عني المفكرون والباحثون ببحوث العقيدة وفروعها، لأن كافة معالجات الإنسان إنما تنبثق عنها. غير أن هؤلاء الباحثين لم يعوا على ضرورة ربط هذه العقيدة بأزمات الإنسان اليومية، ولم يرشدوا الجيل الحاضر إلى كيفية ربط العقيدة بالأزمات التي تمر على الإنسان بحيث يخرج الإنسان منها قوياً متماسكاً. مدركاً لحقيقة حيلته مبصراً غايته منها. |
بقلم: أحمد الطرابلسي
منذ أبعد الأزمان توصل الإنسان إلى الإيمان بالله جلت قدرته خالقاً مبدعاً. ولم تكن المشكلة الكبرى والقضية الأولى هي إثبات وجود الخالق بقدر ما كانت المشكلة، والقضية هي أن جعلوا له أنداداً من مخلوقاته تشاركه في كثير من صفاته وأسمائه وأعماله. فكان الناس في أغلب العصور يقرِّون بوجود الله تعالى خالقاً مبدعاً ولكنهم جعلوا له من يساعده ومن ينوب عنه في كثير من شؤون خلقه ويتوسط عنده لعباده ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) فأضحت العبادة والنذور والقرابين والذبائح .. تقدم لغير الله، وصار الاستنجاد والالتجاء وطلب العون والظهور. من غير الله، وغدا الولاء لغير الله تعالى.
غشاوة في الرؤيا:
وفرغت النفوس من أي معنى من معاني العبودية لله تعالى، ونشأت من بعد ذلك عقيدة مفادها: “إن الخالق خلق الكون والموجودات وأبدعها. ولم يعد يتدخل في شأنها ولم يلزمها بشيء ” يتصرف الإنسان باعتباره أحد مخلوقاته بحرية تامة حسب ما يهديه عقله.
ودخل شيء من هذه العقيدة إلى أذهان أبناء المسلمين في هذا العصر بعد ما بهتت مفاهيم العقيدة الإسلامية في النفوس واكتنفها الغموض، واعتراها الإبهام، ورجع هذا الجيل وأجيال سبقته من أبناء المسلمين إلى حالٍ من العقدة الكبرى – في التفكير والاعتقاد فقد معها وضوح الرؤيا والتصور للحياة والوجود.
تلك العقدة التي واجهتها الرسالات، وجاء لحلها المرسلون. ]أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[. ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [.
والعقدة الكبرى التي يعيشها الإنسان الحاضر ليست كونه لا يؤمن ولا يدرك أن وراء هذا الوجود خالقاً خلقه ومبدعاً أبدعه.
مشكلة المسلم الحاضر:
نعم ليست هذه هي المشكلة، وإنما غدا هذا الإنسان – تحت ضغط الفكر الغربي الفردي – رغم إيمانه بالله الخالق لا يفرده بالعبودية، ولا يفرده بالألوهية، ولا يحتكم إليه وحده في استنباط حلول مشاكله.
رجع هذا الجيل وأجيال سبقته من أبناء المسلمين إلى حال فقد فيه وضوح الرؤيا للحياة والوجود! |
لم تعد كليات العقيدة الإسلامية قادرة على فك أزمات المسلم لأنها لا تندرج تحت هذه الكليات وإنما هي فروع منها!.. |
بل يعبد معه غيره، والله يقول: ]إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ ويقول: ]قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ..[ ويؤوِّله معه غيره والله يقول: ]وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ويلجأ إلى غير الله في أخذ واستنباط الحلول والتشريعات لمشاكله الحياتية, والله تعالى يقول مخاطباً رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ] فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … [
هذا هو ما عليه الأجيال الحاضرة من فساد في الاعتقاد جر إلى فساد وانحطاط في السلوك.
وفي ظني أن المشكلة نشأت في أمتنا “من جراء الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام”. وهذا أنتج حالاً من الضعف في الثقة بالإسلام عند المسلمين. مما جعلهم – وهم في حالة الضعف هذه – يقبلون على ما عند الغرب من قيم وأفكار. متوسلين بها أن ينهضوا كنهضة، فما زادهم إقبالهم ذلك إلا وهناً على وهن وضعفاً على ضعف. والله سبحانه وتعالى يسأل الذين يركنون للكفر يمالئونه ويوالونه في أوامره ] قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [ فإذا كان الله قد طلب هجر الكفار وعدم القبول بالوقوع تحت سلطانهم وموالاتهم، فهو يطلب هجر عقائد الغرب وأفكاره وقيمه من باب أولى، ومن هنا كان على مريدي النهضة من المسلمين ودعاة الإسلام العمل على إعادة الأمة إلى ثقتها بإسلامها وأحكامه.
نهضة الجماعة:
وهذا لا يحصل إلا بإعادة ثقتها بالله سبحانه وتعالى رباً يعبد من دون المخلوقات …
وإلها يفرد بالألوهية وحده …
ومنه وحده سبحانه يؤخذ التشريع …
ويضاف إلى ذلك إفراد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحده بالتأسي والتلقي. وهذه الأمور الثلاث:
1- إفراد الله بالعبودية.
2- إفراد الله بالألوهية.
3- الإذعان إليه وحده بالحاكمية في التشريع. مع إفراد نبيه ورسوله محمد وحده بالتأسي والتلقي.
هذه الأمور يظهر أثرها في الأمة والجماعة على يد الدعاة والحركات الداعية فتؤدي إلى نهضتها. أما الفرد. حتى تعاد ثقته بالله تعالى. لا بد من تسليط الضوء على الجوانب المؤثرة في حياته. والمتصلة اتصالاً حتمياً بعقيدته.
حقيقة الإنسان:
وفي هذا الجانب منم البحث لا بد من معرفة حقيقة الإنسان وما هو عليه.
فالإنسان – مطلق إنسان – يسير في حياته بحسب مفاهيمه التي اكتسبها. وبحسب قناعته بها وصدقها في نفسه يكون توجهه وسيره. ومن هنا نجد الإنسان حين تضعف عنده مفاهيم العقيدة وتضغط عليه ظروف الحياة وأحوالها. تطفو عنده مفاهيم الأعماق والتي هي حصيلة تأثيرات البيئة. فتطغي عليه الغرائز والأهواء بمشاعرها وأحاسيسها. فيفقد انسجامه مع أحكام العقيدة. ويتبع ظواهر واهية يظنها أسباباً حقيقية لما هو فيه.
فردية المسلم وأزماته:
والفرد المسلم اليوم. والذي نطمح أن نجعل منه شخصية إسلامية تحمل رسالة إلى العالم. لا بد أن نتعدى في علاج العقدة الكبرى عنده من الجانب الاجتماعي في حياته حتى نصل إلى حياته الفردية كفرد. ولا نكتفي بالوصول معه إلى ” أن وراء هذا الكون والإنسان والحياة خالقاً خلقها من عدم وخلق كل شيء ” وأن هذا الخالق لا بد أن يفرد بالعبودية، والألوهية ولزوم الإذعان له وحده بالحاكمية في التشريع.
نعم لا بد من الانتقال مع إنساننا المسلم هذا في حل أزمته إلى حيزه الضيق. إلى فرديته، لأن الإنسان في كثير من فترات حياته لم تعد كليات الحل الذي أجملناه في السطور السابقة قادرة على فك أزماته. لأنها لا تندرج تحت هذه الكليات وإنما هي فروع عنها في حاجة إلى فرز وتوضيح.
لا بد أن يدرك الإنسان أثر الخالق في حياته، واليقين بذلك يكسبه عيشاً حقيقياً بمفاهيم العقيدة، وتكون العقيدة حامياً لهم من الزلل ومانعاً من الانحراف |