الإمامة والخلافة
1989/06/10م
المقالات
3,425 زيارة
هذا البحث منقول بحرفيته عن كتاب: (الشيعة والتصحيح: الصراع بين الشيعة والتشيع) تأليف العلاّمة الدكتور موسى الموسوي. وهو مطبوع في لوس أنجلوس سنة 1989م.
المؤلّف هو حفيد الإمام الأكبر السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني. ولد في النجف الأشرف عام 1930، ونال الشهادة العليا في الفقه الإسلامي (الاجتهاد) من المرجع الديني الأعلى زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. ثم حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باريس – السوريون عام 1959. وعمل في جامعات طهران وبغداد وألمانيا الشرقيّة وليبيا وهارفارد ولوس أنجلوس. وله مؤلّفات كثيرة آخرها الكتاب المذكور أعلاه.
وقد رأت مجلة “الوعي” أن أبحاث هذا العالم تتصف بالإنصاف والجرأة في قول كلمة الحق، فأرادت أن تطلع قراءها على هذا البحث القيّم. ونسأل الله أن يجعل فيه خيرا للإسلام والمسلمين والناس عامة.
-
فكرة الخلافة حتّى القرن الرابع الهجري.
-
الشيعة والتشيّع.
-
الانحراف.
-
التصحيح.
عقيدة الشيعة الإماميّة في الخلافة:
كملا تعمقت في الشيعة والتشيّع وعقائد الإمامية أجد أنّ هناك هوّة عظمية تفصل بين الشيعة والتشيّع قد تصل في بعض الأحيان إلى التناقض الصارخ حيث أرى بوضوح أن التشيع شيء والشيعة شيء آخر وكلما تعمقت في تاريخ الصّراع بين الشيعة والتشيّع تتجلّى أمامي العصور الثلاثة التي انبثق فيها هذا الصراع مبتدئا بالعصر الأول وهو عصر ظهور الصراع الفكري بعد الغيبة الكبرى الذّي مهّد الطريق للعصر الثاني وهو ظهور الدولة الصفويّة على يد مؤسسها الشاه إسماعيل الصفوي في عام 907 هجري وتأسيس الدولة الشيعية في إيران. ومن ثم العصر الثالث والأخير وهو عصر الصراع، الذّي نشاهده في حياتنا المعاصرة بين الأفكار الشيعية الحديثة والتشيّع. تلك الأفكار التي عصفت بالمجتمع الشيعي وأدت إلى نتائج حزينة خطيرة لا تحتملها الأرض ولا السماء.
ولكي نضع النقاط على الحروف في رسالتنا الإصلاحية هذه لابد من طرح الأفكار بصورتها الحقيقية ومن ثم إراءة الطريق لكي يكون القارئ على بيّنة من أمره.
الإمامة هي الحجر الأساسي في المذهب الشيعي ألإمامي وهكذا في المذهب الزيدي والإسماعيلي ومنها يتفرع كل ما هو مثير للجدل والنقاش مع الفرق الإسلامية الأخرى. فالشيعة الإمامية تعتقد أنّ الخلافة في علي بعد رسول الله صلى الله عليه ولم ومن بعد علي في أولاده حتّى الإمام الثاني عشر الذي هو محمد بن الحسن العسكري الملقب بالمهدي وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المح على خلافة علي من بعده في مواطن كثيرة ونصّ على ذلك في مواطن أخرى أشهرها في موقع يسمى (غدير خم) عند رجوعه من حجّة الوداع حيث عقد البيعة لعي وقال: “من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه“. كان ذلك يوم الثامن عشر من ذي الحدّة عام 12 بعد الهجرة والشيعة تحتفل بهذا اليوم في كل مكان تتواجد فيه وتطلق على هذا اليوم اسم عيد الغدير.
أما الفرق الإسلامية الأخرى فترى أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الرفيق الأعلى ولم يستخلف أحدا من بعده بل جعل الأمر شورى بين المسلمين نزولا عند نص الكتاب في الآيتين الكريمتين:
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم﴾ الشورى 27. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾ آل عمران 159.
هذا هو ملخص الخلاف بين الفريقين ولكلّ فرقة آراؤها وأدلّتها حيث ألّف علماء الفريقين في هذا الموضوع مئات الكتب المطوّلة والمختصرة. ولم تنفع تلك الكتب بطولها وعرضها في زحزحة الشيعة عمّا تعتقده في الخلافة أو زحزحة السنّة عمّا تراه أولى بالإتباع. غير أنّ المشكلة القصوى هي أن هذا الخلاف الفكري لم يتوقّف عند هذا الحد بل اتخذ شكلا خطيرا كلما مرت السنوات وبعد العهد عن عصر الرّسالة. ولو كان الخلاف بقي محصورا عند هذا الحد لكان الخطب هيّنا. والعالم الإسلامي لم يشاهد في تاريخه الطويل كثيرا من المحن والمصائب التي حلّب به بسبب المتفرّعات من فكرة الخلافة والخلاف فيها. وكما أشرنا بصورة مقتضبة في مقدمة الكتاب هو أن الخلاف الفكري تجاوز حدود البحث العلمي والاختلاف في الرأي واتخذ طابعا حادّا وعنيفا عندما بدأت الشيعة تجرح الخلفاء الراشدين وبعض أمّهات المؤمنين وذلك بعبارات قاسية وعنيفة لا تليق بأن تصدر من مسلم نحو مسلم ناهيك أن تصدر من فرقة إسلامية نحو صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه. صحابة لهم مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، وأزواج للنبيّ عبّر الله عنهن بأمّهات المؤمنين.
وهنا ظهر على ساحة الخلاف عدم التكافؤ بين الفريقين في طريقة التفكير والعقيدة. فالفرق الإسلامية كلها تحبّ عليّا وتكرّمه شأنه شأن الخلفاء الذين سبقوه وتحترم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصلى عليهم الصلاة في كلّ صباح ومساء ولكن الشيعة لها موقف آخر من خلفاء المسلمين، موقف فيه العنف والقسوة والكلام الجارح.
فكانت النتيجة ظهور ردّ فعل عنيف من قبل علماء الفرق الإسلامية الأخرى للدفاع عن أعزّ وأكرم خلفائهم. فألّف ودوّن كتّاب السنة وعلماؤها في الشيعة الكتب المطوّلة والمختصرة معيّرة إيّاها بالكفر مرّة وبالخروج عن الإسلام مرّة أخرى، وهكذا شغلت فكرة الخلافة حيّزا كبيرا من الكتب الإسلامية عند الفريقين، ولا زالت الأقلام تكتب والمؤلفات تنشر وكأنّ المسلمين بكل طبقاتهم لا يواجهون مشكلة في هذه الدّنيا المليئة بالأحداث والمكاره إلاّ مشكلة الخلافة فحس.
لكن الحيرة كل الحيرة هي الطريقة التي اتبعتها الشيعة في معالجتها لمشكلة الخلافة فهي تتناقض كل التناقض مع سيرة الإمام علي وسيرة أولاده من أئمة الشيعة ولذلك تتملكني الحيرة والدهشة عندما أرى أنّ شعار الشيعة هو حب الإمام علي وأولاده ولكنّهم يضربون عرض الحائط سيرة علي والأئمة من ولده.
وهذا أوّد أن أتحدّث مع الشيعة بلغتهم وفي نطاق معتقداتهم كي تكون حجّة عليهم ولذلك فلا بدّ من
القول أنّي أواجه أمرين متناقضين أحدهما التشيّع والآخر الشيعة. ومن هنا بدأت استنتج أن ذلك الصراع الذي حدث بين الشيعة والتشيّع بعد الغيبة الكبرى مباشرة هو السبب الأصلي لكل الانحرافات التي حدثت في الفكر الشيعي بعد الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا. ونحن نعتقد أنّ ذلك الانحراف سبب الشقاق بين الشيعة وسائر الفرق الإسلامية والذّي سنفصله في هذا الكتاب كلاّ في فصل خاص به.
فكرة الخلافة في عهد الرسّول صلى الله عليه وسلّم
إذا درسنا موضوع الخلافة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته بصورة مستفيضة لوصلنا إلى نتيجة مؤكّدة لا يختلف عليها اثنان. هي أنّ فكرة الأولوية والأفضليّة لخلافة النبيّ الكريم ظهرت بعد وفاته مباشرة، فهذا هو عباس بن عبد المطلب يخاطب الإمام عليّا: “أعطني يدك لأبايعكم حتّى يقول القوم عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله“. فيقول له الإمام: “وهل يطمع فيها طامع غيري ثم إنّني لا أريد أن أبايع من وراء رتاج“. واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينظروا في أمر الخلافة وقالت الأنصار للمهاجرين: “منّا أمير ومنكم أمير“. وكادت تحدث فتنة بين المجتمعين لولا أن الخليفة عمر بن الخطاب حسم الأمر وبايع أبا بكر. فبايعه المسلمون بعد ذلك. وترك سعد بن عبادة شيخ الخزرج الاجتماع غاضبا لأنه كان يرى نفسه أولى بالخلافة من غيره. وتخلف الإمام علي عن البيعة بعض الوقت إلاّ أنّه بايع الخليفة الجديد أبا بكر وهو راض عن البيعة مقبل عليها. غير أنّ فكرة الأولويّة كانت تراود نفس الإمام ومعه السيدة فاطمة الزهراء وبعض صحابة الإمام وبني هاشم حتّى إن الخليفة عمر ابن الخطّاب قال لابن عبّاس وهو يشير إلى علي: “أما والله إن كان صاحبك هذا أولى النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنّا خفناه على اثنين حداثة السنّ وحبه بني عبد المطّلب“.[شرح نهج البلاغة ج1/ص124]. ومرّة أخرى نستمع إلى الخليفة عمر بن الخطّاب وهو على فراش الموت يشير إلى الإمام علي ويقول: “والله لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء“.[شرح نهج البلاغة ج1/ص64]. ومن هنا يمكن القول أن فكرة التشيع لعلي بالمعني الذي اشرنا إليه ظهرت بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم واستمرّت حتّى القرن الثالث الهجري حيث كان التشيع يعني أنّ الإمام عليا أولى بالخلافة وأحقّ بها من غيره ولكن المسلمين نزولا لأوامر القرآن الكريم الذي يقول: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ( الشورى 27، ارتضوا أبا بكر خليفة والإمام ارتضاه كما ارتضاه غيره وبايعه كما بايعه غيره وهكذا كان موقفه مع الخليفتين عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفان فبايعهما وأخلص لهما في المشورة والرأي.
التشيّع في القرن الثاني الهجري:
منذ أوائل القرن الثاني للهجرة أخذت فكرة التشيّع تمثل مذهبا فقهيا هو مذهب أهل البيت وقد تجلّى هذا المذهب في زمن انبثقت فيه المذاهب الفقهية الكبيرة الإسلامية الأخرى كالمذهب المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، وتجلّت مدرسة أهل البيت في مدرسة الإمام الصادق الإمام السادس للشيعة الإمامية. وقد كانت الفكرة التي تساند مذهب أهل البيت هي الفكرة القائلة بأنه إذا كان الإمام علي أولى بالخلافة من غيره فأولاده ومن ثم حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق الذي كان يعتبر منافقه فقهاء عصره أجدر بان يتّبع في مسائل الدّين وشؤونه من غيره من الفقهاء. وهكذا ظهرت المدرسة الفقهية الجعفرية إلى الوجود في عهد الإمام الصادق الذي كان يلقي محاضراته ودروسه في الفقه وفي علوم أخرى على تلاميذه في المدينة المنورة آنذاك. ولابدّ من الإشارة إلى أن التشيّع لعي وأهل بيته بدأ يأخذ شكلا خطيرا بعد مقتل الإمام الحسين الذي أحدث رد فعل عنيفا في العالم الإسلامي وكانت نتيجته المباشرة حدوث ثورات متتاليات أدت إلى سقوط الدولة الأمويّة ومن بعدها المروانية وقيام الخلافة العباسية. وكما نعلم فقد حدثت ثورات متتاليات باسم التشيّع لعي وأهل بيته منها ثورة المختار وثورة مصعب ابن الزبير وثورة زيد بن علي بن الحسين التي انتهت إلى استشهاده واستشهاد صحبه، كما أنّ الثورة التيّ قطف ثمارها العباّسيون والتّي أطاحت بالخلافة الأموية في المشرق الإسلامي إلى الأبد قد بدأت باسم التشيع لأولاد علي وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو مسلم الخراساني كان يدعو لأهل البيت في إبان القيام بثورته ولكنّه انحاز إلى العباسيين في قصة معروفة جاء ذكرها في كتب التاريخ.
وكان أئمة الشيعة في عهد الخلفاء العباسيين يتمتعون باحترام عظيم لدى المسلمين كما أنّ فكرة الأولية والأحقية في خلافتهم كانت تراود كثيرا من الناس، فلولا الرأي العام الإسلامي بأحقيّة أهل البيت بالخلافة لما اختار المأمون العباسي الإمام علي الرضا وعليا للعهد. غير أن الرضا توفي في عهد المأمون واستمرت الخلافة في العباسيين. فإذا إنّ فكرة التشيّع لعليّ وأهل بيته والتّي كانت تظهر بمظاهر مختلفة في المجتمع الإسلامي آنذاك كان لها أنصارها المتحمسون. ونستنتج من كلّ هذه المقدّمات أنّ فكرة التشيع كانت موجودة في القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة. وهذه الفكرة كانت تنحصر ف النقاط التالية:
أولاّ: أنّ عليّا كان أولى بالخلافة من غيره ولكن المسلمين بايعوا الخلفاء الراشدين وعلي بايعهم ثم بايع المسلمون عليّا بعد عثمان فلا غبارا على شرعية خلافة الخلفاء الراشدين من أبي بكر إلى علي.
ثانيا: إظهار العداء للأمويين وذلك لموقف معاوية من علي ومقتل الإمام الحسين في فاجعة الطف وسب الخلفاء الأمويين عليا على المنابر زهاء خمسين عام إلى أن قام بالأمر عمر بن عبد العزيز الأموي فنهى عن سبّ الإمام.
ثالثا: الرجوع إلى أهل البيت في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية.
رابعا: أهل البيت ولا سيما الأئمة من أولاد الحسين أولى بالخلافة من الأمويين والعباسيين.
بداية الانحراف في الفكر الشيعي:
وبعد الإعلان الرسمي عن غيبة الإمام المهدي في عام 328 هجري، حدثت في التفكير الشيعي أمور غريبة ادّعوها بالصراع بين الشيعة والتشيّع أو عهد الانحراف. وكانت أولى هذه الأمور في الانحراف الفكري ظهور الآراء القائلة بأنّ الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في علي وبالنصّ الإلهي وأنّ الصحابة ما عدا نفرا قليلا منهم خالفوا النصّ الإلهي بانتخابهم أبا بكر. كما ظهرت في الوقت نفسه آراء أخرى تقول أن الإيمان بالإمامة مكمل للإسلام وحتّى أن بعض علماء الشيعة أضافوا الإمامة والعدل إلى أصول الدين الثلاثة التي هي التوحيد، النبوّة والمعاد وقال بعضهم بأنّها من أصول المذهب وليس من أصول الدّين، وظهرت روايات تنقل عن أئمة الشيعة فيها تجريحا بالنسبة للخلفاء الراشدين وبعض أزواج النبيّ.
ومن الجدير بالذكر أنّه حتّى في خلافة معاوية بن أبي سفيان وعندما كان يأمر بسب الإمام علي على المنابر وحتّى بعد مقتل الإمام الحسين وظهور الثورات الداعية إلى الأخذ بالثأر وفي العهود التي كان التشيّع يعصف بالخلافة الأمويّة ويقصم ظهرها ويمهد الطريق للخلافة العبّاسية م نجد أثرا لدى المتشيعين لعي وأهل بيته للآراء الغريبة التي ظهرت فجأة في المجتمع الإسلامي بعد الغيبة الكبرى. تلك الآراء التي ساهم بعض روّاة الشيعة وبعض علماء المذهب في بثها ونشرها وغرسها في عقول الساذجين من أبناء الشيعة بأنّ تعلن شيئا وتضمر شيئا آخر وذلك لحماية الآراء الحديثة التّي كانت بحاجة إلى الكتمان سواء لنشرها أو لحمايتها من السلطة الحاكمة. ولكي يكون لهذه الآراء الغريبة رصيد دينيّ لا يجوز التشكيك فيها نسبت رواة الشيعة تلك الروايات الغريبة إلى أئمة الشيعة ولا سيما إلى الإمام الباقر والصادق ولتثبيت صحّة تلك الروايات وعدم الخوض في مضامينها وقبولها لكما ذكرت فقد ظهر فكرة عصمة أئمة الشيعة في ذلك العهد لكي تكون رصيدا آخر يجعل من تلك الروايات الغريبة روايات مقدسّة لا تخضع للنقاش والجدل والبحث والنقض وقد أفردنا لتلك الآراء الغريبة الدخيلة والتي لها علاقة مباشرة بتكوين المذهب الشيعي فصولا خاصة سنناقشها فيما بعد في هذا الكتاب. أما الآن فلنعد إلى مبحث الإمامة والخلافة ليك نناقش المتغيّرات التّي أحدثها الرواة وعلماء المذهب فيها بعد الغيبة الكبرى.
إنّ المتتبع المنصف للروايات التي جاء بها روّاة الشيعة في الكتب التّي ألفوها بين القرن الرابع والخامس الهجري يصل إلى نتيجة محزنة جدّا وهي أنّ الجهد الذّي بذله بعض روّاة الشيعة في الإساءة إلى الإسلام لهو جهد يعادل السموات والأرض في ثقله ويخيل إلىّ أن أولئك لم يقصدوا من رواياتهم ترسيخ عقائد الشيعة في القلوب بل قصدوا منها الإساءة إلى الإسلام وكل ما يتصل بالإسلام وعندما نمعن النظر في الروايات التي رووها عن أئمة الشيعة وفي الأبحاث التي نشروها في الخلافة وفي تجريحهم لكل صحابة الرسول صلى الله عليه ولم ونسفهم لعصر الرسالة والمجتمع الإسلامي الذي كان يعيش في ظلّ النبوّة لكي يثبتوا أحقيّة علي وأهل بيته بالخلافة ويثبتوا علو شأنهم وعظيم مقامهم نرى أنّ هؤلاء الروّاة – سامحهم الله – أساؤوا للإمام علي وأهل بيته بصورة هي أشدّ وأنكى مما قالوه ورووه في الخلفاء والصحابة وهكذا تشويه كلّ شيء يتصل بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبعصره مبتدئا بأهل بيته ومنتهيا بالصحابة، وهنا تأخذنني القشعريرة وتمتلكني الحيرة وأتساءل: أليس هؤلاء الروّاة من الشيعة ومحدّثيها قد أخذوا على عاتقهم هدم الإسلام تحت غطاء حبهم لأهل البيت؟
وماذا تعني هذه الروايات الّتي نسبوها إلى أئمّة الشيعة وهم صناديد الإسلام وفقهاء أهل البيت؟
وماذا تعني هذه الروايات التي نسبوها إلى أئمة الشيعة وهي تتناقض مع سيرة الإمام علي وأولاده والأئمة وكثير منها يتناقض مع العقل المدرك والفطرة السليمة؟
وإنّني لا أشكّ أن بعضا من روّاة الشيعة ومحدّيثها ومن ورائهم بعض فقاء الشيعة قد أمعنوا في هذا التطاول على أئمة الشيعة وفي وضع روايات عنهم عندما أعلن رسميّا بحدوث الغيبة الكبرى. ونقل عن الإمام المهدي قوله: “من ادّعى رؤيتي بعد اليوم فكذّبوه” [سيرة الأئمة الاثنى عشر ج 2/ص570: هاشم الحسين]. وهكذا سدت الأبواب كلها للاتصال بالإمام وللسؤال عن صحة الروايات التي نسبت إليه وإلى أجداده الأئمة الطاهرين. وهكذا خلا الجو للمتربصين بالتشيع والإسلام مع فصفّروا ونقروا وكتبت أقلامهم ما شاءت وما ارتأت.
ولكي أكون واضحا أود أن أضع النقاط على الحروف وأبدا بالخلافة لكي نرى أن ما رووه في حق الخلفاء وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يصطدم اصطداما كبيرا بسيرة الإمام على وأهل بيته. ونرى بعد ذلك كيف أن هؤلاء الرواة وبعض علماء الشيعة لتعزيز آرائهم ولتفنيد مواقف الإمام الصريحة وأهل بيته التي تفند ما نسبوه إليهم ناقضوا مواقف الإمام علي والأئمة من بعده بصورة ملتوية ظاهرها مليح وباطنها قبيح لكي يثبتوا آرائهم حسب أهوائهم.
موقف الإمام علي من الخلافة
قلنا قبل قليل إنّ الشيّع كان يعني حب الإمام علي وأهل بيته وإعطائه حق الأولوية في الخلافة وإعطاء أولاده مثل هذا الحق من بعده ولا أعتقد أن هناك أحدا لا يعرف الأسباب الدافعة إلى هذا الاعتقاد فالإمام علي ترعرع ونشأ في بيت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا عن تلك النشأة بقوله:
“وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ويمسنّي جسده ويشمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل“[نهج البلاغة ج 2/ ص 157] ويستمر الإمام في بيان منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: “ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة. ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان ايس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى غلاّ أنّك لست بنبي ولكنك وزير وإنّك لعلى خير“.
ولنستمع إلى الإمام مرة أخرى وهو يقول: “ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله. وإنّ رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله صلى الله عليه وآله والملائكة أعواني فضجّت الدّار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمه فهم يصلّون عليه حتى واريناه في ضريحه فمن ذا أحقّ به منّى حيّا وميّتا. فأنفذوا على بصائركم“. [نهج البلاغة ج2/ص 172] وهذا هو الإمام علي يصف نفسه وموقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة أخرى في كتاب بعثه إلى واليه في البصرة عثمان بن حنيف جاء فيه: “وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد” كلّ هذا فالإمام هو زوج الزهراء وأبو الحسنين وبطل المسلمين ومن أعظم بناة الإسلام ودافع عن الرسول الكريم ورسالته بقلبه ولسانه ودمه وعرقه وهو بعد غلام لم يبلغ الحلم وقد شاء الله أن تكون شهادته حيث كان مولده فقد ولد على في بيت الله واستشهد في بيت الله.
وقد تكتمل الصورة المشرقة لعلي وجهاده وموقعه من قلب الإسلام عندما نعلم علم اليقين وحسب الأحاديث المتواترة الصحيحة التي رواها الشيعة والسنة على السواء في حبّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لعليّ وتقديره إيّاه. فالنبي زوّجه فاطمة الزهراء بأمر من السّماء ورفض أولئك الذين تقدموا لخطبتها بقوله: “إنّما أنتظر بها القضاء“. وعندما نزل القضاء تمّ ذلك الزواج الميمون بين علي وفاطمة.
وفي غزوة الخندق يصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عليّا بمجملتين تضاهيان كل الأحاديث التي رويت عنه في فضائل علي حقا إنّ كل حرف من تلك الكلمات الخالدات المشرقات يعتبر وساما نبويّا ينصبه محمد صلى الله عليه وسلم على صدر عليّ ابن أبي طالب أنه وسام أعطي الجهاد والإخلاص والإيمان بالله موقعه السرمدي في حياة الدهر وتخليد العظماء. والجملتان صدرتا عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ساعة أو أكثر منها بقليل، وذلك عندما ذهب علي ليلتقي بعدو الإسلام وبطل المشركين عمرو بن عبد ودّ “اللهم برز الإسلام كله إلى الشرك كله“. وعندما وقع عمروا صريعا بسيف علي قال صلى الله عليه وسلم: “ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين“[الحاكم في المستدرك ج3/ ص 32]. إنّ المتتبّع لحياة الرسول الكريم والإمام يصل إلى نتيجة أكيدة وهي أنّ الوشائج التي كانت تربط محمّدا صلى الله عليه وسلم بعليّ كانت أقوى بكثير من وشائج القربي، إنّها صلات روحية مترابطة متماسكة أصلها في السماء وفرعها في قلبي الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمه ولذلك لا نستغرب أبدا عندما نلمس في علي نفحات من نفحات النبي فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يدافع عن رسالته بكلمته الخالدة التّي قالها للمشركين: “والله لو وضعتم الشمس عن يمين والقمر عن يساري لأترك هذا الأمر ما فعلت“. وهذا هو علي يدافع عن إيمانه بالله ويقول: “فوالله لو أعطيت الأقاليم السبعة وما تحت أفلاكها أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“. وبعد كل ما ذكرناه ورويناه فقد يكون من الطبيعي أن يرى علىّ نفسه أولى بخلافة محمد صلى الله عليه وسلم من غيره. ومن الطبيعي أيضا أن تعتقد فئة من النّاس بذلك وتتحمّس لها أشدّ التحمّس، وتجد الفكرة لها مؤيدين وأنصارا كما أن من الطبيعية أيضا أن نقرأ في قلب محمّد صلى الله عليه وسلم ولسانه ما يدل على استخلاف علي بعد وفاته.
الإمام على يؤكّد شرعيّة بيعة الخلفاء:
ولكن هل يعني هذا، وهذا هو بيت القصيد وحجر الأساس في كل ما يتعلّق بالإمامة وشؤونها المتفرعة منها، أنّ هناك نصّا إلهيّا بتعيين علي لخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أنّها رغبة شخصية من رغبات رسول الله الخاصة؟ الإمام علي كان يقول لا نصل عليه من السماء وصحابة علي والذين عاصروه كانوا يعتقدون بذلك أيضا وقد استمر هذا الاعتقاد حتّى عصر الغيبة الكبرى وهو العصر الذي حدث فيه التغيير في عقائد الشيعة وقلبها رأسا على عقب. ومرّة أخرى نقول أن هناك فرقا كبيرا بين أن يعتقد الإمام علي والذين كانوا معه أنّه أولى بخلافة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من غيره ولكن المسلمين اختاروا غيره وبين أن يعتقد أن الخلافة حقه الإلهي ولكنّها اغتصبت منه. والآن نستمع إلى الإمام علي وهو يحدثنا عن هذا الأمر بكل وضوح وصراحة ويؤكد شرعية انتخاب الخلفاء وعدم وجود نصّ سماويّ في أمر الخلافة.
“انّه بايعني القوم الذّين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علي ما بايعوهم عليه. فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد. وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار. فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى. فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين“[نهج البلاغة 3/ص7]
وقبل أن أتحدّث عن موقف الإمام علي بالنسبة للخلفاء الذّّين سبقوه وقبل أن نسهب في هذا الأمر ونستشهد بأقوال أخرى للإمام حيث أنّ لهذا الموقف أهميته القصوى في كشف الحقيقة وإنارة الواقع لابد من التفصيل حول رغبات النبي الشخصيّة وذلك الجانب السماويّ الذي كان يصدع به بأمر من الله وبوحي منه.
الفصل بين الأوامر الإلهيّة ورغبات النبيّ الشخصيّة:
إنّ فصل هذين الجانبين في الشخصيّة المحمّدية صلى الله عليه وسلم يساهم مساهمة كبيرة في إعطاء صورة واضحة عن الجانب الإلهي والشخصيّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا علمنا أن النبيّ الكريم كان يحاول جاهدا التفريق بين الجانب الإلهي في أقواله وما يصدر عنه من أقوال وأعمال لا صلة لها بالسماء لعرفنا عظمة النبي وعظمة نفسه الكريمة . فالقرآن الكريم عندما يتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات البيّنات: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى @ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)[النجم 3،4،5ِ] لاشكّ أنّه يقصد بذلك أنّه صلى الله عليه وسلم عندما يقرأ القرآن ويبلغ المسلمين بالآيات الإلهية وبالأحكام المنزّلة عليهم إنّما ينطق بالوحي وبكلام الله المنزّل على قلبه. وهذا هو شرط الإيمان بالإسلام وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن المنزّل عليه.
ولكن القرآن الكريم حتى يبين الفرق الأساسي بين ما هو رغبة من رغبات النبيّ الخاصّة وما هو أمر إلهيّ قد حسم الموقف بصورة واضحة وصريحة في آيات العتاب وفي آيات النهي عن أمور كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرغب الإتيان بها ولنقرأ معا هذه الآيات البيّنات:
1- ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67].
2- ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت﴾ [الكهف: 24].
3- ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى @ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَ﴾ [الأعلى: 6،7].
4- ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ [آل عمران: 176].
5- ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: 88].
6- ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: 68].
7- ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 46].
8- ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113].
9- ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 38].
10- ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التحريم: 1].
11- ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى @ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى @ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى @ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى @ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى @ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى @ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى @ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى @ وَهُوَ يَخْشَى @ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى @ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ [عبس:1-11].
12- ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 110].
13- ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30].
إنّ من يتدبّر هذه الآيات البيّنات سيعلم علم اليقين أنّ القرآن الكريم يؤكّد تأكيدا قاطعا على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكن ملكا ولا عنصرا سماويا ولا موجودا خارج نطاق الكون وطبائعه. إنّما هو بشر مثل سائر البشر كان يأكل وينام ويصحّ ويمرض ويحبّ ويكره ويتزوّج وينجب الأطفال حسب الناموس الطبيعي ويكره ويتزوّج وينجب الأطفال حسب النّاموس الطبيعي للكون فيسري عليه من التفاعلي الطبيعي كلّ ما هو يسري على سائر أفراد البشر. ومن الواضح جدّا أنّ التأكيد على هذا الجانب في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما كان ليثبت للنّاس أنّ كل ما يصدر من النبيّ لا يعني أنه وحي أو كلام إلهي أو أمر سماوي. أمّا الناحية الإلهية في وجود النبيّ وهي الاتصال بالمبدأ الأعلى فكان يؤكّدها شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما كان ينزل عليه الوحي ويطلب من كتبة الوحي أني يدوّنوا قول الله تعالى. ويبدو واضحا للمتتبع لأخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما قلنا قبل قليل أنه كان يسعى جاهدا لتأكيد الفصل بين الجانب السماوي والأرضي في شخصه وهذه كانت من أكبر السمات الدالة على قوة النبي النفسيّة وصدقه في الرسالة وإخلاصه لربّه وعظمة شخصيته. وهي خصال لا تضاهيها خصال أيّ رسول من رسل السماء وأيّ عظيم من عظماء الأرض، فهذا الدور البارز العظيم الذي كان يؤديه ليظهر بالمظهر الذي خصّه به ربه وبالصفات التي وصفه بها إلهه (فهو بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) ولكنه بشير ونذير أرسله الله للعالمين. فعندما كان تنزل عليه آيات العتاب كان يقرأها على النّاس من موقع الأمين القوي وعندما كانت تنزل عليه آيات الثناء كان يقرأها من موقع العبد المطيع. فلم ير النبي في نفسه انتقاصا عندما تلى على المسلمين آيات العتاب التي نزلت عليه كما لم يظهر عليه الخيلاء والتكبر عندما تلى آيات الثناء التي أنزلها الله على قلبه.
وهكذا كانت آيات العتاب والتحذير تعطي للرّسول صلى الله عليه وسلم قوّة لا تقلّ عن قوّة آيات المدح والثناء فلا غرو أنّه صلى الله عليه وسلم تلقّى من ربّه كلمات لم تنزل قطّ على من سبقوه من أولي العزم من الرّسل ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾ [القلم: 4] ولم يقتصر دور الرسول البارز في فصل موقعه السماوي من البشري إلى هذا الحدّ فحسب بل تجاوزه إلى ابعد ما يمكن للمرء أن يتصوّره. فعندما هابه رجل من الأعراب التقى به قال له صلى الله عليه وسلم “هوّن عليك إنّما أنا ابن امرأة كانت تأكل القدّيد” وهذه العظمة الروحية في نكران الذّات تتجاوز آفاق الأرض والسماء وتتجلّى في أعظم مظاهرها عندما كسفت الشمس في يوم وفاة ابنه إبراهيم فقال للنّاس: “انكسفت الشمس لوفاة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلّم” وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله القوم فصعد المنبر وخاطب المسلمين بقوله: “إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد وإنّما مات إبراهيم بقضاء وقدر من الله” وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عن نفسه مظاهر القدسيّة وهالاتها ليثبت عبوديّته لله وأنّه بشر لا يملك لنفسه نفعا ولا ضررا. ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ [يونس: 49] ويزيد النبي في العبودية والعبادة حتّى أنزل الله عليه قوله ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى﴾ [طه:1-2]
الحريّة الفكريّة والاجتماعية في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلّم
لكن الوجه الآخر المكمّل لهذه السيرة النبوية يتجلّى في شيء آخر هو الحريّة الفكريّة والاجتماعيّة التي منحها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وللمسلمين. حقّا إنّ المرء ليطأطئ رأسه خضوعا وخشوعا لعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يتابع عصر الرسالة وما فيها من الحريّات الفكريّة والاجتماعية التي منحها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وللمسلمين وهذا هو الجانب المكمل للطريقة التي كان يتبعها الرسول الكريم للفصل بين شخصيّته كرسول الله وكمحمد بن عبد الله. ولو أنّ المتتبعين والمحققين للتاريخ درسوا هذه الناحية في عصر الرسالة وهذا الجانب من سياسة النبيّ الاجتماعية لسهل عليهم فهم كثير من الغوامض التاريخية المتعلقة بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبعد عن المجتمع الكثير من الخلافات الفكريّة والمذهبيّة بين المسلمين التّي انتهت إلى إراقة الدماء تارة وإلى الشتم والتنابز بالألقاب تارة أخرى.
لقد منح الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته والمسلمين من الحرية الفكريّة والاجتماعية والمساواة منذ إبّان دعوته وعند انتشارها وحتّى آخر يوم من حياته ما لم نجده في أي عصر أخر ولدى أي أمّة أخرى ولم نجده في أيّ عصر آخر ولدى أيّة أمّة أخرى ولم نجده حتّى في عصرنا هذا لدى أرقى الأمم ديمقراطيّة وحريّة ولا أعتقد أنّه يوجد في تاريخ الديمقراطيّة والمساواة قديما وحديثا لزعيم قوم ومؤسس أمّة وقائد فكر يجلس مع صحابته في صورة دائريّة لكي لا يكون لمجلسه الصدر والذيل ويكون كلّ فرد في ذلك المجلس متساويا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسته حتّى إنّ الأعرابي عندما كان يدخل إلى مجلس الرسول فلا يميّزه بين الصحابة ،كان يسال: من هو محمد؟ فكان الصحابة يشيرون إليه صلى الله عليه وسلم.
ويكفي لذلك العصر فخرا وجلالا أنّ بروتوكولات الديمقراطية في عصر الفضاء قلّدت فكرة المائدة المستديرة لاجتماع الملوك والرؤساء من مجلس الرسول العربي.
والنبيّ إذا صافح رجلا كان يمسك بيد الرجل حتّى يرسلها صاحبها احتراما منه لذلك الرجل. وكان صلى الله عليه وسلم كما وصفه علي بن أبي طالب يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويردف خلفه. ولعل هذه الديمقراطية والحريّة تجلّت في أكبر صورها عندما كان الكثير من الناس يستغلونها ويخرجون عن حدود الأدب وطوره بالنسبة للقائد الإلهي. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحتمل ذلك بصبر وأناة وابتسامة حتى إن نزل أمر الله على المسلمين معاتبا إيّاهم في ذلك. ولكن حتّى الآيات الإلهية لم تنه نهيا قاطعا عن كيفية تعامل الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل ألفى الملامة عليهم ووصفهم بالجهل. أو وضعت ضريبة غير ملزمة على أولئك الذين يخرجون عن الاحترام اللائق بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله لم يحرم شيئا من ذلك ولنقرأ معا هذه الآيات البيّنات:
1 – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[الحجرات 2-5].
2- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المجادلة: 13].
وأعتقد أن من الضرورة بمكان أن أثبت في هذا الفصل حادثة أخرى وقعت في حياة النبي الكريم وكانت لها صلة مباشرة بزوجته السيدة عائشة أم المؤمنين ألا وهي قصّة الإفك.
إنّ المتتّبع لقصة الإفك تتضح أمامه صورة كاملة للحريّة التامة التي كان المسلمون يتمتّعون بها في الفكر والتعبير والكلام، فكلّ من يقرأ تاريخ تلك الحقبة يعلم علم اليقين أن إشاعة الإفك عندما انتشرت في المدينة وأصبحت حديث النّاس في مجالسهم ونواديهم وكانت تلك الأخبار المحزنة تصل إلى سمع رسول الله ولم يصدر منه صلى الله عليه وسلم ما يوحي بالغضب على صحابته أو أهل المدينة. ولا شكّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم زيف التهمة الموجهة إلى أمّ المؤمنين وهي أعزّ أزواجه بعد السيدّة خديجة الكبرى ، وابنة صاحبه في الغار ومن أقرب الصحابة إليه ولكنّه أراد أن لا يستعمل صلاحية القائد أو يحد من صلاحية الأمة في التعبير عن الكلام. فالتاريخ لا يشير قطّ إلى أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من أصحابه أن يكفوا عن حديث الإفك أو أنّه اعترض أصحابه أن يكفوا عن حديث الإفك أو أنّه اعترض عليهم في القول أو صدر منه ما يشعر المسلمين بأنّه غاضب عليهم لما يقال في همس وعلن في أمّ المؤمنين، أو أنّه أجرى تحقيقا مع المشتبه بأمرهم في إشاعة الإفك وكان للنبيّ في المدينة أعداء ألدّاء تتجسّد في الجالية اليهودية ومن المنافقين والمتربّصين به وبكل ما يحيط به. فلم يتخذ النبيّ وجود الأعداء بين ظهور المسلمين ذريعة ليطلب من أهل المدينة الكفّ عن حديث الإفك حتّى يهونوا عليه ولا يثخنوا في الجراح بل بالعكس من كلّ هذا عالج الإفك بالصبر حتى أنّه صلى الله عليه وسلّم شاور علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة وبعض الصحابة في الطريقة التي ينبغي عليه أن يعالج ذلك الأمر ولكن ليس مع الأفّاكين بل مع أمّ المؤمنين.
ومع أنّ الوطأة كانت شديدة على السيّدة عائشة وعلى أبيها وأسرتها، فهزلت ومرضت ولزمت الفراش وكان هذا اللفظ الاجتماعي الغريب يعصر قلبها كلما تصوّرت ما يقول عنها الأفّاكون، إلاّ أن كل ذلك لم يغير من سياسة النبي العظيم في الحدّ من إطلاق الحريّات الاجتماعية أو حضّ الناس على السكوت وعدم الخوض في ما يدور في مجالس المدينة ونواديها وهنا ظهرت المشيئة الإلهية وإرادته البالغة فوضعت حدّا سماويّا للأحاديث الجارحة والاتهامات الباطلة التي ينسبها البعض إلى البعض بلا دليل أو شاهد أو بيّنة فأنزل الله على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ )[النور:10]. وهكذا برّأ الرحمن ساحة السيّدة عائشة ووضع سبحانه وتعالى حدّا للحريّات الكلامية الجارحة التّي فيها إساءة للنّاس وحط من كرامتهم.
وهنا نريد أن نستنتج شيئا أهمّ من هذه الحادثة وهو أنّ المجتمع الذّي يصل فيه التعبير عن الرأي وحريّة الكلام سواء أكان ذلك صحيحا أو سقيما إلى هذه المرحلة بحيث لا يرعى فيه حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذّي أنقذهم من الضلال والهلاك وهداهم إلى خير الدنيا والآخرة وخير البركات حتّى إن نزلت آيات التأديب بحق النّاس في ذلك المجتمع.
هل يمكن للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يحمل مجتمعا مثل هذا على أمر وهو مكره عليه إلاّ إذا كان ذلك الأمر من الله وبنصّ من كتابه. فحينئذ كانت الحريّات الفكريّة والاجتماعية كلها تتبخر أمام الأوامر الإلهية ويصبح الفرد والمجتمع أمام أوامر الله ونواهيه عبادا مطيعين منقادين لا يسعهم إلاّ الامتثال لأمره والعزوف عن نواهيه.
لقد كان باستطاعة النبيّ الكريم أن يخلق مجتمعا من المسلمين يطيع إرادته الشخصيّة لا يحيد عنها إذا أمرهم بها. ولكن مثل هذا الأمر كان مناقضا للرسالة التي جاء لأجلها ألا وهي إلغاء العبوديّات والتقاليد المتعلقة بها ما عدا عبادة الله الواحد الأحد. وكما نعلم فإنّ الإسلام قد جاء ومحمدا قد بعث للقضاء على كل الرواسب والأفكار الجاهليّة التي كانت أهمّ مظاهرها عبادة الفرد للفرد وإطاعة الفرد للفرد. وهكذا أخرج الإسلام الناس من ظلمات العبودية الفكرية والجسديّة إلى حيث النّور والحريّة. ولذلك كان المجتمع الإسلامي الفتيّ يرى في الدّين الجديد كل مقوّمات الحياة وكرامة الفرد والإنسان. إنّها الرسالة السماويّة التي جعلت من ذلك المجتمع الطبقي المؤلّف من السادة والعبيد مجتمعا موحّدا يتألّف من أناس كلهم سواسيّة أمام الله لا فضل لعربيّ على عجمي إلاّ بالتقوى. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم )[الحجرات: 13] وكان من نتائج الخروج من عبودية الأصنام والآلهة المتفرقة والتخلص من سادة قريش والدخول في عبادة الله الواحد الأحد تلك الحريّة التّي أنعمها الله على المسلمين والتي بفضلها بدأ المجتمع الإسلامي الجديد ينعم بحريّة الرأي والتعبير والفكر ما دام لم يكن في تلك الحريّة غضب الله وسخطه. وعندما أراد المجتمع الإسلامي ذلك أن يتجاوز القيود المفروضة عليه في التعبير عن الرأي لم يمنعهم الرسول صلى الله عليه وسلّم من ذلك حتّى لا يعيد إلى أذهانهم دور الإطاعة لسادة القوم والكبراء بل انتظر في ذلك أمر السماء ونزول الوحي وجاء الأمر الإلهي يقيد المسلمين بالالتزام بالأخلاق الفاضلة وبعد إشاعة الفحشاء في الذين آمنوا: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ)[النور: 18] كما أمرهم بالالتزام بحرمة المسلمين وعدم الإساءة إليهم بالكلام الجارح والسبّ والقذع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )[الحجرات: 11-12] وهكذا تظهر عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل قداستها وجلالها حيث لا يريد لأمّته ومجتمعه إلاّ ما يريده الله لهم.
وهنا أعود لموضوع الخلافة وأقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يدافع عن زوجته في أخطر اتهام وجهته إليها عصبة جاءت بالإفك وهو يعلم أنّها بريئة منه كل البراءة حتّى لا يعيد النّاس إلى دور الجاهلية وإطاعة السادة والكبراء بدون ضابط ومبرّر. فلم يكن من المعقول أن يرغم أمّته على قبول خليفة هو يرتضيه لهم إذا لم يكن في ذلك أمر إلهي وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب رغبة شخصية أن يكون علي خليفة من بعده كما تدل عل ذلك الأحاديث التي رواها الفريقان بأسانيدهما الصحيحة لكنه لم يرغم أمّته على قبول ذلك الخليفة بنفس الطريقة التي لم يرغم الناس فيها على أن يكفوا عن حديث الإفك في أعزّ أزواجه ولم يرغمهم في الكفّ عن معاملته بصورة لا تليق برسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته أو يتناجون بين يديه إلى أن نزلت الآيات الكريمات التي أمرت النّاس بالتأدّب والاحترام للنبيّ الذّي أطلق للنّاس حريّة أستغلها البعض استغلالا غير حسن وكريم.
ومرّة أخرى نلقى نظرة فاحصة على عهد الرسول الكريم والحريّة التي كان المجتمع الإسلامي الفتيّ ينعم بها إلى درجة تجاوزت الحدود ووصلت إلى مرحلة خطيرة أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّها كانت خروجا على التقاليد المرعيّة والمتبعّة في إطاعة القائد الأعلى أثناء القتال. فقد أجمع أرباب السّير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا مرض مرض الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال له: “سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش وإن ظفرك الله بالعدوّ فاقلل اللبث وبث العيون وقدم الطلائع” فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا كان في ذلك الجيش، منهم أبو بكر وعمر فتكلم قوم قالوا: “يستعمل هذا الغلام على جلّة من المهاجرين والأنصار” فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع ذلك وخرج عاصبا رأسه فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال: “يا أيّها النّاس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة. لئن طعنتم في تأمير أسامة فقد طعنتم في تأميري إياه من قبل. وأيّم الله إنّه كان خليقا بالإمارة وابنه من بعده لخليق بها. وإنهما لمن أحب النّاس إليّ فاستوصوا به خيرا فإنّه من خياركم” وهكذا نرى بوضوح أن قلب رسول الله صلى الله عليه وآله كان اكبر من أن يأمر بمعاقبة قوم طعنوا في القيادة التي اختارها لجيشه وتجاوزوا على صلاحيّات القائد الأعلى الذّي هو في الوقت نفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤسّس أمّة وباني مجد وقائد عسكري عظيم حيث يصفه الإمام علي بقولة : “كنّا إذا احمرّ البأس اتقيّنا برسول الله فلم يكن منّا أقرب إلى العدوّ منه“. مثل هذا الرسول العظيم وأمام هذه البادرة الخطيرة لم يزجر ولم يهدّد ولم يتّهم بالفسق أو الخروج عن الإسلام أحدا من الذّين طعنوا في إمارة أسامة وكل ما قاله في آخر عتابه: “واستوصوا به خيرا فإنّه من خياركم“. كلّ هذا حتّى يثبت للمسلمين أنّ اختياره لأسامة لم يكن بأمر من الله ولا علاقة لهذا الاختيار بالسماء والوحي بل إنه اختيار شخصي ينبع من كفاءة أسامة وحبه له لقيادة جيش المسلمين. وإنّ غضبه صلى الله عليه وآله للمقالة التّي قالوها لا يحملهم مسؤولية أخرويّة أو عذابا إلهيّا. ولذلك كان وراء اختياره للقائد الشاب وطلب من المسلمين أن يسيروا وراءه.
ونذكر هنا رواية رواها ابن عبّاس عن الخليفة عمر صريحة كل الصراحة في موقف الصحابة نحو الرغبات الشخصيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأوامر الإلهيّة التّي كان يصدع بها. فقد روى ابن عبّاس قال: “خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته فانفرد يوم يسير على بعير فاتبعته” فقال: “يا ابن عبّاس أشكو إليك غبن عمّك سألته أن يخرج معي فلم يقبل. ولم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته؟” فقلت: “يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم” قال: “أظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة” قلت: “هو ذاك إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له” فقال: “يا ابن عبّاس وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك أن رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسول الله. أوكلّ ما أراد رسول الله كان؟ إنّه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم” [شرح نهج البلاغة،ابن أبي الحديد 3/ ص 114].
1989-06-10