العدد 376 -

السنة الثانية والثلاثين – جمادى الأولى 1439هـ – شباط 2018م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

(ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡ‍ًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٢٣٠)

لكن الله سبحانه استثنى حالة يجوز للرجل أن يأخذ من زوجته، وهي الحالة التي تسمى (الخُلْع) وهي أن تبغض الزوجة زوجها وتنفر من العيش معه عيش الأزواج، ويكون سبب ذلك منها وليس من زوجها، ففي هذه الحالة يباح لها أن تفتدي مخالعتها من زوجها بأن تعيد له ما دفعه من مهر دون زيادة، وتختلع منه بإذن الإمام أو من ينيبه، ويفسخ عقد زواجها منه، وتَبين منه حال المخالعة؛ فلا يملك الزوج بعد ذلك مراجعتها، بل له الزواج منها من جديد بعقد ومهر جديدين.

أما لماذا قلنا إن (الخلع) يكون بسبب من الزوجة؛ فذلك من الكتاب والسنة. أما من الكتاب، فإن الطلاق بيد الرجل، فإذا كره زوجته أو لم يرد صحبتها فبإمكانه طلاقها، وقد حرم الله عليه أن يضارَّ زوجته لتعفيه من بعض حقوقها حتى يطلقها، بل إن شاء أمسكها بمعروف أو سرحها بمعروف، دون أن يضارها ليأخذ شيئًا مما آتاها، يقول سبحانه: (وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ) أي إن كنتم لا تريدونهن زوجات وأردتم طلاقهن فطلقوهن بمعروف، دون أن تظهروا تمسككم بهن وأنتم لا تريدونهن من أجل أن تعتدوا على حقوقهن فتأكلوها فتعفيكم المرأة من بعض حقوقها كي تطلقوهن.

ولذلك فإن كان السبب من الرجل وهو لا يريدها فليطلقها دون أن يأخذ منها شيئًا، وسنفصل هذه الآية بعد قليل إن شاء الله.

فحيث إنَّ الطلاق بيد الرجل، فإنه إن لم يرد زوجته يطلقها بالمعروف، وبالتالي يكون الخلع – أي افتداء المرأة من زوجها – في حالة إذا كانت هي التي لا تريد زوجها وهو يريدها.

أما السنة فإن سبب نزول الآية أن المرأة هي التي لم ترد زوجها.

روى ابن ماجة بإسناد جيد عن ابن عباس: «أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضًا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بستانه ولا يزداد» (ابن ماجه).

وروى ابن جرير عن ابن عباس: «إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أُّبي، امرأة ثابت بن قيس، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في جماعة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا. فقال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي، فإن ردت عليّ حديقتي. قال: ما تقولين؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرَّقَ بينهما» (أحمد، الدر المنثور، تفسير الطبري). وروى نحوه الإمام أحمد من طريق عبد الله بن عمرو، ومن طريق سهل بن أبي حثمة.

ولذلك فإن المرأة إن لم ترد زوجها لبغضها له وعدم إمكانها العيش معه في الوقت الذي هو يريدها فيه فله أن يقبل أن تردّ المهر الذي أعطاه لها وتختلع منه.

فإن قيل إن الله سبحانه يقول: (إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ) فلماذا أسند لهما الخوف من عدم إقامة حدود الشرع في حياتهما الزوجية ولم يُسنِدْ للزوجة فقط؟ والجواب إن بغض الزوجة للزوج ونفورها منه وعدم طاعتها له سيؤثر في الزوج، وبالتالي يُخشى من كليهما عدم إقامة حدود الله. وقوله سبحانه ( إِلَّآ أَن يَخَافَآ ) أي إلا أن يتوقعا ويكون المعنى: إلا أن تبغض المرأة زوجها ولا تريده ونتيجة ذلك يتوقع الزوجان أن لا يستطيعا إقامة حدود الله في حياتهما الزوجية، وبذلك فلا تعارض بين قوله سبحانه: (إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ) وبين أن يكون عدم إرادة العيش مع الزوج آتيًا من قبل الزوجة.

إلا أن هذه الإباحة في طلب الزوجة المخالعة من زوجها عندما يكون هناك سبب تبغض فيه زوجها وتنفر منه، ويترتب عليه خوف الزوجين من عدم تمكنهما إقامة حدود الله في حياتهما الزوجية.

غير أنه يحرم على المرأة أن تطلب المخالعة من زوجها بدون سبب لديها يخشى معه أن لا يقيما حدود الله    (إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ) وهذا ما بينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات» (النسائي، الدر المنثور، تفسير الطبري) الذي يرويه عقبة بن عامر الجهني. وفي رواية أخرى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المختلعات هن المنافقات» (الترمذي، تفسير الطبري) أي اللاتي يطلبن الخلع من أزواجهن بدون سبب لديهن يتوقع معـه عـدم القيام بحـدود الله في الحياة ؛ وذلك جمعًا بين أدلة إباحة الخلع في الحالة التي ذكرناها أولًا وأدلة تحريم طلب الزوجـة الخلع من زوجها المذكورة في الحديثين الأخيرين.

أما لماذا قلنا يباح له ولها المخالعة في هذه الحالة؛ فلأن المخالعة ليست فرضًا، فالله سبحانه يقول: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِ) أي يباح لهما ذلك، فإن افتدت وأعادت المهر لا شيء عليها، وكذلك قبوله للمهر المدفوع وتخلية سبيلها، لا شيء عليه به.

والأمر الآخر أن الزوج ما دام يؤدي حقوق زوجته، فلو نشزت هي فلم تطعه ولم ترد العيش معه، فالله سبحانه فرض عليه في هذه الحالة ( فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّ) ولم يفرض عليه غير ذلك كأن يطلقها أو يخالعها.

وأما لماذا قلنا إنه لا يصح أن يأخذ منها أكثر مما دفع؛ فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث ابن عباس الذي رواه ابن ماجة السابق: «فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بستانه ولا يزداد» (ابن ماجه) وفي حديث أبي الزبير الذي أخرجه الدارقطني: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إلى امرأة ثابت بن قيس: أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ قالت: نعم، وزيادة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا» (ابن ماجه، الدر المنثور) وكلّ ذلك يدلّ على أن له أن يأخذ مهره الذي دفع دون زيادة.

ولا يقال إن الآية (فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِ) تفيد العموم من لفظ (مَا) وبالتالي يجوز له أن يأخذ أكثر من المهر الذي قدمه، لا يقال ذلك؛ لأنها وإن كانت من ألفاظ العموم إلا أنها خصصت بالأحاديث التي ذكرناها بأنه لا يصحّ له أن يأخذ أكثر من المهر المقدم لها.

وأما أن (الخلع) يتم بإذن من الإمام أو من ينيبه أي القاضي أو ما هو في حكمه؛ فلأن الله سبحانه يقول (إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِ) أي إلا أن يتوقع الزوجان ألا يقيما حدود الله في حياتهما الزوجية، ولا يستطيعا تنفيذ الأحكام الشرعية المتعلقة بحياتهما الزوجية.

غير أن الله سبحانه لم يرتب جواز المخالعة على خوف الزوجين من عدم إقامة حدود الله، بل وضع شرطًا آخر وهو: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما، أي أن الله سبحانه جعل المخالعة تتوقف على قناعة جهة أخرى بصحة توقع الزوجين عدم إقامتهما حدود الله، وواضح هذا من تغيير صيغة الخطاب من التثنية إلى الجمع مما يدلّ أن تلك الجهة هي غير الزوجين.

والذي يملك صلاحية إنهاء الحياة الزوجية غير الزوج هو الإمام أو من ينيبه كالقاضي. ويؤيد ذلك حوادث المخالعة التي رويت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي ذكرنا بعضها سابقًا، فقد كانت ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفصل فيها. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا وحاكمًا في آن.

ولذلك فمن لم ترد زوجها لبغضها له، وخافت هي وزوجها في هذه الحالة أن لا يقيما حدود الله، أي أن لا يطيعا الله ورسوله في حياتهما الزوجية، يكون بذلك قد تحقق الشرط الأول ( إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ) بعدها ترفع المرأة التي تريد مخالعة زوجها الأمر للحاكم أو القاضي، فيدرس الأمر ( فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ) عندها يعرض عليها أن تعيد المهر الذي قدمه الزوج وتنخلع من زوجها.

وقد رويت حوادث كان الخلفاء الراشدون يستعملون أساليب توفر لهم قناعة بأن الزوجين لن يقيما حدود الله بعد أن تطلب الزوجة الخلع من زوجها.

روى ابن جرير أن عمر أتى بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل (أي حبسها فيه) ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها.

أما أن الخلع فسخ وليس طلاقًا فللأسباب التالية:

أ. قوله سبحانه (ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡ‍ًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِ). وفي هذه الآية: طلقتان، ثم بعد ذلك مخالعة؛ ولكن الله سبحانه في الآية التالية قال: ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ ) أي إن طلقها الثالثة فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره.

وهذا يعني أن الخلع ليس طلاقًا وإلا لكان المذكور في الآية التالية ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُ) طلاقًا رابعًا وهو ليس كذلك.

ب. أخرج أبو داود من طريق عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَذِهِ. فَقَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ. قَالَ: مَا شَأْنُكِ. قَالَتْ: لاَ أَنَا وَلاَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِزَوْجِهَا. فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، وَذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، وَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: خُذْ مِنْهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا، وَجَلَسَتْ هِيَ فِي أَهْلِهَا».

وقد أخرج هذا الحديث بلفظه، إلا من حروف بسيطة لا تغير المعنى، النسائي والإمام مالك.

وكذلك أخرج النسائي من طريق مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ثَابِتٍ فَقَالَ لَهُ: خُذِ الَّذِي لَهَا عَلَيْكَ وَخَلِّ سَبِيلَهَا. قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً فَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا.

وواضح من هذه الأحاديث أنه لم يُذكر الطلاق بل فقط الفرقة مثل (خلِّ سبيلها)، (تلحق بأهلها).

وأما ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – في حديثه الذي أخرجه البخاري والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لثابت: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» (البخاري، النسائي) وذلك عن امرأته، فإن رواية ابن عباس هذه مرجوحة؛ لأن رواية النسائي وأبي داود ومالك في الموطأ هي عن امرأة ثابت بن قيس من قولها هي، وفي آخره: “وخلِّ سبيلها“، «تلحق بأهلها»، «وجلست في أهلها» وليس “وطلقها تطليقة” ورواية صاحبة القصة أرجح من رواية غيرها كما هو معروف في الترجيح في الأصول، ولذلك فالخلع ليس طلاقًا.

ج. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المختلعة أن تتربص بحيضة وليس بثلاث، وهذا يعني أنه ليس طلاقًا.

وقد ورد ذلك في الحديث الذي رواه النسائي الذي ذكرناه سابقًا. وكذلك فيما رواه الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم «أن تعتدَّ بحيضة» (الترمذي، النسائي، أبو داود، ابن ماجه) وهذا يعني أنه ليس طلاقًا وإلا لاعتدت بثلاث حيضات. وما دام ليس طلاقًا بل هو فسخ؛ لذلك فلا يصحّ له مراجعتها بعد المخالعة سواء في العدة أم غيرها. وله أن يتزوجها بعقد ومهر جديدين برضاها، وبالأحكام الشرعية المتعلقة بذلك.

ويختم الله سبحانه الآية بأن هذه حدود الله، ويجب الوقوف عندها والتزامها وعدم تجاوزها، فمن عصى الله وتعدَّ حدوده فهو من الظالمين الذين يستحقون العذاب الأليم ( تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ).

  1. يبين الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن من طلق زوجته الطلقة الثالثة – أي تجاوز الحد المسموح له ( ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ )- فقد بانت منه زوجته بينونة كبرى، بمعنى أنه لا يحلّ له أن يراجعها في عدتها، وكذلك لا يحل له أن يتزوجها بعقد ومهر جديدين، بل يحرم عليه ذلك إلا أن تتزوج زوجًا غيره، ثم إن طلقها الزوج الجديد جاز للأول أن يخطبها ويتزوجها بعقد ومهر؛ حيث تكون كأية امرأةٍ أجنبيةٍ عنه.

وهنا تبرز مسألة: هل إن البينونة الكبرى تقع بالطلاق الثلاث المتفرق مرة بعد مرة، أم إنها تقع بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة؟

هذه المسألة مما اختلف فيها الفقهاء وأطالوا الخلاف، وبالتدقيق فيها أقول وبالله التوفيق:

إنه لا فرق بين أن يكون الطلاق ثلاثًا متفرقات أو مجتمعات، ويترتب الحكم (البينونة الكبرى) على الطـلاق بلفظ الثلاث جملة أو مرة بعد مرة بعد مرة، والدليل على ذلك:

  1. قوله تعالى: (ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ)إلى أن يقول سبحانه (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُ). ووجه الاستدلال أن الله سبحانه قال: ( مَرَّتَانِ) وطلقتان دون تقييد باجتماع أو تفرق، وكذلك ( فَإِن طَلَّقَهَا ) أي الثالثة، والفعل مثبت؛ فهو مطلق غير مقيد، أي: (فإن طلقها الثالثة) مجتمعة مع الطلقتين أو منفصلة عنهما.

فالآية تفيد البينونة الكبرى بالطلاق الثلاث، سواء أكان مجتمعًا أم متفرقًا.

ولا يقال إنه قد ورد تقييد للمرات بأن تكون متفرقة؛ فهي التي تفيد البينونة الكبرى، أما إن كانت مجتمعة بلفظ واحد؛ فإنه لا يترتب عليها بينونة كبرى، بل تعتبر طلقة واحدة، وذلك كما جاء في بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لا يقال ذلك لأن هذه الأحاديث كلها ضعيفة لا ترقى إلى الحسن أو الصحيح إلا حديثين رويا عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وهما لا يصلحان للتقييد ولا يعمل بهما كما نبينه الآن بإذن الله.

الحديثان هما:

الأول: حديث محمد بن إسحاق الذي يقول فيه: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثًا فحزن عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها واحدة (أحمد). رواه الإمام أحمد في مسنده.

والثاني: حديث طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم (مسلم).

ولم يروَ أي حديث صحيح أو حسن عن غير ابن عباس ينص على الثلاث جملة تعتبر واحدة، غير أن هذا الاعتبار مرجوح؛ لأن فتاوى ابن عباس الصحيحة الثابتة عنه تعتبر أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثًا، وتترتب عليه بـيـنـونة كبرى. وأذكر فيما يلي عددًا من هذه الفتاوى:

  1. روى عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادَّها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحُمُوقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس!! … وإن الله قال: (وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا )وإنك لم تتقِّ الله؛ فلم أجد لك مخرجًا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك. وأنَّ الله قال: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) في قبل عدتهن، أي أن ابن عباس اعتبر الطلاق الثلاث معًا واقعًا وتترتب عليه بينونة كبرى.

  2. وروى مثله حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس.

  3. وروى شعبة عن عمرو بن مرة وأيوب وابن جريج جميعًا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

  4. وابن جريج عن عبدالحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس.

  5. 5. والأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس.

  6. وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس.

كلهم قالوا في الطلاق الثلاث أن ابن عباس أوقعها ثلاثًا وقال: بانت منك امرأتك (أبو داود).

ولشهرة هذه الفتاوى وصحتها عن ابن عباس بإيقاع الطلاق بلفظ الثلاث، كل ذلك يجعل الحديث المروي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث واحدة، يجعله مرجوحًا؛ لأن الصحابي إذا عمل بغير ما روي فإن روايته تكون مرجوحة، ويكون الراجح في المسألة مدلول الآية الكريمة باعتبار الطلاق الثلاث مفرقًا أو مجتمعًا يفيد وقوع البينونة الكبرى. وقد عمل بهذا كثير من الفقهاء وكثير من العلماء بأن الثلاث تقع ثلاثًا.

وقد قال البـخـاري في صحيحه (بـاب من جـوز الطـلاق الـثلاث لقوله تعالى: ( ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ) وذكر حديث اللعان (عن سهل بن سعيد الساعدي،… قال سهل: فتلاعنا… فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن شهاب فكانت تلك سنة الأولين (البخاري: الطلاق الباب الرابع 5259).

وقد قـال البيهقي تعـليقـًا على حديث طاووس عن ابن عباس الذي أخرجه مسـلم ولم يخـرجـه البخاري، قال البيهقي: أظن البخاري تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس (البيهقي)، وساق الروايات عنه وقد بيناها سابقًا.

والخلاصة أن الطلاق الثلاث جملةً أو متفرقًا واقع وتترتب عليه البينونة الكبرى، إلا أن هناك فرقًا بين الطلاق الثلاث المجتمع وبين الطلاق الثلاث المفرق، وهو أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد منهيّ عنه نهيًا جازمًا أي أنه حرام، غير أنه واقع ثلاثًا كما بينا، والمطلِّق به آثم؛ وذلك استدلالًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه محمود بن لبيد: “أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله!” (النسائي).

ومن الجدير ذكره أن القائلين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع واحدة لهم شبهة الاستدلال، ولكن قولهم مرجوح، واعتبار هذا الطلاق واقعًا ثلاثًا هو الراجح.

( فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَه) هذه تفسير لقوله سبحانه في الآية السابقة ( تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖ ) فمعناه هنا كما بيناه سابقًا أي أن يطلقها الثالثة.

( حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَه ) أي حتى تتزوج غيره ويجامعها، أي يتمّ الجماع في عقد صحيح.

أما (العقد) ففهم من ( زَوۡجًا )، وأما (الجماع) ففهم من ( تَنكِحَ ).

فإن قيل إن (النكاح) تأتي في الوطء وفي العقد، فكيف تعينت هنا في الوطء أي الجماع؟ إن قيل ذلك فإن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة، تبين أن المقصود هو الجماع في زواج صحيح، فلو تمّ عقد زواج بدون الجماع ثم طلقها الزوج الأخير؛ فإنها لا تحلّ لزوجها الأول بعقد الزواج هذا دون جماع.

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني طلاقي، فتزوجني عبدالرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (البخاري ومسلم).

روى أحمد والنسائي وابن جرير عن ابن فر قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا فيتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، هل تحل للأول؟ قال: حتى تذوق العسيلة» (النسائي: 3361، ابن ماجه: 1923، الموطأ: 975، أحمد: 2/25، تفسير الطبري: 2/477).

والمراد بالعسيلة لذة الجماع، أي لا بدّ من جماع؛ لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن العسيلة الجماع» (أحمد).

ولذلك فإن طلقت الزوجة ثلاث تطليقات؛ فإنها لا تحل لهذا الزوج إلا أن تتزوج غيره ويجامعها الزوج الجديد، فإذا طلقها يجوز للزوج الأول أن يخطبها من جديد بعقد ومهر جديدين، وبالرضا والاختيار إن غلب على ظنهما أنهما سيقيمان حياة زوجية في حسن صحبة ومعاشرة.

( فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ) أي مباح لهما أن يتزوجا من جديد، إن كانا يتوقعان إقامة حياة زوجية كما حددها الله وشرعها.

( إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا ) أي إن توقعا، لأن ( أَن ) المصدرية هنا للتوقع.

ثم يختم الله سبحانه الآية ببيان أن هذه الأحكام هي حدود الله، يجب الوقوف عندها وعدم تجاوزها، وقد خصّ الله أولي العلم بذلك؛ لأنهم الذين يفقهون وينتفعون بهذا البيان ( وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *