العدد 116 -

السنة العاشرة – رمضان 1417هـ – شباط 1997م

الحاكم هو اللـه وليس المصلحة

 بقلم: أبو مصطفى

 إن اللـه تعالى قد خلق الناس لعبادته ﴿وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون﴾. وأرسل لهم نظاماً ليسَيِّروا أعمالهم بموجب أحكامه. فكان الحلال ما أحل اللـهُ والحرام ما حرم اللـه ﴿إنِ الحكمُ إلا للـه أمر ألا تعبدوا إلا إياه﴾. فعبادة اللـه تتحقق حين الإيمان به والسير بموجب أحكامه. وأما الكفر به أو عدم الإقرار بأنه وحده هو المشرع. أو اتخاذ نظام غير نظامه أو تبديل أحكامه فإنه اتباع للـهوى وضلال عن سبيل اللـه ﴿فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل مـمّن اتبع هواه بغير هدى من اللـه إن اللـه لا يهدي القوم الظالمين﴾.

فاللـه تعالى قد خلق الناس لعبادته، وأنزل لهم ديناً فيه عقائد ونظم، عقائد يجب علينا أن نؤمن بها ونظمٌ نسيّر أعمالنا وشؤون حياتنا بها. ولكي يتم ذلك كان على الإنسان أن يفهم هذه النظم وما تحوي من أوامر ونواه حتى يكون الالتزام بالإسلام صحيحاً كونه نتج عن فهم صحيح. وحين يُقْبِل الإنسان ليفهم أحكام اللـه الموجودة في النصوص الشرعية، أي في القرآن والسنة، يجب أن يكون واضحاً عنده مسألة مهمة، وهي أن تعاطيه مع القرآن والسنة يختلف اختلافاً كلياً مع تعاطيه مع غيرهما من الكتب أو النصوص. فإن غيرهما هو من البشر، والخطأ والزلل وارد على البشر. أما القرآن والسنة فإنه لا يتطرق إليهما الخطأ لأنهما من عند اللـه. وهذا يعني أن تعاطينا مع القرآن والسنة هو لأجل الفهم منهما وليس لأجل الحكم عليهما أو الحكم على ما ورد فيهما ﴿ولو كان من عند غير اللـه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾. أقول ذلك لأن وقوع الاختلاف بين ما يراه الإنسان وبين حكم اللـه أمر حتمي. وحتمية الوقوع آتية من جهة أن الإنسان إذا أراد أن يشرع أنظمة لتنظيم أموره وشؤون حياته فإنه يشرعها بناءً على ما يراه مصلحة له. وكون المصلحة ليست مقياساً ثابتاً نتيجة تبدل نظرة الإنسان لها، كان ما يراه الإنسان اليوم حسناً قد يراه غداً قبيحاً، وما يراه اليوم قبيحاً قد يراه غداً حسناً، وهذا طبيعي في الإنسان الذي يتصف بصفات النقص والعجز. وأما تشريع اللـه فإنه آتٍ من الذي يتصف بصفات الكمال، العالم بحقيقة مخلوقاته والخبير بما يُصْلِحها وما يَصْلُح لها ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً﴾. فإذا كان الاختلاف طبيعياً بين نظرة الإنسان التي أساسها المصلحة وبين تشريع اللـه العليم الخبير، فلا بد من أن نبين موقف الإنسان تجاه هذه المسألة.

إن مجرد إدراك الإنسان لواقعه، كإنسان يتصف بصفات النقص والعجز وعدم كمال المعلومات عنده عن المصلحة الحقيقية، كافٍ لجعْله يسلم أموره كلها للـه، فلا يقوم بأي فعل إلا بعد أن يعرف حكم اللـه في هذا الفعل. وعند قيامه بهذا الفعل، متقيداً بحكم اللـه، يكون مطمئناً أن هذا الحكم هو الذي يناسبه ويصلح له، ولو زيّن له الشيطان غير ذلك ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم واللـه يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ فإذا علمنا أن اللـه هو الذي يعلم حقيقة الخير والشر أدركنا إدراكاً قطعياً أن المصلحة الحقيقية هي في اتباع شرعه ولو تعارض مع مصالحنا وأهوائنا ورغباتنا ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً﴾. ونلاحظ أن هذا الموقف المذكور في هذه الآية الكريمة الذي يجب على المؤمنين أن يتخذوه ينسجم انسجاماً كلياً مع إيمانهم، لأن الإيمان يحتم علينا التسليم المطلق بكل ما حكم به اللـه. فإن إيماننا باللـه كخالق للوجود لا ينفصل إطلاقاً عن إيماننا به كمشرع، لأن الفصل بين الأمرين ضلال والعياذ باللـه ﴿إن الحكم إلا للـه أمرَ ألاّ تعبدوا إلا إياهُ ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون﴾.

إن هذه المسألة كانت واضحة وجليّة عند الصحابة الكرام ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان، رضي اللـه عنهم أجمعين. ولم يحصل أن عدلوا عن حكم اللـه إلى حكم أهوائهم لمصلحة رأوها. فهذا رافع بن خَدِيج رضي اللـه عنه يقول في موضوع كراء الأرض: «نهانا رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم عن أمر كان لنا نافعاً وطواعية اللـه ورسوله أنفع لنا». ونتيجة وضوح هذه المسألة في أذهان العلماء السابقين. وإدراكهم لخطورة فهمها فهماً سيئاً نراهم وضعوا ضوابط لفهم النصوص الشرعية من القرآن والسنة على أساسها. وهذه الضوابط ليست من صنعهم وإنما مأخوذة من الكتاب والسنة. بحيث إن التلاعب بهذه الضوابط هو تلاعب بالأدلة الشرعية نفسها.

ولما حصل الغزو الفكري لبلاد المسلمين، ظهر علماء فقدوا الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه نتيجة تأثرهم بالحضارة الغربية، ويئسوا أيضاً من إمكان عودة الإسلام مطبقاً في واقع الحياة والدولة والمجتمع. أقول عندما ظهر هذا الصنف من العلماء كان لهم دور سيئ وخَطِر في تفسير الإسلام وتحريفه ليتفق مع الحضارة الغربية العفنة. فاتبع هؤلاء العلماء أهواءهم وأهواء غيرهم ليقدموا الإسلام – بحسب ظنهم – بالمظهر الذي يتوافق مع متطلبات العصر. وبذلك فقد ضلوا وأضلوا الأمة الإسلامية عن دينها، وكرّسوا أكثر فأكثر أفكار الحضارة الغربية ومفاهيمها في عقول المسلمين. وإذا عرفنا أن الحضارة الغربية تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة الذي نتج عنه فكرة فصل الدين عن الدولة، وأن تصوير الحياة ومقياس الأعمال عندهم المنفعة. أدركنا أن هذه الحضارة نفعية. فإن أهل هذه الحضارة لا يشرعون حكماً إلا إذا رأوه يحقق لهم النفع، ولا يقومون بعمل إلا إذا رأوه نافعاً بغض النظر عن أي اعتبار آخر، فإنه ليس هناك من اعتبار عندهم إلا للنفعية.

فإذا كانت النفعية هي الأساس عندهم في كل شيء اتضح عندنا ملامح المنهج الذي سيسير عليه أولئك الذين ضُبِعوا بهذه الحضارة ونالوا حظاً من ثقافتها.

رب قائل يقول: إن هناك فرقاً واضحاً بين من ينكر أن الحاكمية للـه وبين من يقر بالحاكمية للـه. أقول إن المسألة ليست مسألة ادعاء. وقضية أن الحاكمية للـه موجودة عند هذا الصنف من العلماء ولكن من ناحية قولية فقط، فإنهم إذا تعاطوا مع النصوص الشرعية الواردة في القرآن والسنة يتعاطون على أساس أن المصلحة هي الحاكم، بدليل أنهم يدركون أن حكم اللـه في المسألة الفلانية كذا ولكن كونه يتعارض مع المصلحةالتي رأوها فإنهم يتركون حكم اللـه. ويعدلون عنه إلى حكم آخر يتفق مع نظرتهم المصلحية. لذلك فإننا إذا أردنا أن نَعْقِد مقارنة بين النظرة النفعية التي هي أساس كل شيء في الحضارة الغربية وبين المنهج النفعي والمصلحي في التعاطي مع النصوص الشرعية والأحكام الشرعية المأخوذة منها عند هذا الصنف من العلماء، لا نكاد نجد فرقاً يذكر. لأن نتيجة النظرتين واحدة، إذ أساسُهما واحد. فإنهما يجعلان الناس تدين بحكم المصلحة والهوى. واللـه تعالى ما أرسل لنا الإسلام إلا ليخرجنا عن حكم الشهوة والهوى إلى حكمه، ومن عبادة غيره إلى عبادته.

إنهم حين يتحدثون عن هذه المسألة فإنما يتحدثون عن تأسيس وتأصيل منهج يقوم على إباحة ما حرم اللـه بحجة المصلحة، منهج يقوم على نقض أحكام اللـه حكماً حكماً بحجة المصلحة. بل إنه منهج وضع ليس فقط لتبديل أحكام اللـه بحجة المصلحة وإنما لتشريع أحكام جديدة لقضايا جديدة بحسب ما يراه الهوى موافقاً للمصلحة. وهذه هي نفسها النظرة الغربية لأفعال العباد ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم اللـه عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيراً ليَضِلّون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين﴾.

ولكي يكون الأمر واضحاً أضرب بعض الأمثلة من أطروحات أصحاب المنهج المصلحي لندرك مدى خطورة هذا المنهج. إن أحدهم يقول إن العمل في البنوك الربوية حرام لأن رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم قد لعن كاتب الربا وشاهديه. ولكن كون هناك مصلحة للمسلمين
من وراء عمل المسلم في البنوك الربوية فإنه يبيح هذا الأمر، حتى إنه يقول حرفياً: (لذلك أرى أن العمل في البنوك الربوية مباح بل مندوب بل واجب). أرأيتم نتيجة السير على هذا المنهج، عمل حرمه اللـه ولعن فاعله يصبح القيام به فرضاً. أي أن هناك إثماً يحمله المسلم إن لم يقم بذلك الفعل. فاللـه تعالى قد قرر أن فاعل ذلك آثم وإذ به بحكم المصلحة يقول: إن فاعل ذلك له أجر وثواب. وآخر من أصحاب هذا المنهجالمنحرِف والمحرِّف يقول بأن المشاركة في الحكم بأنظمة الكفر حرام، لأن اللـه تعالى قد حرم ذلك في آيات كثيرة منها ﴿ومن لم يحكم بما أنزل اللـه فأولئك هم الكافرون﴾. ولكن كون ذلك يتعارض مع المصلحة التي يراها يخرج بحكم مصلحي نفعي وهو إباحة المشاركة في الحكم بأنظمة الكفر. وكثيرة هي الأمثال في هذا المجال. فهذا يبيح الربا وآخر يبيح زواج المسلمة من الكافر، وثالث يقول بأن الجهاد إنما هو للدفاع. وغير ذلك كثير فلا داعي للإطالة في ذكر الأمثلة.

إننا إذا أنعمنا النظر في الآيات التي تتحدث عن أمر اللـه لآدم عليه السلام أن يسكن الجنة ويأكل منها ما يشاء هو وزوجته ونهيه له عن الأكل من شجرة معينة، وكيف أن الشيطان وسوس لهما حتى كانت النتيجة أن خرجا من الجنة. أقول إذا أنعمنا النظر في هذه الآيات وجدنا أن إبليس أوهمهما أن مصلحتهما هي في الأكل من الشجرة. أي أن فكرة مخالفة أوامر اللـه بحجة المصلحة هي فكرة شيطانية لا أساس لها في الشرع. يقول تعالى: ﴿ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . فوسوس لهما الشيطان ليُبديَ لهما ما ووريَ عنهما من سَوْءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين﴾. ويقول اللـه أيضاً: ﴿فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى . فأكلا منها فبدت لهما سوءاتُهما وطفِقا يَخْصِفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدمُ ربَّه فغوى﴾. إنه لجدّ غريب أن توجد هذه الفكرة عند من يدّعون أنهم علماء وهم يقتفون أثر الشيطان، ويهتدون بغير هدى اللـه. ألا يدرك هؤلاء الناس أن إباحتهم ما حرم اللـه أو تبديل أحكام اللـه هو ضلال والعياذ باللـه. ألا يعلمون أنهم أداة بيد الكافر المستعمر لحرْف المسلمين عن دينهم، وجعلهم يتمسكون بالحضارة الغربية. إن الغرب الكافر أدرك أن الأمة الإسلامية قد توجهت نحو دينها، ولا ينقصها سوى فهم هذا الدين الفهم الصحيح لتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس، فتقيم دولة الخلافة الراشدة لاستئناف الحياة الإسلامية، ولتقضيَ على نفوذ الغرب الكافر في بلادالإسلام، ثم لتلاحقه في عقر داره حاملة رسالة الإسلام لهم. وهذا التوجه من الأمة يتعارض مع مصالحه تعارضاً تاماً. هذا عدا عن حقده على الإسلام والمسلمين. لذلك فإنه ينفق المال ويستخدم الرجال من أجل الصد عن سبيل اللـه والقضاء على الإسلام وعلى المسلمين كأمّة. وهذا ليس غريباً عن الكفار. يقول تعالى: ﴿إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل اللـه فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون﴾.

نعم هذا ليس مستغرباً عن الكافر المستعمر الحاقد على الإسلام والمسلمين، إنما المستغرب أن تكون أداةَ الغرب لتنفيذ مخططاته ثلةٌ من أبناء المسلمين تأثروا بالحضارة الغربية تأثراً كبيراً قادهم إلى تحريف الإسلام وتبديل أحكامه وهذا لا يمكن أن يكون إلا من عمل الشيطان سواء شيطان الجن أو الإنس. وليسمع هؤلاء قول اللـه تعالى: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأَتْبعهُ الشيطانُ فكان من الغاوين .ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلدَ إلى الأرض واتبع هواه فمَثَلُهُ كمثَلِ الكلب إن تَحْمِلْ عليه يلهثْ أو تتركه يلهثْ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾.

وإلى المسلمين أقول: يا خير أمة أخرجت للناس لا تخدعنّكم هذه الأطروحات المنحرفة ولا تغرنكم تبريراتها، ولا تقيموا وزناً لقائلها أو للعامل بها كائناً من كان، فإن المقياس هو الشرع وليس الأشخاص، فإن الشرع ثابت والأشخاص قد تتغير وتتبدل من حال إلى حال «يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً»… فتمسكوا بأحكام اللـه وعَضُّوا عليها بالنواجذ ولا تعدلوا عنها إلى أحكام أخرى فيحل عليكم غضب اللـه ونقمته. واقرأوا قول اللـه تعالى: ﴿ويقولون آمنا باللـه وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دُعوا إلى اللـه ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يَحيف اللـهُ عليهم ورسولُه بل أولئك هم الظالمون . إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى اللـه ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون . ومن يطع اللـه ورسوله ويخشَ اللـهَ ويَتَّقْهِ فأولئك هم الفائزون﴾ صدق اللـه العظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *