العدد 125 -

السنة الحادية عشرة – جمادى الآخرة 1418 – تشرين الأول 1997م

بحـر قـزويـن مـسـتـودع الطـاقـة

بحـر قـزويـن مـسـتـودع الطـاقـة

يقع بحر قزوين في أواسط آسيا. على الخريطة لا يبدو بعيداً عن منطقة الخليج العربي وربما كانت طبقاته الجيولوجية امتداداً لها، تبلغ مساحته 600 ألف كيلومتر مربع، وتحيط به خمس دول هي تركمنستان، كازاخستان، أذربيجان، وروسيا، بالإضافة لإيران. وتؤكد الدراسات أن هذه المنطقة ترقد على مخزون ضخم من النفط والغاز الطبيعي وغيرهما من الخامات المعدنية. وعلى رغم أنه ليس هناك رقم محدود لقيمة هذه الثروة، تقدر مصادر الطاقة الأميركية الاحتياطي المؤكد للنفط في حوض بحر قزوين بما يتراوح بين 90 ملياراً و200 مليار برميل، إلا أن هناك تقارير أخرى تتحدث عن رقم 250 مليار برميل قابلة للزيادة. أما بالنسبة إلى الغاز الطبيعي فتكتفي هذه المصادر بالقول إن كمياته هائلة وتتحدث عن تريليونات وليس فقط عن الأمتار المكعبة. وهكذا فإننا نقع على مكان الاحتياطي العالمي الثاني للغاز الطبيعي (بعد منطقة الخليج العربي). وليس من المستبعد مع توالي الاكتشافات هناك أن تقفز منطقة بحر قزوين إلى الموقع الأول.

من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن أكثر من نصف نفط حـوض قـزوين يقع فـي أراضـي دولـة واحـدة هـي أذربيـجـان. ويقول ناتيك علييف رئيس شركة النفط الوطنية الأذرية (سوكار) إنه يوجد أكثر من 200 حقل نفطي ضخم في قاع قزوين، منها 145 في قطاع أذربيجان. وهناك تقديرات تؤكد أن حجم الاحتياطي النفطي في أذربيجان وحدها يصل إلى 120 مليار برميل، إضافة إلى أكثر من 80 ملياراً أخرى في تركمنستان وكازاخستان، عدا عن ذلك تملك هاتان الجمهوريتان احتياطياً ضخماً جداً من الغاز الطبيعي، الأمر الذي جعل بعض الأوساط تطلق عليهما تسمية «مستودعات الطاقة في المستقبل».

في كل الأحوال، تجمع كافة الجهات المطلعة على أن منطقة بحر قزوين ستكون «الخليج العربي رقم 2»، وهذه الحقيقة بدأت تكتسب واقعيتها من خلال ما نشاهده من منافسة ضارية تخوض غمارها كبرى الشركات العالمية، ومن ورائها حكوماتها لاقتطاع أكبر قدر ممكن من هذه الكعكة المغرية. ولإعطاء فكرة عن حجم هذه الكعكة نشير فقط إلى أن أذربيجان وحدها وقعت منذ عام 1994 وحتى شهر آب الماضي على عشرة اتفاقات مع اتحادات شركات عملاقة (كونسورتيومات) تحصل باكو من خلالها على استثمارات قدرت بنحو 35 مليار دولار لتطوير العديد من حقولها النفطية. وإذا كانت الشركات الغربية قد اكتفت في الصفقات الأولى بحصص صغيرة حتى لا تغضب روسيا، فإنها في الصفقات اللاحقة تخلت عن تحفظها وأصرت على الظفر بحصص أكبر. وعلى رغم أن الشركات الأوروبية كـ «توتال» الفرنسية و«بريتش بتروليوم» الإنكليزية و«شل» الهولندية، قد حصلت على نصيب لا يستهان به من هذه الصفقات، إلا أن حصة الأسد كانت للشركات الأميركية: «شيفرون كروب»، «موبيل أويل»، «أيكسون»، «أموكو» و«يونوكال».

نشير في هذا السياق إلى تقرير لوزارة الخارجية الأميركية حث الحكومة (الأميركية) على زيادة دعمها للشركات النفطية الأميركية للحصول على دور أكبر في منطقة بحر قزوين. ولاحظ التقرير أن «حكومات أخرى أدركت الفرص التجارية في هذه المنطقة ودعمت بقوة شركاتها بخطوط ائتمان وحوافز أخرى». من هنا لم يكن غريباً أن يشهد الرئيس كلينتون بنفسه ومعه الرئيس الأذري حيدر علييف أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن في آب الماضي، مراسيم توقيع آخر أربع اتفاقيات عقدتها شركة النفط الأذرية مع شركات أميركية.

لكن الخلافات في بحر قزوين لم تقتصر على الحصص وامتيازات الاستثمار النفطي فقط، بل ازداد الأمر ضراوة حين جرى بحث موضوع إيصال نقل النفط إلى الأسواق العالمية. وكما هو معروف فإن قزوين بحر مغلق تماماً ليس له أي اتصال مائي بأي حوض بحري آخر. والنتيجة المرتبة على ذلك ستكتسب فوراً أهمية استراتيجية كبرى. فمن الواضح أن أي عملية استثمار لنفط قزوين يجب أن تلجأ إلى أسلوب الأنابيب. وهنا يظهر الصراع على أشده. فالدول القريبة (بل وبعضها البعيد) تبذل كل ما في وسعها لإقناع الجهات المعنية بالجدوى الاقتصادية وغيرها من المنافع لتمرير الأنابيب عبر أراضيها نظراً للمكاسب الأكيدة التي سيجنيها أي بلد تعبر الخطوط من خلاله.

روسيا من جهتها تصر على أن تعبر الأنابيب من أراضيها وصولاً إلى ميناء «نوفوروسيسك» الروسـي على البحر الأسـود، على أن تتولى الناقـلات نقل النفـط إلـى البحر الأبيض المتوسط عبر المضائق التركية. وتقول موسكو إن هذا الخط موجود أصـلاً من الحقبة السـوفياتية وإن احتـاج إلى بعض الإصلاحات والوصلات.

وبما أن أذربيجان لا تريد إثارة غضب روسيا، أعلنت عن عزمها استخدام الخط الروسي، لكنها قالت إن هذا الأنبوب وحده لن يكفي، فالنفط الأذري كثير، الأمر الذي يبرر إنشاء خطوط أنابيب عديدة. لذلك شرعت في بناء خط يربط بين باكو وميناء سوبسا الجورجي الواقع على البحر الأسود، سيكون جاهزاً للاستخدام في مطلع العام المقبل. وعلى رغم أن الأحاديث عن هذا الخط تصفه بأنبوب رديف للطريق الروسي، لكن حقيقة أن أنابيب سوبسا ستكون قادرة على نقل ضعف ما يحمله الخط الروسي، تؤكد أن الطريق الجورجي سيكون هو الأساسي. وإذا علمنا أن أذربيجان وجورجيا وتركيا ترغب باستكمال أنابيب سوبسا بوصلة توصل إلى ميناء جيهان التركي، لأدركنا أن أهمية الخط الروسي ستتراجع خلال فترة إلى المرتبة الثانية، وربما أكثر.

وهذا ينطبق تقريباً على الخطوط الأخرى التي ستنقل نفط كازاخستان وتركمانستان إلى الأسواق العالمية. فروسيا تريد أن يتجمع النفط في ميناء نوفوروسيسك. لكن بما أن هذا الخط وحده لا يكفي، تم التفكير بطرق جديدة، فوقع الاختيار على إيران، حيث تعبر الأنابيب من تركمانستان إلى تبريز في شمالي إيران وصولاً إلى ميناء جيهان التركي. واللافت هنا أن الشركات الأميركية وعلى رأسها «شيفرون» استطاعت إقناع الرئيس كلينتون بعدم ربط هذا الأنبوب الحيوي بالحظر الأميركي على الصناعة النفطية الإيرانية، وهذا ما استجابت له الإدارة الأميركية فعلاً. كذلك يجب أن نشير هنا إلى خط آخر تدعو له شركات عملاقة كـ«يوناكال» و «شل»، ويهدف إلى ربط منابع الطاقة في كازاخستان وتركمانستان بخط أنابيب يعبر باكستان وأفغانستان وصولاً للمحيط الهندي.

أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإذا كان هدفها المباشر من كل هذه الصفقات التي تعقدها شركاتها هو تحقيق أكبر قدر من الأرباح، فمن المؤكد أن هناك غايات غير مباشرة تتجاوز بكثير الناحية المالية، يبقى أبرزها هو الإمساك بقوة بمفاتيح النفط على صعيد العالم بأسره. الهدف الأميركي الثاني هو بلا شك إضعاف روسيا بسحب هذه المنطقة الثمينة من مجال نفوذها. ويمكن القول إن واشنطن قطعت شوطاً مهماً في هذا السياقq

من مقال خليل جنداوي في «السفير» 24/09/97.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *