العدد 42 -

السنة الرابعة – ربيع الأول 1411هـ، تشرين الأول 1990م

قمة هلسنكي

عقدت قمة هلسنكي بين بوش وغورباتشوف في التاسع من أيلول بدعوة مفاجئة من بوش، وقد جاءت الدعوة لعقد هذه القمة بعد أن استصدرت أميركا من مجلس الأمن عدة قرارات شديدة وقاسية ضد العراق، وبعد أن نشرت في السعودية ومنطقة الخليج جيشاً جراراً من القوات البحرية والجوية والبرية المزودة بأحدث الأسلحة، وأكثرها دماراً، بما يشبه الاحتلال العسكري.

وقد أوهمت أميركا العالم بأنها ستستعمل القوة العسكرية ضد العراق فور استكمال نشر قواتها، إذا لم ينسحب العراق من الكويت استجابة كاملة، وغير مشروطة لقرارات مجلس الأمن، وقد سهل لها هذا الإيهام استصدار القرارات القاسية من مجلس الأمن، ومن نشر قواتها في الخليج بما يشبه الاحتلال، على أمل أن تنجح في أخذ الخليج، بل وفي دفع دول الخليج لتمويل احتلال القوات الأميركية لها.

غير أن العراق لم ينسحب من الكويت، ولم يستجب لا لتهديدات أميركا، ولا لحشودها العسكرية، ولا لقرارات مجلس الأمن، ولا للحصار الشديد الذي ضرب عليه. وعوضاً عن ذلك أعلن أن الكويت قد أصبحت إحدى محافظات العراق.

لذلك كان من الطبيعي أن يتوقع العالم من أميركا بعد أن استكملت احتلال منطقة الخليج أن تضغط على الزناد فتشعل الحرب مع العراق، وازداد الضغوط عليها لاستخدام الخيار العسكري، لأن الوسائل السلمية لا يمكن أن تجدي مع العراق، وأخذ عملاؤها في المنطقة يناشدون العراق تجنيب المنطقة ويلات حرب مدمرة وشيكة.

إن هذا الوهم الذي أوجدته أميركا لدى العالم وضعها في مأزق، بعد أن استكملت استعداداتها العسكرية من غير أن تستعمل القوة العسكرية ضد العراق، بالرغم من عدم انسحابه من الكويت، ومن عدم استجابته لقرارات مجلس الأمن مما يستدعي إيجاد حلّ.

وكان يمكن لأميركا أن تخرج من المأزق بدفع مجلس الأمن إلى إصدار قرار يمنع الأعمال العسكرية، أو بالدعوة لمؤتمر للدول الكبرى يدفع بالأزمة نحو الانفراج، إلا أن أعمال كهذه غير مأمونة العواقب، لأنها تمكن بعض الأطراف من أن تدفع بالأزمة إلى اتجاهات أخرى، أو أن تضع على جدول الأعمال بنود أخرى لا ترغب أميركا في بحثها، كما أن أعمالاً كهذه لا تتناسب مع دور أميركا العالمي.

لذلك رأت أميركا حلاً لمأزقها أن تدو إلى عقد قمة ثنائية بين بوش وغورباتشوف تخرج إلى العالم باستبعاد استعمال الخيارات العسكرية، وباعتماد الحلول السلمية للأزمة عوضاً عن ذلك، ولإفساح المجال لمزيد من المساعي السياسية، ولتمديد الوقت أمام إجراءات الحصار الصارمة على العراق لإرغامه على تنفيذ قرارات مجلس الأمن، وانسحابه من الكويت دون قيد أو شرط.

لقد كان هذا هو الهدف الحقيقي لبوش من دعوته لعقد هلسنكي. وقد عبر غورباتشوف عن ذلك في المؤتمر الصحفي بقوله: «إن جوهر الإعلان المشترك هو أن زعيمي القوتين العظميين اتفقا على العمل معاً، وفي طريق متوازية لإيجاد سبل سلمية لحل هذه المشكلة» ثم أردف قائلاً: «إن الإعلان يقدم أساساً للعمل السياسي».

وبناء على ذلك ستزداد المساعي السياسية لحل الأزمة بالطرق السلمية وستتخذ تلك المساعي أشكالاً وأساليب مختلفة، وسيكشف الاتحاد السوفياتي اتصالاته السياسية بالعراق، ودلو عربية أخرى بغية إنهاء المشكلة سلمياً، كما سيعمل على تحريك الدول العربية لتقوم بمزيد من التحركات السياسية ليأخذ الحل شكل الوجه العربي.

إن هذه الأزمة أثبتت بالواقع العملي تفرد أميركا في الموقف الدولي، وفي رسم سياسة العالم، وبعد أن انتهت الحرب الباردة، وبعد أن انصرف الاتحاد السوفياتي إلى حل مشاكله الداخلية.

وقد استطاع بوش أن يجر العالم، بما في الاتحاد السوفياتي إلى السير معه لتنفيذ الهدف الذي سعى إليه في هذه الأزمة، كما استطاع تسخير مجلس الأمن لاتخاذ أقسى القرارات وأشدها لتسهل له تحقيق ذلك الهدف. وقد استطاع أن ينشر قوات أميركا الضخمة بهذا الشكل الكثيف دون قرار من مجلس الأمن، ودون أي اعتراض من الاتحاد السوفياتي، أو غيرها من الدول. ولو حصل هذا الانتشار العسكري الأميركي قبل انتهاء الحرب الباردة لحصلت أزمة كبيرة، ولما تمكن بوش من تسخير مجلس الأمن ليتخذ مثل هذه القرارات الشديدة التي اتخذها ضد العراق.

ويعمل بوش على أن تقود أميركا العالم بنظام دولي جديد «سلمي ومستقر وآمن» وفي المقاييس الأميركية، تتعاون فيها سائر الدول بما فيها الاتحاد السوفياتي مع أميركا. وبقيادتها¨

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *