العدد 298 -

العدد 298 – السنة السادسة والعشرون، ذو القعدة 1432هـ، الموافق تشرين الأول 2011م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

بعد أن بيّن الله في الآيات السابقة أن الكتاب من عند الله حقاً وأنه لا ريب فيه، وبعد أن بيّن سبحانه حال الذين اهتدوا به واتقوا وأنهم من المفلحين، بيّن سبحانه في هاتين الآيتين حال الذين كفروا وأنه لا ينفع معهم إنذار، فالله قد ختم على قلوبهم.

وكأن هذا جواب لسائل في حيرة من أمره، يسأل لماذا لم يهتدِ الذين كفروا، وذلك لأن العرب إن قالوا «إن عبد الله قائم» كان هذا جواباً لسائل عن قيام عبد الله وهو شاكّ فيه، وحيث إنَّ الله سبحانه بدأ بالآية الكريمة {إن الذين كفروا سواء } فهذا يكون على الوجه المذكور حسب اللغة وورود همزة التسوية مع أم يجعلهما مجردتين عن معنى الاستفهام لتحقيق الاستواء بين دخولهما أي أن الذين كفروا سواء أنذروا أم لم يُنذروا لا يؤمنون يستوي الحالان في ذلك. وهنا تظهر المسائل التالية:

1. إن {الذين} هي من صيغ العموم وبهذا المعنى فإن الله سبحانه يخبرنا أن الذين كفروا لا يؤمنون مهما أنذروا أو بُلِّغوا بالإسلام، فهل هذا الأمر على عمومه أو هناك تخصيص؟

إن من المقطوع به أن هذا الأمر ليس على عمومه، فإن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قد بعث بالإسلام ليبلغه للناس وهم كفار وقد آمن منهم من آمن وبقي على كفره من بقي، ولذلك فهذا النص العام مخصص والتخصيص هنا تمّ بالعقل، والعقل يخصص النصّ الشرعي إن كان في موضوع العقيدة أي في الكفر والإيمان، لأنه أي العقل هو طريق الإيمان بها، ولذلك فإن العقل يخصص قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} غافر/آية62 فـ«كلّ شيء» عامّ ولكنه مخصص عقلاً في غير الله سبحانه وتعالى.

ومن هنا كانت الآية { إن الذين كفروا } مخصصة في أقوام من الكفار أخبر الله رسوله صلى الله عليه و آله وسلم أنهم لن يؤمنوا، وصحّ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: إن هذه الآية في أحبار يهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ولم يؤمنوا. وقال الربيع بن أنس: نزلت في رجال من قريش قتلوا في بدر.

وقال غيرهم: في كفار مخصوصين كأبي لهب وأبي جهل….

2. إن إسناد الختم إلى الله سبحانه:{ ختم الله على قلوبهم } هو من المتشابه، والراجح أن المعنى هو أن أولئك الكفار المخصوصين بلغوا من الإصرار على كفرهم والإعراض عن الحق وتَمَكُّن ذلك في قلوبهم حتى لكأنهم خلقوا بقلوب مقفلة مغلقة لا تقبل إيماناً ولا هدى، وبالتالي يكون المعنى مجازًا عن تمكن الإصرار على الكفر من قلوبهم كما لو خلقهم الله على هذه الصفة.

وقد استعمل الختم والغشاوة للدلالة على تحكم الإصرار على الكفر عندهم فكأنهم صم بكم عمي كما في الآية: { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } البقرة/آية171 ولكن الله سبحانه ذكر الختم للقلب والسمع وذكر الغشاوة للبصر لمناسبة الختم وهو الإغلاق والطبع للسمع والقلب (العقل) لأن الإدراك بهذين ليس محصورًا في جهة واحدة كالإبصار، فأنت تسمع الأمور من أكثر من جهة وتعقلها من أكثر من جانب، ولكنك ترى بعينيك ما أمامك أي من جهة واحدة، فناسب الختمُ القلبَ والسمعَ للإغلاق من أكثر من جهة، وناسبت الغشاوةُ الأبصارَ للإغلاق من جهة واحدة، لذلك فالختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ولا هو موجود في لغة أحد من العرب كما أعلم.

3. لقد أعاد الله جلّ شأنه الجارّ “على” {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } للتأكيد على شدة الختم فكأن الختم تمّ في موضعين “القلوب والسمع” وهذا أقوى من الختم في موضع واحد، كمن يحافظ على شيء بوضعه في خزانة مغلقة داخل دار مغلقة، فهو أقوى في الحفظ من وضع الشيء في خزانة مغلقة داخل دار مفتوحة، وهي هنا كذلك، فإعادة الجارّ تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدّى به (خَتَمَ) كأنه ذكر مرتين (أي ختم الله على قلوبهم، وختم على سمعهم)، ولذلك قالوا في “مررت بزيد وعمرو” هو مرور واحد وفي “مررت بزيد وبعمرو” هما مروران، فكأنك عندما كررتَ حرف الجر قلتَ (مررتُ بزيد ومررتُ بعمرو). وهذا أقوى في الدلالة على المرورين من استعمال العطف وحده دون تكرار حرف الجر لِما في العطف من احتمال مرور الواحد أو المرورين.

4. أورد الله سبحانه لفظ “القلوب والأبصار” على الجمع، وأورد الله سبحانه لفظ “السمع” مفردًا، ولم ترد السمع إلا بالإفراد في كلّ مواضعها بالقرآن الكريم. وقال بعضهم في ذلك: “إن السمع مصدر في أصله، يقال سمعت الشيء سمعًا وسماعًا، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس” إلا أن هذا ليس دقيقًا لأن “الأسماع” وردت في لغة العرب ولكنها قليلة قلما تقرع السمع.

والأرجح أن اختلافَ الناس في تفكيرهم وعقلهم بالنسبة للأمور، وكذلك اختلافهم في إبصار الأمور من حيث البصر والبصيرة، أكثرُ من اختلافهم في سمع هذه الأمور فجمعت القلوب (العقول) و(الأبصار) وأفرد (السمع).

ولهذا لما ذُكر العلم أي اليقين في الآية الأخرى، حيث يدل العلم على عدم وجود اختلاف، أُفرِدَ السمع والبصر والفؤاد: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء/آية36.

******

فائدة عن موضوع: القلب والسمع والبصر:
1. ورد في القرآن الكريم ذكر القلوب أولا ثم السمع والبصر عندما يتعلق الأمر بالإيمان لأن العقلَ مادتُه {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } بعد {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } النحل/آية107-108.

2. فإذا كان الأمر في غير الإيمان وكان في اتّباع الوعظ والإرشاد قُدِّم السمع لأنه الأداة المباشرة للنقل، قال سبحانه {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } الجاثية/آية23 فهو فسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت نهاية الآية }أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فكان المناسب هنا تقديم السمع.

3. وعندما ذكر الله سبحانه الامتنان على عباده بخلقهم ذكر السمع والأبصار والأفئدة مرتبة، وهذا فيه ما يشير إلى ترتيب خلق هذه الأعضاء، يقول سبحانه {وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } النحل/آية78. وآية أخرى {وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} المؤمنون/آية78 وكذلك {وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} الملك/آية23 وآية أخرى {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } السجدة/آية9.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *