العدد 270-271 -

السنة الثالثة والعشرون ـ العددان 270 – 271

الكلمة الختامية

 الكلمة الختامية

وقبل الختام ألقى الناطق الرسمي لحزب التحرير – إندونيسيا إسماعيل يوسنطا الكلمة الختامية جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، أرشد أمة الإسلام إلى الهدى والنور بعد ضلالٍ وضياعٍ وظلام، وأحياها باتباع الكتاب، وجعلها خير أمة أخرجت للناس على وجه الأرض، فصدق فيها قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام 122]. وقوله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران 110] وأعزّها بعد ذلك، بعد هذا النور والهداية، بدولة الإسلام ، فحملت هداية الإسلام رسالة خيرٍ ونورٍ إلى الناس جميعاً على وجه الأرض ، فصدق فيها قوله عز وجل : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون 8].

 والصلاة والسلام على رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، ولم يزل حتى ترك هذه الأمة الطيبة على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكالشامة بين الأمم، قوةً وعزةً وعلماً وتقدماً في كل شيء، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين

أيها الإخوة العلماء، أيها الحضور الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  وبعد،

إن نظام الحكم في الإسلام هو الخلافة لا غير، هذا ما بيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجمع عليه صحابته رضوان الله عليهم، وسار عليه الخلفاء الراشدون والخلفاء من بعدهم، وذلك لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. وهي عينها الإمامة، فالخلافة والإمامة بمعنىً واحد.

والخلافة هي الدولة الإسلامية، فهي الكيان التنفيذي لأحكام الإسلام، ترعى الشؤون؛ فتحفظ الدين والعرض والنفس والمال، وتحمي الثغور، وتزيل العوائق والحواجز من أمام تبليغ رسالة الإسلام، فتعلي كلمة الله في الأرض. أي هي الطريقة العملية الشرعية لإقامة الإسلام وتطبيقه في الداخل وحمل دعوته إلى العالم. ولا يتحقق ذلك إلا بأن تكون الحاكمية لله وحده والسيادة لشرعه، قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف 40]، وقال تعـالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة 49]، وأن لا يكون للكفار على المؤمنين أي سلطان، قال تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. لذلك، فلا يكون رئيس الدولة خليفةً، ولا تكون الدولة إسلاميةً أو خلافةً، إلا بأن يكون أمن ثغورها وأمن المسلمين فيها، وسلطتها في تطبيق الإسلام، كل ذلك يكون فقط مستنداً إلى الإسلام والمسلمين.

ولعظم هذا الأمر وأهميته في الإسلام، فقد بيّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوب أن لا تخلو الأمة من خليفة، وأن تكون الأمة واحدةً والخلافة واحدةً، فهي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً، فلا يجوز أن يكون للمسلمين خليفتان في أي عصر.

والأدلة على ما سبق مستفيضة، ومنها:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدي، وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» رواه الشيخان. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من خلع يداً من طاعة لقيَ الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» رواه مسلم. والطاعة والبيعة لا تكونان إلا لخليفة يحكم بما أنزل الله، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أويفرَّق جماعتكم فاقتلوه». وقال: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرَّق هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» رواهما مسلم وأبو داود والنسائي. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم.

وليس أدلَّ على أهمية الخلافة والخليفة في حفظ الإسلام والأمة من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وإنما الإمام جُنَّة يُقاتَل من ورائه ويُتَّقى به» رواه مسلم.

ولقد أدرك المسلمون منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم عِظَم شأن الخلافة، فسارعوا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل دفنه، إلى اختيار خليفة له، مقدمين هذا الأمر على دفنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

أيها العلماء الأفاضل: تعلمون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بعث بالإسلام العظيم، ليس ليتلى بالألسن فحسب، وإنما ليطبق على الناس في الأرض، فتكون له دولة تقيم حدوده، وتطبق أحكامه، وتجاهد به حق جهاده، وتقيم العدل وتنشر الخير في ربوع العالم. وهذا واضح بيِّن في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعا إلى الله على بصيرة في مكة المكرمة، وطلب نصرة القبائل وأهل القوة بضع عشرة مرة، حتى نصره الله سبحانه بأنصار المدينة المنورة، فكانت الهجرة، وإقامة الدولة، ثم كان الفتح ونشر الإسلام بالدعوة والجهاد.

     ثم خلفه من بعده الخلفاء الراشدون، فاهتدوا بهديه (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاهم اليقين، واستمرت دولة الإسلام، دولة الخلافة، في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين، تبايع الأمة الخليفة بعد الخليفة، إلى أن تمكن الكافر المستعمر بزعامة بريطانيا آنذاك بالتعاون مع بعض الخونة من العرب والترك من القضاء على الخلافة، وأعلن عميل الإنجليز المجرم مصطفى كمال إلغاء الخلافة، ومحاصرة الخليفة وإخراجه في مثل هذا اليوم قبل 88 سنة في الثامن والعشرين من رجب 1342 هـ الموافق 3/3/1924م.

إن نظرة خاطفة إلى واقع المسلمين في ظل خلافتهم، وفي زمن غيابها لتجعل التاريخ ينطق بأن الخلافة هي الرعاية والحماية يقاتل من ورائها ويتقى بها. فهل ثمَّت من يجهل حال العرب قبل الإسلام، وبعده! بل حال جماعة المسلمين قبل إقامة الدولة في المدينة المنورة، وبعدها! أو يجهل ذلك التحول المثير للعجب في فتح الدنيا في كل الاتجاهات وإقامة العدل ونشر الهدى والنور في ربوع العالم! وإقبال الناس على هذا الدين أفواجاً! أو ذلك العز والسؤدد الذي نال الأمة ونالته في شتى الميادين التشريعية والفكرية والعلمية والاقتصادية والعسكرية والفنية والإدارية! حتى إن الأمة لم تكن تصاب بكبوة أو بلاء في ظل الخلافة إلا وتنهض بعدها لترجع أعز وأقوى مما كانت. أما بعد غياب الخلافة، فما تعانيه الأمة ينطق بنفسه.

إن المقارنة بين حال الأمة في ظل خلافتها وحالها بغير خلافتها لا تفي بها كلمة، إلا أنه من المفيد ذكر القليل من الأحداث أو المواقف ولو كانت متباعدة فلعل في هذا الذكر عبرةً وذكرى.

لقد كان الخليفة هو الراعي بحق للمسلمين، لا يهدأ له بال، ولا يهنأ له عيش ما دام في المسلمين مظلوم أو فقير… وكان هو الحامي لبيضة الإسلام والمسلمين من كل عدوان، وحامل الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد في عز وعدل وإحسان، وكانت مواقف العز والسؤدد تملأ جنبات الدنيا في عصر الخلافة، وكانت الخلافة منارة العلم وموئل العلماء.

لقد كانت حياة المسلمين في ظل الخلافة كلُّها شعورٌ بالعزة والكرامة، وكانت مليئةً بالأمن والأمان، يسودها العدل والإنصاف، لا فرق لعربيّ على عجمي ولا أسود على أبيض إلا بالتقوى، الجميع يعيشون في بحبوحةٍ من العيش، حتى إن الزكاة كانت أحياناً لا تجد من يأخـذها بسبـب الغنى..!!

وكان خلفاؤهم يقولون: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم؛ إن القوي ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، وإن الضعيف قوي عندي حتى آخذ الحق له” !!كما قال أبو بكر (رضي الله عنه) عندما وليَ الخلافة، وكان الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: من رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوّمه”، ويقول: “لو أن شاة عثرت على شاطئ دجلة لظننت أن الله محاسبي عنها يوم القيامة لمَ لمْ أمهّدْ لها الطريق”، ويقول: “والله لا أشبعُ حتى يشبع آخر مسلم في المدينة!”.

ودخلت زوجة عمر بن عبد العزيز عليه يوماً وهو في مصلاه يبكي ودموعه تجري على لحيته فسألته: “أحدث شيء؟” فقال: “إني تقلدت أمر أمة محمد، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع، والعاري المظلوم المقهور، والقريب الأسير والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند الخصومة، فرحمتُ نفسي وبكيت”.

وكتب عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين إلى عامله في سمرقند سليمان بن أبي السَّمْري قائلاً: “أن اعمل خانات “فنادق” في بلادك، فمن مر بك من المسلمين فأقروهم يوماً وليلة، واعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يوماً وليلتين، فإن كان منقطعاً فقووه بما يصل به إلى بلده”.

أفليست هذه هي الرعاية الحقة؟ وهل تكون بغير خليفة ذي سلطان يحكم بالإسلام؟

وأما حماية بيضة الإسلام والمسلمين، فذلك مشهور مستفيض، فهل ينسى المسلمون الخليفة المعتصم بالله الذي وصله خبر استغاثة امرأة مسلمة به حين ظلمها رومي فقالت: (وامعتصماه)، وقد وصله الخبر في الليل فلم ينتظر حتى الصباح بل قاد من فوره جيشاً لجباً، وعندما وصل الى عمورية طلب تسليمه الرومي الذي استهزأ بالمرأة المسلمة للقصاص منه، فلما رفضت الروم هاجم المدينة ودمر أسوارها واقتحم أبوابها ظافراً منتصراً.

وهل ينسى المسلمون موقف الرشيد هارون من نقض نكفور ملك الروم عهده مع المسلمين وعدوانه عليهم، فقد أرسل الرشيد رسالة إلى نكفور جاء فيها: (من هارون أمير المؤمين إلى نكفور كلب الروم، الجواب ما تراه دون ما تسمعه)، وبالفعل فلقد رأى نكفور جيش المسلمين عند ثغور الروم قبل وصول رسالة الرشيد إليه؟

وأنَّى للمسلمين أن ينسوا الناصر صلاح الدين قاهر الصليبيين في حطين، ومحرر المسجد الأقصى من دنسهم، والذي عندما سمع  أن حاكم الكرك الصليبي يقطع طريق الحجاج ويروع النساء والشيوخ… عندها يقسم لئن أمسك به ليقتلنه بيده، ويقع حاكم الكرك في الأسر بعد معركة حطين مع غيره من الأسرى، فيعفو عن غيره، ويبر بقسمه فيقتله لترويعه النساء والأطفال.

وكيف للمسلمين أن ينسوا قطز وبيبرس قاهري التتار الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فكانت موقعة عين جالوت التاريخية التي أفقدت التتار صوابهم وقضت على أحلامهم ومهدت للقضاء على ملكهم ووضع حد نهائي لظلمهم وتجبرهم؟

وأما حمل الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد في عز وعدل وإحسان، فتلك الفتوحات التي نشرت الإسلام وأزاحت الظلام في كثير من بقاع الأرض، منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخلفاء الراشدين من بعده، والخلفاء من بعدهم…، كلها منارات خير في الدنيا، وقد تسارعت بفضل من الله ونعمة حتى إنه لم ينته القرن الأول الهجري إلا وقد انتشر الإسلام في كثير من أصقاع الأرض، بالدعوة والجهاد، أو بالدعوة وحدها، فأضاء بنوره بلاد العرب، والشام، والعراقين، ومصر، وشمال أفريقيا، والأندلس، وبخارى وسمرقند، وما وراء النهر، والهند والسند… ثم توالى انتشار الإسلام فوصل إلى جنوب شرق آسيا، فأضاء مناطق كثيرة، وبخاصة إندونيسيا، هذه البلاد التي يجتمع مؤتمركم فيها… ثم امتدت الفتوحات إلى آسيا الصغرى وفتح القسطنطينية والبلقان… وكثير من أصقاع الأرض حيث صدع الأذان في جنباتها وأشرقت الأرض بنور الخلافة… 

لقد قاد هذه الفتوحات قادة عظام شَرَوْا أنفسهم ابتغاء مرضات الله، ليس فقط في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الراشدين، بل كذلك في عصر الخلفاء من بعدهم، حيث ظهر قادة كبار ساروا على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه رضوان الله عليهم، فكان عقبة بن نافع الذي انطلق فاتحاً في شمال أفريقيا، حتى وقف على شاطئ المحيط الأطلسي يخاطبه قائلاً: والله لو أني أعلم أنّ خلفك أناساً لخضتك بسنابك خيلي..!، وكان موسى بن نصير وطارق بن زياد اللذان فتحا الأندلس، وكان قتيبة بن مسلم الباهلي الذي انطلق فاتحاً في شمال البلاد الإسلامية إلى بخارى وسمرقند وما وراء النهر…، وكان محمد بن القاسم الذي فتح السند والهند…

ثم الأمير الشاب محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية لتتحقق على يديه بشارة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الواردة عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ» رواه أحمد، ولم يكتف ذلك السلطان الشاب بهذا الفتح العظيم، فاتجه إلى استكمال الفتوحات الإسلامية في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب ورومانيا وألبانيا وبلاد البوسنة والهرسك وآسيا الصغرى، وقد أعدَّ العدة لفتح إيطاليا وعاصمتها روما، وجهّز لذلك أسطولاً عظيمًا، لكن الله سبحانه أراد فتحها على يد قائد عظيم يأتي بعد، فوافت الفاتحَ المنيّةُ قبل أن تتحقق البشرى الثانية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي وردت في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أخرجه أحمد من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو قال: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ». وقد كان لموت الفاتح رحمه الله دوي هائل في أوروبا، التي تنفست الصعداء حين علمت بوفاته، وأمر البابا أن تقام صلاة الشكر ثلاثة أيام ابتهاجًا بموته.

وأما مواقف العز والسؤدد فلا يحصيها إلا الله سبحانه ولكن نذكر منها ما يسمح به المقام:

عندما أكمل قتيبة بن مسلم الباهلي فتح بخارى وسمرقند وما وراء النهر…، انطلق شرقاً يريد الصين، ولما قيل له إن فتحها أمر شاق وإنه ابتعد عن مركز الدولة، وإنه يحتاج إلى مدد، لم يثنه ذلك، بل أقسم أن لا يعود حتى يطأ أرضها…

يقول الطبري في تاريخه: 

لما وصلت جيوش المسلمين حدود الصين بقيادة القائد قتيبة بن مسلم الباهلي، أرسل إلى ملك الصين وفداً على رأسه هبيرةُ الكِلابي، فقال لهم ملك الصين: “انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف، فإني عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه”. فقال هبيرة: “كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟” وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا قادراً عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فإكرامها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه”. فأجابه ملك الصين: “فما الذي يُرضي صاحبك؟” قال: “إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطى الجزية”. فقال الملك: “فإنا نخرجه من يمينه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها”. قال: فدعا بصحاف من ذهب وفيها تراب وبعث بحرير وذهب، وأربعة غِلْمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم، فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغِلْمَةَ وردهم، ووطىء التراب.

ثم هذا موقف آخر، مثالٌ على العز والسؤدد، يتجلى فيه قوله تعالى: “أعزةٍ على الكافرين” حيث إن أحد ملوك فرنسا قد وقع أسيراً في يد أعدائه، فأرسلت فرنسا تستنجد بالسلطان، فأجاب السلطان طلبهم، وأرسل لهم رسالة جاء فيها:

“أنا السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان ابن السلطان بايزيد خان،

إلى فرنسيس ملك ولاية فرنسا،

وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه… وأُعلمنا أن عدوكم استولى على بلادكم وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم…، فكن منشرح الصدر ولا تكن مشغول الخاطر…، فالحق سبحانه وتعالى ييسر الخير بإرادته ومشيئته….

تحريراً في أوائل شهر آخر الربيعين سنة اثنين وثلاثين وتسعمائة، بمقام دار السلطنة العلية، القسطنطينية المحروسة المحمية.”

ولعلنا نذكر من هذه المواقف التي لا تنتهي إلزام أميركا دفع الجزية لدولة الخلافة. وذلك أن الجزائر وقد دخلها الإسلام سنة 21 هجرية على يد الفاتح موسى بن نصير، وكان لتبعية الجزائر للخلافة ولموقعها أثر بارز في تكوين عدة بحرية فرضت سيطرتها على البحر المتوسط، فوقعت أميركا معاهدة في 21 صفر الخير سنة 1210 هجرية الموافق 5/9/1795م مع دولة الخلافة تدفع بموجبها مبلغ 642 ألف دولار ذهبي، وسنوياً مبلغ 12 ألف ليرة عثمانية ذهبية. وتعتبر هذه المعاهدة الوحيدة التي وقعتها أميركا طوال تاريخها بغير لغتها. وهذا دليل على العز والهيبة التي كان يتمتع بها المسلمون في ظل دولة الخلافة.

وأما كون الخلافة منارة العلم وموئل العلماء، فإن سبق المسلمين في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك يشهد به الأعداء قبل الأصدقاء، وما ينطق بسبقهم وقوة علمهم وصنعهم أنهم أهدوا ساعة من صنعهم إلى شارلمان إمبراطور الفرنجة، ملك ملوك أوروبا آنذاك، فلما دقت الساعة وفتحت أبوابها…، ظنتها حاشيته، وهم علية القوم، ظنوها من صنع الجن ومملوءة بهم!

كما أن بلاد المسلمين كانت مراكز العلم يأتيها الطلاب في بعثات علمية من دول الغرب لتلقي العلوم في المعاهد العلمية في بغداد أو في الأندلس…

وهذه رسالة من جورج الثاني ملك إنجلترا والسويد والنرويج إلى أمير المسلمين في الأندلس ليقبل بعثة من بنات الأشراف الإنجليز على رأسها ابنة شقيقه لطلب العلم في معاهد بلاد المسلمين. وقد وردت هذه الرسالة في كتاب “العرب عنصر السيادة في القرون الوسطى” لمؤلفه الإنجليزي جون دانبورت. وقد جاء في الرسالة:

“بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة… فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل… لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة. وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة “دُوبَانت” على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش التماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة، والحدب من قبل اللواتي سوف يقمن على تعليمهن.

وقد أرفقتُ الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقام الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص. من خادمكم المطيع  جورج الثاني.”

واستمر أمر الأمة على هذه الحال: في هداية ورعاية، وحماية لبيضة الإسلام وتطبيق للأحكام، وجهاد واستشهاد وفتح للبلاد، ومواقف عظيمة من العزم والأمجاد، ومنارة للعلم والعلماء… وذلك حتى زالت الخلافة في ذلك اليوم الأليم 28 من رجب سنة 1342هـ. – 03/03/1924م. كما ذكرنا. ومنذ ذلك التاريخ والأمة تتداعى عليها الأمم، وتتوالى عليها المآسي والنكسات والمجازر والنكبات، وتموج بها الأرزاء والخطوب فتناً كقطع الليل المظلم، وقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) «يُوشِكُ أَنْ تَدَّاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَّاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍٍ كَثِيرٌ وَلكِنْ تَكُونُونَ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يُنْتَزَعُ المَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهْنُ، قُلْنَا وَمَا الوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ» وفي رواية عنده «وَكَرَاهِيَتُكُمْ القِتَالَ».

نعم، سقطت الخلافة فتمزقت الأمة شذر مذر، سقطت الخلافة فضاعت فلسطين، أرض الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، احتلها يهود وسفكوا الدماء وانتهكوا الأعراض واستباحوا المقدسات وعاثوا في الأرض الفساد والإفساد، والحكام في بلاد المسلمين لا يحركون ساكناً، والمتحرك منهم يحج إلى واشنطن مطالباً أوباما بالضغط على كيان يهود ليوقف الجديد من المستوطنات، بعد أن لم يبق مكان في الضفة يراه اليهود صالحاً لاستيطان إلا أقاموا فيه مستوطنة! وأمثل هؤلاء الحكام طريقة من يلوذ بأوباما يستعطفه لتنفيذ مشروع الدولتين، وأية دولتين: واحدة مدججة بالسلاح لليهود مغتصبي فلسطين، وأخرى مقصقصة الأوصال والجناح مهشمة الأركان منزوعة السلاح لأهل فلسطين! في الوقت الذي فيه فلسطين بلد إسلامي، جعله الله سبحانه أمانة في أعناق المسلمين منذ أن ربط الله سبحانه مسجده الأقصى بالمسجد الحرام في الحادثة العظيمة، حادثة الإسراء والمعراج، وقد استقرت تلك الأمانة في أعناق المسلمين حتى فتح المسلمون فلسطين في عهد عمر (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت العهدة العمرية التي أكدت منذ ذلك التاريخ سلطان الإسلام على فلسطين وقضت بأن لا يسكن القدس المباركة على وجه الخصوص يهود… واستمرت تلك الأمانة على مدى التاريخ، كلما تجرأ على فلسطين عدو وتمكن من احتلالها وتدنيسها، قام قادة عظام في ظل الخلافة بتحريرها من دنس ذلك العدو، كما كان من صلاح الدين الذي طهرها من الصليبيين، وكما كان من قطز وبيبرس الذي طهرها من التتار… وكما كان في آخر أيام الخلافة عندما حافظ عليها الخليفة عبد الحميد بمنع عصابات هرتزل من الاستيطان فيها. لقد كان هذا هو الذي يجب أن يكون لو كانت الخلافة قائمة، فتزيل كيان يهود المغتصب لفلسطين بضربات تنسي هذا الكيان وساوس الشيطان، وتعيد فلسطين كاملة إلى ديار الإسلام.

هذا بالنسبة لفلسطين، لكن العدوان على بلاد المسلمين بعد الخلافة قد تجاوز فلسطين إلى ديار إسلامية أخرى، فتلك كشمير يحتلها الهندوس، ويقترفون فيها سفك الدماء الزكية، ويرتكبون الجرائم الوحشية، وتلك قبرص اقتطعت من الأرض الأم “تركيا” وللكفار اليونان اليد الطولى في معظمها، وتلك تيمور الشرقية اقتطعت من الأرض الأم “إندونيسيا”، وذلك القوقاز بشيشانه وأنجوشه…، يحتله الروس، ويسفكون فيه الدماء…، ثم تلك أميركا تحتل العراق وأفغانستان وتتجاوزها إلى العدوان على باكستان… وتلك وتلك…،   

ثم تجاوز الأمرُ الاحتلالَ إلى انتهاك الأعراض، وليس ببعيد عنا ما سمعناه عن انتهاكٍ يقوم به الجنود الهندوس في كشمير، كما أن ما حدث في البوسنة من انتهاك لم يغب عن الأذهان، حتى إن مسلمة من هناك أرسلت رسالة إلى المسلمين تقول فيها: (فأناشدكم الله وأسألكم بالله أن تأخذوا بحقنا من هؤلاء الصرب المجرمين، وأن تنتقموا لنا منهم، وأن تريهموهم عزة المسلم وأخذه بالثأر لعرضه)، ومع أن هذه الرسالة قد قرأها حكام المسلمين وسمعوا بها ولكنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.

ولم يكتف الكفار بذلك، بل تجاوزوه إلى التطاول على الإسلام وعلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد بلغ الحال ببلد مثل الدنمارك أن يتجرأ على رسول الإسلام سخرية واستهزاء، دون أن نجد حاكماً من حكام المسلمين يعلن نفيراً أو حتى يطرد سفيراً، بل لسان حالهم، إن لم يكن لسان مقالهم، يقول للكفار المستهزئين: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة 14]، وهذا بابا روما الذي أهان الإسلام ورسول الإسلام، يتم استقباله في بلادنا من قبل حكام المسلمين بحفاوة بالغة دون أن يتجرأ واحد من هؤلاء الحكام العملاء بطلب مجرد اعتذار من البابا. هذا هو حال المسلمين اليوم، وهذا الذي ذكرناه غيض من فيض صفحات الذل والهوان التي يعيشها المسلمون منذ أن هُدِمت الخلافة منذ ما يقارب تسعة عقود.

هكذا كنا في عهد الخلافة، وهكذا أصبحنا بعد زوالها، أفلا يدعو كل ذلك إلى أن نجدَّ ونجتهد لإعادة الخلافة التي هي فرض وأي فرض، ثم هي مبعث عز وأي عز؟

فهلاّ تفكر بذلك المفكرون وتدبروا قولاً هو من جوامع الكَلِم: «وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويُتقى به»؟

أيها العلماء الأفاضل:

      لقد أدرك حـزب التحـرير أن الخلافة هي القضية المصيرية للمسلمين، وأن إقامتها فرض وأي فرض، ولذلك فهو قد عمل لإقامة الخلافة، ولازال، منذ نصف قرن، تعرض خلاله للأذى والاعتقال والسجن والتعذيب الذي أفضى في بعض البلاد الإسلامية إلى استشهاد أعداد من شبابه، ومع ذلك فقد بقي ثابتاً على الحق لا يخشى في الله لومة لائم، مؤمناً بالله ورسوله، صادقاً مخلصاً بإذنه سبحانه، صابراً متوكلاً على الله تعالى وحده، يستمد منه العون، واثقاً بجميل وعده ونصره، مؤمناً أنه مهما توالت الخطوب واشتدت، ومهما قل الأمن أو انغلقت السبل أو تعسرت، ومها طال الطريق أو تكالبت قوى الكفر والشر، فإن هذا كله من قبيل الابتلاء وامتحان الإيمان، وأن قوى الكفر ومَكرَه وأمانيّه زاهقةٌ وفاشلة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال36]، وقال أيضاً: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران 179].

وإنه وإن لم يبلغ الحزب بالأمة الغاية المنشودة بعد، فإن التحول الذي حصل في الأمة كبير، وما آل إليه هذا الأمر مما يطلق عليه الصحوة الإسلامية، وما دفع مؤسسات سياسية وفكرية عالمية لدق ناقوس الخطر  من عودة هذا العملاق الإسلامي إلى الوجود، لهو مما يبشر ويدفع إلى غَذ السير لتحقيق هذه الغاية.

إن الأمة اليوم – عموماً- قد أدركت أن الإسلام ليس مجَّردَ عقيدةٍ روحية وأحكامِ عبادات وأخلاق، بل باتت تدرك أن الإسلام عقيدة ينبثق عنها نظام شامل لأحكام الحياة، يرعى الشؤون كافة، فالإسلام دين تنبثق منه الدولة ونظام الحكم وأحكامه.

والأمة اليوم نبذت فكرة فصل الدين عن الحياة، وأدركت أن الحياة يجب شرعاً أن تساس بالإسلام، وأن التشريع لله وليس للبشر، وأنه لا عز ولا رفعة إلا بعودة الإسلام إلى الحكم. والانبهارُ بالغرب وديمقراطيته وحرياته انكشف عن دجل مفضوح وكذب ممجوج، والدعواتُ الوطنية والقومية قد تهاوت عملياً.

وحكام المسلمين اليوم، في كل العالم الإسلامي، قد انكشف أمرهم للمسلمين بعامة، ولأولي العلم بخاصة، بأنهم لا يحكمون بما أنزل الله، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل هم يوالون أعداء الله ولا يوالون الله ورسوله والمؤمنين، وصح فيهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» أخرجه ابن ماجة وأحمد من طريق أبي هريرة، واللفظ لابن ماجة.

ثم إن الأمة قد لمست أن اولئك الذين يحاولون تجميل الحكام وستر عوراتهم من الذين يخرجون عليها بلبوس العلماء وفتاوى التحريف، لمست أنهم ليسوا مرجعاً للعلم والفتوى وأطلقت عليهم اسم علماء السلاطين.

إن الدعوة إلى الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية والحكم بما أنزل الله وإزالة كل هيمنة أو أثر للكافر المستعمر في بلاد المسلمين، قد تعاظمت وانتشرت في كل أنحاء العالم. وإن هذا الحزب –حـزب التحـرير– وهو يسير أعزل من كل سلاح إلا سلاح الإيمان والثبات على نهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وطريقته يتقدم ويزداد بما يثلج صدور المحبين لإقامة سلطان الإسلام وإعلاء كلمة الله، وبما يفت في عضد شياطين الإنس والجن وينغّص عيشهم.

ولا بد من أن نذكر وأن نذكِّر أن الإعلام العالمي والمحلي هو في غالبيته العظمى تابع لأسياد الكفر وزبانيته، وهو يخوض حرباً شعواء ودنيئةً في مواجهة الإسلام وعودته على كافة الصعد؛ التجهيل والتحريف، والتشويه والتنفير، والتعتيم والتضليل، والتيئيس والترهيب.

وإن إدراك هذا الأمر مهم لأجل مواجهته وهزيمته، من خلال العمل والتعاون بين العاملين في شتى أرجاء المعمورة لإقامة الخلافة. وإن العمل والتعاون وتضافر الجهود في هذا الاتجاه هو من أوجب الواجبات، وإذا ما قام فيه العلماء بدورهم الشرعي، فإنه ينطوي على قدرة إعلامية جبارة تتجاوز وتحبط قدرات وأهداف إعلام دهاقنة الكفر وزبانيته.

إن الكفر بقضه وقضيضه من أميركا إلى بريطانيا وفرنسا وروسيا، بل إلى سائر أوروبا ومن ثم الصين، بلغ درجات عالية في التضليل والتعتيم الإعلامي. وما يقوم به إعلام الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي وسائر أجهزتها، لا يقل عنه في ذلك.

إن أهم مراكز التخطيط والدراسات والبحوث الفكرية والسياسية في العالم، والحكومات التي تستفيد من هذه المراكز، توجه نصل سيفها ورأس حربتها في هذا الصراع نحو فكرة عودة دولة الخلافة، لمواجهة انتشارها وتأثيرها، خوفاً وهلعاً من عودتها. وقد برزت مواقف أعداء الإسلام تجاه الخلافة، أكثر ما برزت، منذ بداية هذا القرن حيث أحسوا بتوجه المسلمين القوي نحو إقامة الخلافة، وأن موعدها قد اقترب فأصبحت هاجس أعداء الإسلام حتى قبل قيامها، وصاروا يحذرون منها، ومن هذه المواقف:

قال الرئيس الأميركي السابق في 5/9/2006م: عن العاملين للخلافة “إنهم يسعون إلى إقامة دولتهم الفاضلة الخلافة الإسلامية، حيث يُحكَم الجميع من خلال هذه الأيديولوجية البغيضة، ويشتمل نظام الخلافة على جميع الأراضي الإسلامية الحالية”.

وقال رئيس الوزراء البريطاني السابق في 16/7/2005م: “إننا نجابه حركة تسعى إلى إزالة دولة إسرائيل، وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي، وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تحكَّم الشريعة  في العالم الإسلامي عن طريق إقامة الخلافة لكل الأمة الإسلامية”.

وفي 13/12/2005م نقلت صحيفة “مليات” التركية عن صحيفة نيويورك تايمز:  “مسؤولو الإدارة الأميركية باتوا يتداولون كلمة “الخلافة” في الآونة الأخيرة كالعلكة. لقد باتت إدارة بوش تستخدم وصف الخلافة قاصدة به الإمبراطورية الإسلامية التي كانت في القرن السابع تمتد من الشرق الأوسط وحتى آسيا الجنوبية، ومن شمال أفريقيا إلى إسبانيا”.

وفي 14/1/2006م كتب المعلق الأميركي “كارل فيك” في صحيفة الواشنطن بوست تقريراً مطولاً جاء فيه: إن “إعادة إحياء الخلافة الإسلامية الذي يهاجمه الرئيس الأميريكي جورج بوش يتردد في أوساط السواد الأعظم من المسلمين” وقال: إن “حزب التحرير الذي ينشط في عدد من البلدان عبر العالم يصرح بأن هدفه هو إعادة الخلافة لسابق عهدها”.

وإلى جانب ذلك أيضاً تصريحات رئيس الوزراء الروسي الحالي والرئيس السابق لروسيا فلاديمير بوتين في التحذير من الخلافة الإسلامية وخطرها. وكذلك تحذير الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في أول خطاب له في 27/8 /2008م من الخلافة وأنها مشروع يمتد من إندونيسيا إلى نيجيريا، وكذلك ما صرح به زلماي خليل زاد الذي تولى مناصب عدة في الخارجية الأميركية لمجلة ذي بريسة النمساوية في التاريخ نفسه 27/8 من أن: “البعض يريد العودة إلى القرنين السادس والسابع الميلاديين إلى وقت النبي محمد”. وهذا إضافة إلى العديد من السياسيين المتنفذين في العديد من دول الكفر، وكذلك البحوث والدراسات والتوصيات الصادرة عن العديد من مفكري الغرب، ومن مراكز الفكر والبحث تحذر من الخلافة ومن مشروع الخلافة ومن حزب التحرير مثل مركز نيكسون ومؤسسات ومعاهد مثل راند وهيرتاج وكارنيغي وهدسون وغيرها.

وإن هذا كله وغيره ليدل بوضوح على أن الصراع بين الإسلام والكفر محتدم ومشتد، وما هذه التصريحات والدراسات التي هي غيض من فيض، وما هذه الحرب المعلنة على الإسلام باسم الإرهاب، والسموم التي ينفثونها بإهانة الإسلام ومقدساته، والصيحات والاستغاثات من الاتحادات والأحلاف الغربية لاحتلال بلاد المسلمين ومواجهة ما يسمونه الإرهاب والتطرف إلا من قبيل الخشية والهلع من عودة العملاق والمارد الإسلامي: الخلافة. وإنه لمن أبرز علامات السفه والانحطاط والعمالة والضلال على أجهزة الإعلام في العالم العربي والإسلامي أن تكون ردءاً ورديفاً للإعلام الغربي وتوجهاته.

أيها العلماء الأفاضل والإخوة الكرام

إنه من باب قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلم من طريق تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، ومن باب قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، أخرجه البخاري من طريق أنس، فإننا نتوجه إليكم في ختام كلمتنا، ناصحين ومحبين لنا ولكم الخير، نتوجه قائلين:

إن القضية المصيرية للأمة الإسلامية الآن هي إقامة الخـلافة التي توحد المسلمين في دولة واحدة تحت راية خليفة واحد يطبق شرع الله في الداخل ويحمل الرسالة الإسلامية للعالم لإخراجه من الظلمات إلى النور. وهذه القضية المصيرية تستحق أن يُتَّخذ إجراء الموت والحياة في سبيلها.

إن ما تتمايز به الأمم هو عقائدها وأفكارها عن الحياة، فهي التي تحدد شرائعها وقوانينها وطريقة عيشها وغايتها من الحياة. وإنما تتجسد هذه الأفكار عند أي أمة في فقهائها ومفكريها ومثقفيها وقضاتها. والأمة الإسلامية إنما يتجسد ذلك أولاً، في فقهائها وفي العلماء الحقيقيين فيها، فهم مجتهدوها ومفكروها، وهم العلماء بما شرع الله لها من أحكام وأنظمة، وهم العلماء بالإسلام الذي يحدد طريقة العيش والغاية من الحياة، وهم العلماء الذين قال فيهم خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) :«وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه.

إن علماء الأمة هم ورثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم الذين يكشفون ويبينون للأمة الحلال والحرام والحَسَن والقبيح والخير والشر. وعلى ذلك فموقع العلماء في الأمة أعلى وأجل من موقع الحكام، فالحكام إذا فسدوا فسدت العامة، إلا إذا انبرى لهم العلماء، أما العلماء فإذا فسدوا فسد الحكام والأمة معاً. وهل فسدت الأمم السابقة إلا بفساد أحبارها وتحريفهم لأديانهم؟

قال تعالى: (رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر 9]، وقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة 11

لهذا كان دور العلماء في الأمة عظيماً، ومسؤوليتهم أجل وأعظم من مسؤولية من دونهم. وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنهم ورثة الأنبياء، وإن جاء  بصيغة الإخبار فإن دلالته التكليف، ومن أولى من العلماء الأتقياء الأنقياء بحمل هذا التكليف؟! فسارعوا معنا أيها الأخوة الكرام في العمل الجاد المجّد لإقامة الخلافة، وشاركونا هذا الأمر العظيم، فهو الطريق إلى عز الأمة ومجدها في الدنيا، وإلى الفردوس الأعلى ورضوان من الله أكبر في الآخرة، وذلك الفوز العظيم، وبشر المؤمنين.

ثم إننا مطمئنون بتحقيق هذا الأمر بإذن الله، تدل على ذلك وقائع الصراع  في أرجاء المعمورة، والوعي المتصاعد في الأمة في شتى مواطنها، وتبشر به نصوص القرآن والسنة الدالة على استخلاف المؤمنين العاملين، وعلى عودة الخلافة الراشدة وعلى تبديد ظلم الدنيا وظلامها بعدل الإسلام ونوره. قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور 55]. وقال أيضاً: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة 33]. ولقد سبق أن ظهر الإسلام على كثير من الأديان ولكنه لم يظهر على الحضارة الغربية (الديمقراطية الليبرالية) بعد، التي هي دين يدين به الجزء الأكبر من سكان العالم. هذه الآية تؤكد بوضوح على أن الإسلام سيظهر عليها. وهناك أحاديث كثيرة منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» رواه مسلم، ومنها قوله: «ليبلغَنَّ هذا الأمرما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيتَ مدر ولا وبر إلا أدخله اللّهُ هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر» رواه ابن حبان وغيره.

ويقول صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح الذي أخرجه، أحمد من طريق حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): « تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ».

اللهم إنا نسألك خلافةً راشدةً على منهاج النبوة، يعز بها الإسلام وأهله، ويذل بها الكفر والنفاق وأهله، أللهم واجعلنا فيها من الداعين إلى دينك، ومن القادة إلى سبيلك، الداعين إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *