العدد 26 -

السنة الثالثة – العدد 26 – ذو القعدة 1409هـ، الموافق حزيران 1989م

صلح الحديبيّة

في مثل هذا الشهر – شهر ذي القعدة الحرام – وقّع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين قريش. وقد اصطلح الفريقان على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين ،يأمن فيهن النّاس ، ويكف بعضهم عن بعض. ومعاهدة الحديبية أشهر من أن تعاد قصّتها . ولكن ذكرى ودرس لما حوت من عبر وبعد نظر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفصل ما بين اليهود وقريش بعمل سياسيّ عظيم وان ينتزع  اعترافا  صريحا من قريش بدولته الفتيّة، في الوقت  الذي  تعتبر فيه مكّة أكبر وأقوى كيان سياسي في  الجزيرة العربية كلها، وكان  له ما أراد.

دعا رسول الله صلى الله ليه وسلم المسلمين والعرب الى أداء العمرة فخرج معه المسلمين ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي  ، وأحرم بالعمرة ليعلم النّاس أنّه خرج زائرا للبيت الحرام، معظّما له. حتّى إذا وصل الى الحديبية علم أن قريش فزعت لمقدمه، وأنهم يستعدونه لملاقاته ومحاربته.

أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه الى قريش لما له من مكانة فيها ليخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاء معتمرا معظما للبيت الحرام. ولما تأخر عثمان ظنّ المسلمون أن عثمان قد قتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى البيعة. فبايعه المسلمون جميعا على أن لا يفرّوا ، وسميت بيعة الرضوان وفيها نزل قوله تعالى ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).

ورجع عثمان برفض قريش لمطلب رسول الله ، وبدأت المفاوضات، وأرسلت قريش رسلها بالمفاوضة فما يأتي منهم أحد  إلا  اقتنع  بوجهة نظر رسول الله. وأخيرا أرسلت قريش سهيلا بن عمروا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل.

وانتهت المفاوضات بكتابة ما اتفقا عليه.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب وقال له اكتب “بسم الله الرحمن الرحيم”

فقال سهيل بن عمرو: ” أمّا الرحمان فانّا لاندري ماهو . اكتب باسمك اللهم” فوافق رسول الله ،ثمّ قال رسول الله :” اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل  بن عمرو” فقال سهيل :” والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. اكتب “محمد بن عبد الله” فوافق رسول الله.

وجرت كتابة المعاهدة بالدقة والحذر الشديد. وكان مما اتفق عليه.

1-              وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين.

2-              أن لا يسمح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أداء العمرة هذا العام، ولكن في العام المقبل.

3-              أن من أتى من قريش بغير إذن وليه الى رسول الله فعليه أن يرده إليهم.

4-              أنّ من أتى الى قريش فليس عليها أن تردّه.

5-              من أحب من العرب أن يدخل في حلف قريش فليدخل ومن أحبّ أن يدخل في حلف محمد فليدخل.

هذا ابرز ما جاء في المعاهدة ، وقد أثارت هذه البنود سخط قسم كبير من المسلمين، واعتبروها مهينة لهم. وقد احتجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله:  “إني رسول الله ولن يضيّعني”

فطابت نفوسهم.

ودخل في حلف رسول الله وعقده قبيلة خزاعة ودخلت في حلف قريش قبيلة بني بكر.

أما نتائج هذه المعاهدة فكانت كالتالي:

1-عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح خيبر.

2- اعتراف قريش بدولة رسول الله ، وتعاملها معه على قدم المساواة.

3- ونتيجة لذلك فقد انتشر الاسلام في الجزيرة بشكل لم يسبق له مثيل. حيث رفعت الحواجز بين قريش والمسلمين.

4- أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم كتبه المشهورة للملوك والأمراء.

5-حتّى البند الذي شعر المسلمون فيه بالمهانة أرسلت قريش وفدا منها يطالب بإلغائه. وعدم رد من يأتيه من قريش مسلما، لانّ هؤلاء كانوا قد شكلوا فصائل للإغارة على قريش وأموالها.

وباختصار كانت مصداقا لقوله تعالى في سورة الفتح التي نزلت حين عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه المعاهدة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا @ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا @ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا )

أما ما حاول بعض المسلمين لسوء فهم ومقارنة بين صلح الحديبية وخيانة كمب ديفيد، فان القياس عكسي تماما. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يمثّل الدولة الأضعف في محيط يكنّ له العداوة والحرب فأراد توقيع المعاهدة مع قريش باعتبارها الدولة الأقوى في ذلك المحيط، وكان  له ما أراد.

وإما إسرائيل فكأنها أدركت مثل هذا الموقف، فأرادت أن تحصل على اعتراف وصلح مع أقوى دولة في المنطقة لتكسر هذا الطوق من حولها آملة أن يتبع تلك الدولة غيرها من الدول المحيطة بها.

وكأنّ إسرائيل تمثّل دور محمّد صلى الله عليه وسلم في تلك المعاهدة، وليست مصر. وكذلك كانت عملية القياس عملية عكسية وقلبا للمفاهيم والحقائق. ولا يجوز مطلقا الاستدلال بها على ما حدث بين مصر وإسرائيل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *