العدد 323 -

السنة الثامنة والعشرون ذو الحجة 1434هـ – تشرين أول 2013م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

 

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

 

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:

  1. لقد أرسل الله – جلّ ثناؤه – موسى – عليه السلام – إلى بني إسرائيل بالدلائل القاطعة والمعجزات المؤيدة لنبوته وهي تسـع آيـات مذكـورة في موضع آخر (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) الإسراء/آية101 كالعصا التي تحولت ثعباناً، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين، وفلق البحر ومصيره طريقاً يبساً، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم وغيرها والتي فيها ما يقطع بنبوة موسى – عليه السلام – ولكنهم اتخذوا العجل إلهاً بعدما ذهب موسى إلى الطور لمناجاة ربه، وكانوا بذلك ظالمين لأنهم وضـعـوا الأمر في غير محله باتخاذهم العجل إلهاً وهو ليس كذلك. وقد قال الله سبحانه ( ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ) و( ثُمَّ ) تفيد التراخي أي أنهم اتخذوا العجل إلهاً بعد فترة من تدبر الآيات، فجاءتهم الآيات وتدبروها وتحققوا من دلالتها القاطعة على صدق موسى – عليه السلام – ومع ذلك اتخذوا العجل إلهاً، وفي هذا من التبكيت والتوبيخ لهم ما فيه.

  2. ثم يعود فيذكرهم الله سبحانه بأخذ ميثاقهم ورفع الطور فوقهم وأن يأخذوا ما آتاهم الله بجد واجتهاد على نحو ما بينا في الآية السابقة ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). وتكرار الآية لزيادة معنى وهو أن سماع الأمر من الله سبحانه لا قيمة له إن لم يكن سماع امتثال للأمر على وجهه، أي سماع طاعة وقبول، ففي الآية الكريمة يقول الله سبحانه ( وَاسْمَعُوا ) ولكنهم أجابوا ( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) فالجواب يدلّ على أن ( وَاسْمَعُوا ) تتضمن السمع والطاعة والقبول كذلك حتى لو لم يذكر، وكثيراً ما يراد من السماع القبول كقولنا في الصلاة: سمع الله لمن حمده.

( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) (الواو) للحال أي أنهم قالوا عصينا في حال قد أشربوا فيها حبّ العجل، أي داخَلَ قلوبهم حب العجل وقالوا ( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) ( بِكُفْرِهِمْ ) أي بسبب كفرهم.

ثم يختم الله سبحانه الآية ببيان أنهم كاذبون في ادِّعائهم الإيمان، لأن الإيمان نقيض الكفر فلا يأمر باتخاذ العجل إلهاً ولا أن يداخل القلوب حبّ العجل كإله وتمتنع لأجله عن السمع والطاعة لله الخالق المعبود.

وإسناد الأمر للإيمان وإضافته إلى ضمير (هم) في قوله تعالى ( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ )  هو للتهكم على نحو قوله سبحانه ( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ ) هود/آية87.

( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي إن كنتم مؤمنين باتخاذ العجل إلهًا أو بسكنى حبه في قلوبكم وأمثال ذلك، فإن إيمانكم هذا إيمان بئيس، أي ليس الإيمان الذي يريده رب العالمين بل هو الكفر بعينه.

  1. ثم يبين الله سـبحـانه كذبهم في ادّعائهم أن الجنة خاصة لهم ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ) البقرة/آية111 ويقيم الحجة عليهم بأنهم إن كانوا صـادقـين فلـيـتـمـنـوا الموت أي لقاء الله، فإن كانوا أحباء الله كما يزعمون ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) المـائـدة/آيـة18 فـإنـهـم سـيسـارعون إلى تمني الموت لإثبات صدقهم، فإن لم يفعلوا كانوا كاذبين، وهذا ما حدث فعلاً فهم لم يتمنوا الموت لأنهم يعلمون ما قدمت أيديهم من كفر وشرّ يخشون معه لقاء الله ( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ).

وهذه من الأدلة الحسية القاطعة التي أقامها الله سبحانه على اليهود والنصارى الذين كانوا في عهده – صلوات الله وسلامه عليه – لأنهم إن كانوا على حقّ في أن الجنة مخصوصة لهم فليتمنوا الموت، هذا بالنسبة لليهود، وإن كان النصارى على حق كما يزعمون عن عيسى – عليه السلام – من كونه ليس عبداً لله بل هو معه إله، فليقبلوا المباهلة ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ  ) آل عمران/آية61 ولكن الفريقين كليهما على عهد رسول الله e لم يفعلا، فلم يتمنَّ اليهود الموت، ولم يقبل نصارى نجران المباهلة وهي حجة قاطعة عليهم لو كانوا يعقلون “لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله e لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالا”[1].

  1. ونتيجة لواقع فساد اليهود وإفسادهم فهم يخشون الموت لظلام مصيرهم هناك، بذلك فهم أشدّ الناس حرصاً على طول الحياة، بل من الذين أشركوا الذين لا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا، فهم يحرصون عليها كلّ الحرص لعدم إيمانهم بحياة أخرى، ومع ذلك فاليهود أشدّ حرصاً على الحياة حتى من هؤلاء المشركين.

( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) أي حياة مطلقة، أية حياة، ولكنها قُيِّدت بمفهوم تكملة الآية ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) أي حياة متطاولة.

( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ) ( أَحَدُهُمْ ) قد تعود للذين أشركوا أي أن اليهود أحرص من المشركين الذين يتمنى أحدهم لو يعمَّر ألف سنة لأنه لا يعرف إلا الحياة الدنيا فيتمنى أن يعيش فيها أكثر مدة ممكنة. وقد يعود ( أَحَدُهُمْ ) إلى اليهود أي أن الواحد منهم يتمنى التعمير الطويل وهذا هو الأرجح بقرينة ( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ) فالمشركون لا يؤمنون بأن هناك آخرة فلا يؤمنون بعذاب، أما اليهود فهم يؤمنون بآخرة وعذاب لأنهم يعلمون ما قدمت أيديهم من شر فلا يحبون أن يأتيهم الموت لإبعاد العذاب عنهم ما أمكن، فالله سبحانه يعلم أنهم مهما طالت أعمارهم – ألفا أو أكثر والألف هنا للكثرة – فإن العذاب لا بدّ آتيهم لأنهم في النهاية ميتون وإلى ربهم يرجعون.

ويختم الله سبحانه الآية بأنه بصير بأعمالهم وسيجزيهم عليها ما يستحقون ( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)

[1]               أحمد: 1/148، تفسير الطبري: 1/424

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *