لشكل الدولة التي يريدون إقامتها، والنظام الذي سيطبق فيها، وبالتالي أدى إسقاط الحكام إلى فراغ سياسي في البلد، لم يملأه إلا عملاء الغرب من الليبراليين الذين أعطوا أنفسهم الحق في التكلم باسم الشعب وباتخاذ قرار مركزي يمنع العمل السياسي على أساس الإسلام الذي يمثل عقيدة الشعب، وحيث إن الوسط السياسي في البلاد الإسلامية، والمتمثل في المثقفين والأحزاب السياسية، أغلبهم إن لم يكن جلهم من المضبوعين بالثقافة الغربية، لذلك لم يكن غريبًا أن يكون التغيير الحاصل يصب في خانة الغرب.
ولتفويت الفرصة على الغرب لاختطاف ومصادرة هذه الثورات لتحقيق أهدافه الخبيثة، يجب على حملة الدعوة أن يقوموا بأعمال فكرية وسياسية ضخمة، تهدف إلى إيجاد رأيٍ عام منبثقٍ عن وعي عام حول الإسلام السياسي، أي حول الإسلام كنظام حياة يعالج جميع مشاكل الإنسان، دون إغفال دور الجيش وأهمية كسبه لصف الدعوة، خاصة وأن الاتصال بهم أصبح سهلًا ميسورًا، بعد الرأي العام الذي تركز عند الجميع من أن الشعب والجيش يد واحدة.
إن الأفكار الأساسية التي يعتمد عليها الغرب في إطالة عمر نفوذه هي أفكار مزعزعة غير متركزة إذ لم يتخذها المسلمون أفكارًا أساسية لهم بسبب أن عقيدتهم هي العقيدة الإسلامية. وهم حين تبنوا أفكار الديمقراطية والحريات والخصخصة والعولمة، إنما أخذوها أخذًا لا اعتقادًا، وخدعهم من أعطاهم إياها بأنها لا تناقض عقيدتهم بل هي متفقة مع عقيدتهم. ولهذا تجدها غير متركزة في أذهانهم، وإن كانت تصرفاتهم تسير حسبها لأن هناك من يقودهم باتجاهها. فإذا ما اقتنعوا بأنها تناقض عقيدتهم، فإنهم ما أسرع ما يتركونها، ويرجعون للأفكار الإسلامية. وبهذا الرجوع من الناس يحصل التحول إلى صالح الإسلام في المجتمع.
وبناء عليه لا بد على حملة الدعوة أن يعملوا على زعزعة ثقة الناس بأفكار الكفر هذه التي يحاول الكفار وعملاؤهم إدخالها في بلاد المسلمين، مثل الرأسمالية والديمقراطية والحريات والخصخصة والعولمة وفصل الدين عن الحياة وغيرها، وذلك بتبيان زيفها وفسادها وبطلانها لأنها أحكام كفر مبنية على عقيدة كفر ولا يصح أخذها بحال، وأن العلاج الصحيح هو الإسلام بعقيدته وأحكامه الذي أنزله الله رب العالمين، فهو وحده سبحانه الذي يعلم ما يصلح مخلوقاته وما يحقق لهم الطمأنينة في كل شؤون حياتهم وآخرتهم. وإن المنهج النبوي في ذلك يعتمد على جعل الوقائع الملموسة والحوادث الجارية تنطق بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها، أي بتنزيل الأفكار والأحكام على الوقائع اليومية والأحداث الجارية بشكل يظهر عراقة أحكام الإسلام ويجعل الناس يتشوقون للعيش تحت ظل الإسلام، أي بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الأفكار الإسلامية التي لها واقع يجري التعامل به بين الناس؛ وذلك لإعادة الثقة في نفوس المسلمين وسائر الناس بصحة الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية وصدقها. فعمل حملة الدعوة في هذه المرحلة هو عملية هدم وبناء ووضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج، أي لفت نظر الناس إلى الخطأ الموجود في أفكارهم، وشرح الأفكار الصحيحة لتحل محلها. والطريق العملي لذلك هو ربط الأفكار بالتصرفات، فمثلاً حين يهتف الناس بأن العزة للعرب يذكرون بأن ذلك يتناقض مع الإسلام لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، كما أن الإسلام يهاجم القبلية وعصبية العرق والجنس، سواء أكانت عصبية للعرب أو الترك أو الكرد… وحين ينادون بالوطنية يذكرون بوجوب المناداة بالإسلام الذي يهاجم الوطنية والحدود المصطنعة التي تفرق بين المسلمين، وهذه أضحت من أكبر مشاكل الأمة حيث أصبحت الحدود المصطنعة عندهم مكرسة ونتائجها كارثية وما يحدث في ليبيا اليوم شاهد ماثل للعيان على فسادها، فهذه الحدود بحسب القانون الدولي الكافر هي التي تمنع الجيش المصري على سبيل المثال اليوم من نجدة الشعب الليبي… وحين ينادون بالجمهورية والديمقراطية يذكرون بأن ذلك يتناقض مع الإسلام لأن نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة حيث تكون السيادة والحكم لله سبحانه وتعالى وحده. ويكون الشرع الإسلامي هو المصدر الوحيد للتشريع، ويكون السلطان للأمة، ولا يستطيع الخليفة أن يحكم إلا عن رضا واختيار وبيعة من الأمة؛ فالإسلام يرفض الحكم الديمقراطي لأنه يفصل الدين عن الدولة في الحياة، والسيادة فيه للشعب وليست للشرع والعقيدة… وحين يطالب الناس بالخصخصة والعولمة يذكرون بوجوب العمل بالنظام الاقتصادي الإسلامي تحت ظل دولة الخلافة، هذا النظام الذي تتجلى عظمته في توزيعه العادل للثروة وتحفيزه على الإنتاج وخلوه من الأزمات النقدية… وحين يطالب الناس بالتدخل الأجنبي في الثورات العربية كما هو حاصل في ليبيا الآن، يجب أن يذكروا بأن هذا مرفوض شرعًا لأن الإسلام يحرم علينا الاستعانة بالأجنبي لحل مشاكلنا، فضلًا عن كوننا لسنا قلة ولدينا ما يكفي من جيوش وثروات وأسلحة وقيادات شريفة هي التي يجب أن تأخذ زمام الأمور لنحل مشاكلنا بأنفسنا دون الاعتماد على النيتو أو الأمم المتحدة وغيرهما من المؤسسات الدولية الطامعة في بلادنا. وفي كل الأمثلة التي ذكرناها نجد أن مفاهيم الإسلام هي الراسخة في نفوس المسلمين بينما مفاهيم الغرب التي تروج لها وسائل الإعلام هي الطارئة.
كما تتجلى عملية الهدم والبناء في لفت نظر الناس إلى فساد المعالجات التي تطبقها السلطة الحاكمة، وذلك يكون بإبراز بطلان الأفكار والأحكام التي عولجت بها الوقائع اليومية، وتبيان أن العلاج الصحيح لها إنما هو فكر كذا أو حكم كذا، وأن هذا هو فكر الإسلام أو حكم الإسلام، فينزل الفكر الإسلامي أو الحكم الإسلامي على الواقعة الجارية، فيدرك حينئذ واقع الحكم ويلمس مدلوله فيحرك العقل ويثير المشاعر. أما كيف يبين بطلان الأفكار والأحكام التي عالج بها الحكام هذه الوقائع فإنه لا يصح أن يكون من حيث تحقق المصلحة أو عدم تحققها، بل يجب أن يكون البيان من حيث كونها أفكار كفر أو أحكام كفر. فلا يصح أن يكون بيان بطلانها ببيان أنها لا تحقق المصلحة أو ببيان ما ينتج عنها من ضرر، ولا ببيان أنها لا تحافظ على المصلحة أو بيان أنها تضيع المصلحة، بل يجب أن يكون ببيان بطلانها من حيث كونها أحكامًا غير إسلامية، وكونها أحكام كفر، وأن التحاكم إليها تحاكم إلى الطاغوت. فبطلانها الذي يجب أن يبين هو كونها أفكار كفر وأحكام كفر؛ لأن المسألة من حيث الكفر والإسلام لا من حيث المصلحة وعدمها… وكذلك حين يبين أن العلاج الصحيح لها هو فكر كذا أو حكم كذا وهو فكر الإسلام وحكم الإسلام لا يصح أن يبين صلاحه وتشرح صحته من حيث كونه يحقق المصلحة أو يزيل الضرر، بل يجب أن تبين صحته ويشرح صلاحه من حيث كونه حكمًا شرعيًا بالإتيان بدليله الشرعي من الكتاب أو السنة أو من قاعدة مستنبطة من الكتاب أو السنة، أو من كونه فرعًا أو مسألة من فروع ومسائل حكم شرعي مشهور الدليل. وليحذر حملة الدعوة أثناء عملهم هذا من الاصطدام بالفئات المأجورة للغرب من الفئات الحاكمة والظلاميين والمضبوعين بالثقافة الأجنبية، أو من الاصطدام بالحركات الإسلامية التي استطاع الغرب أن يحولها إلى حركات دينية بالمفهوم الغربي. فهذه الفئات ما هي إلا صخور تقوم في الطريق، لتعيق عن الوصول إلى الهدف، حتى يكسب الغرب الزمن، وهو يعلم أنها لا تحول دون الوصول إلى الغاية، ولكنه يضعها للإعاقة فقط، ولذلك يجب على حملة الدعوة تجنب الاصطدام بهذه الصخور، وذلك بعدم الدخول معها في اصطدام قولي أو فعلي مهما كانت الظروف، لأن هذه الصخور يجب أن تستعمل في بناء الحصون، لا أن تكون عائقًا في الطريق. أي يجب أن تكسب هذه الفئات للدعوة عن طريق الصراع الفكري والسياسي، أو يجب على الأقل أن يفهم، وأن يكون واضحًا عندها وعند الجميع أنها وسائل استعمارية للكافر المستعمر، ليذهب أثرها إن لم يكن بالإمكان تحويلها.
إن حملة الدعوة هم اليوم، أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق أهداف وتطلعات الأمة في إقامة نظام الخلافة. وأجواؤهم اليوم هي أشبه ما تكون بالأجواء التي مرت على مصعب بن عمير بالمدينة قبل استجابة أهل النصرة وقيام الدولة، وما عليهم إلا أن يغذوا الخطى ويضاعفوا الجهود ويعملوا بين الجماهير لإيجاد الرأي العام المنبثق عن وعي عام حول الإسلام وأحكامه، ولا ينجروا عاطفيًا وراء الآخرين حتى لا تصبح هذه التحركات مجرد تنفيس لمشاعر الاحتقان. كما عليهم أن يتطلعوا إلى الجيش كأداة للتغيير لأنه جزء من الأمة، وشاهدنا كيف رفضت الجيوش قمع المتظاهرين…! فالجيوش ليست غريبة عن أمتها وشعوبها رغم بعض قياداتها العميلة. ولا بد أن يدرك حملة الدعوة أنه مهما اشتدت الخطوب فإن الغلبة ستكون في النهاية لهم ولدينهم؛ لأن حجم الأزمات التي تعيشها المنطقة، والمعاناة التي تعانيها الأمة؛ أكبر من أن يعالجها إصلاح هنا وترقيع هناك مع الإبقاء على الأنظمة التي تنتج المستبدين والفقر والفساد والإفساد، إنه لا يمكن معالجتها إلا بقلع الاستعمار من بلاد المسلمين وإقامة الخلافة الراشدة وتحكيم الشريعة الإسلامية.
إن الأمة الإسلامية لن تستقر ولن تسعد وهي تطبق نظامًا يخالف عقيدتها وأحكام دينها، ولن يهدأ بال الأمة ولن ينقشع عنها ما تلاقيه من أحداث وويلات إلا بإزالة الحكام الطواغيت وإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية التي بشرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» قال تعالى: ]وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[