العدد 46 -

السنة الرابعة – رجب 1411هـ، شباط 1991م

آثاريون غربيون أعادوا تركيب تاريخ فلسطين بهدف إيجاد موطئ قدم للملكة اليهودية القديمة

بقلم: محمد أسعد (باحث آثار)

لا يعرف إلا قلة من الناس أن المتداول والشائع عن علاقة الأحداث التوارتية بفلسطين لا يقوم إلا على أربعة نصوص ضئيلة الأهمية أعاد تركيبها وأنتجها باحثون توراتيون مشبعون بفكرة مسبقة عن فلسطين كأرض للتوراة، وذلك لدعم الأسطورة الصهيونية.

والنصوص الأربعة هذه لا يصمد تركيبها وتفسيرها أمام النقد اللغوي والتاريخي. فأحدها ـ وهو الحجر الذي أعاد إنتاجه الباحث الأميركي اولبرايت يتألف معظمه من تخمينات هذا الباحث وليس من النص الأصلي. وكذلك الأمر مع ما يسمى بحجر «مؤاب» الذي أعيدت قراءته فإذا هو لا يتعلق بفلسطين من قريب أو بعيد.

وليس الأمر غريباً، فالحقيقة أن تاريخ البحث الأثري الذي باشره الغربيون منذ القرن الخامس عر الميلادي في الشرق العربي قد تلبسته أساطير وتفسيرات تبدو الآن مضحكة أو سخيفة. والسبب الذي جعل الأمر كذلك هو أن الباحث أو الرحالة كان يشاهد ما يشاهد ويقرأ ما يقرأه بفكرة مسبقة هي أن هذا الشرق هو «شرق التوراة»، وبالتالي لا بد أن يشير كل حجر فيه وكل نقش إلى التوراة.

ولكن هذا البحث ما لبث أن تخلص شيئاً فشيئاً من التفسيرات المسبقة مع تقدم العلوم وتحسن أدوات الاستكشاف وأحكام اللغات وفك رموز الطلاسم القديمة، فظهرت على خارطة المنطقة شعوب وحضارات ذات شواهد لا سبيل إلى دفعها، وبدأت تتلاشى الافتراضات المسبقة.

وما أصاب علم الآثار الفلسطيني هو جزء مما أصاب علوم الآثار الأخرى في الشرق، ولعل حظه من الأخطاء وسوء التفسير كان الأكبر، وذلك للاعتقاد الراسخ بأن فلسطين بجغرافيتها الراهنة هي ارض التوراة. فمنذ وقت مبكر جاء الألمان والهولنديون والسويسريون والإيطاليون والفرنسيون إلى فلسطين، تلاهم الإنكليز وأخيراً الأميركيون. وبين ثمانينات القرن الخامس عشر ومنتصف القرن التاسع عشر ظل الرحالة وعلماء الدين والمغامرون يتوافدون على فلسطين ويكتبون في وصفها ملاحظات شتى تتوزع بين الوصف السكاني والطبيعة والجغرافية ودراسة الرسوم المعمارية والأماكن الدينية ونشر الخرائط والرسوم. واكتشف يوهان لودفيخ البتراء في منتصف القرن التاسع عشر، وتجول إدوارد روبنسون الأميركي في فلسطين محاولاً تسجيل المواقع التي لا يعتقد أن التوراة تشير إليها.

ونقب دوساوني مبكراً في عدد من المواقع في العام 1850. وما أن جاء ستينات القرن التاسع عشر حتى بدأ تأسيس الصناديق والجمعيات البريطانية والأميركية لتنظيم وتمويل عمليات التنقيب والبحث. وكان الهدف الذي تجمع حوله هذا الجهد هو إثبات صحة ما ورد في التوراة، وبدأت تسمية المواقع الفلسطينية بأسماء توراتية، ورسمت الخرائط، وعينت المواقع. ولكن التنقيبات التي بدأت جدياً في هذه المواقع التي أعطوها أسماء توراتية لم تظهر إلا وجود آخر هو وجود الشعب الكنعاني.

وحتى الآن، وعلى رغم انتفاء أي دليل جدي على وجود شيء ينتمي لليهود القدماء في فلسطين من حيث هم كيان سياسي أو حضاري، ومع تتابع الأدلة على أن جغرافية هذه الأرض لم تشهد أحداثاً ولا أماكن من النوع الذي يفترضه الباحثون التوراتيون الذين انغمروا في البحث الأثري وسرقة الآثار الفلسطينية الكنعانية، فإن الشائع ما زال شائعاً والرائج ما زال رائجاً حتى في الأوساط العربية. ولعل أطرف ما يمكن ذكره في هذا المجال هو تلك الأحداث التي يرويها بعض الفلسطينيين بدهشة وسذاجة فلاحيتين حين تضع أمامهم حقائق علم الآثار فيقول لك أحدهم. «في سنة كذا وكذا، وبعد احتلال فلسطين الشرقية جاء إلى قريتنا جملة من علمائهم وسألونا عن أماكن لا نعرفها. ولكنهم سرعان ما استدلوا عليها… رغم أنها أماكن يجهلها أهل القرية نفسها. وإذن كيف عرفوا مكانها إن لم تكن مذكورة في التوراة؟».

وينسى هذا البعض مسألتين بالطبع: الأولى هي القرون الخمسة الماضية التي مسحت فيها أرض فلسطين مسحاً، ورسمت لها الخرائط وعليها المواقع الأثرية وقد أطلقت عليها تسميات توراتية. والثانية هي أن التقنيات الأثرية في فلسطين في العام 1952 أكدت عدم وجود آثار ترجع إلى اليهود القدماء في الدور الأول من العصر الحديدي.

هناك آثار بالطبع، وهناك معرفة غربية بهذه الآثار نتيجة الجهود النشطة طوال القرون الخمسة الماضية، ولكن هذا لا يثبت هوية هذه الآثار التي يفترضها البعض للتدليل على علاقة لليهود بفلسطين أولاً، وعلى علاقتهم هم القادمون من شتى البقاع والقوميات بهؤلاء اليهود ثانياً. وبالطبع حتى لو كان ثمة ما هو أثر يهودي قديم يعود إلى أزمان التوراة الخيالية، فليس هنالك من علاقة بين هذا وبين هؤلاء الذين وفدوا من كل أنحاء العالم سواء كانوا من معتنقي الديانة اليهودية أو غيرها. ولكن حتى هذا المستند الهش غير موجود.

لقد بحث ونقب في فلسطين باحثون من اتجاهات متنوعة، ولم يحدث أن بدأ التحذير من أخطاء الربط بين نتائج التنقيبات الأثرية والأحداث التوراتية إلا حديثاً، ومع ظهور أبحاث الآثارية البريطانية كاثلين كينون وتلميذها هنريكوس فرانكلين وقلة من العلماء. فقد رفض فرانكلين أسلوب البحث التوراتي وتفسيراته للشواهد والوثائق المكتشفة. ومع تقدم العلوم الطبيعية وتطبيقاتها في البحث الأثري، بدأ هذا البحث يخرج عن أساطير أولبرايت وماك والستر، هذا إذا لم ننس اليعازر سوكنيك وابنه الجنرال ييغال يادين ونيلسون كلوك وليون ماير وبقية الآثاريين اليهود.

أكدت كينون خلال تنقيباتها في القدس (61 ـ 1967) أنه لا توجد آثار معمارية يمكن نسبتها إلى داوود وسليمان، وأن البرج والجزء من السور اللذين أرجعهما ماك الستر في مطلع القرن العشرين إلى داوود إنما يعودان إلى الفترة الهيلينية. أما ما عرف باسم «اصطبلات سليمان» في مَجِدّو فقد ثبت أنها ليست اصطبلات، ولا تعود إلى زمن سليمان ناهيك عن علاقته بها.

والواقع أن أبحاث كينون البريطانية وحدها يمكن أن تختصرها هذه العبارة: «أن علم الآثار لا يستطيع دعم روايات التوراة فيما يتعلق بفلسطين، ولكن لا بأس بسرد هذه الروايات لاستكمال الجزء المفقود…».

وهكذا، حتى هذه الباحثة لم يستطع إلا إعطاء الافتراضات حيزاً تقرأ إلى الضغوط الهائلة للمطلقات السائدة في الثقافة الغربية. فنراها تقدم لكتابها «التنقيب الأثري في الأراضي المقدسة» بالقول أنها حاولت أن تخدم غرضين معاً: الأول أن تعزز الخلفية التي يمتلكها أولئك الذين يعتبرون التوراة أعظم الوثائق التاريخية في العالم، والثاني أن تخدم طلبة علم الآثار المهتمين بالحفريات واللغات القديمة.

ولم تستطع كينون إلا التلميح إلى ما يسببه ازدواج هذين الغرضين بل وتعارضهما أحياناً، فوصفت كتباها بأنه محاولة للموازنة بين الأمرين. فبدا الأمر وكأنه إيجاد قطعة نسيج من مادتين لا رابط بينهما إلا ما يوجد في الذهن الغربي من تخيلات.

هنالك كتاب آخر ولكنه أكثر صراحة وتوجهاً نحو غرضه، هو كتاب جيمس بريتشارد وعنوانه «نصوص الشرق الأدنى القديم».. وقد حاول المؤلف أن يجعل من نصوص الحضارات الفرعونية والكنعانية والسومرية والبابلية والآشورية ذات الوجود التاريخي الملموس سلماً للوصول إلى تأكيد حضارة غير ملموسة لا في آثارها المادية ولا اللغوية. وكان بريتشارد صريحاً منذ البداية حين أشار إلى أنه يترجم نصوص الحضارات القديمة في الشرق الأدنى في ضوء التوراة وبهدف خدمتها.

ويمكن إضافة كتاب اولبرايت الذي صدر في الأربعينات بوصفه أخطر من خدم الأغراض الصهيونية، وتوسل إلى ذلك بشتى الوسائل بما في ذلك إضافة كلمات وعبارات كاملة إلى النصوص المكتشفة.

لم تكن حصيلة كل هذا الجهد طوال خمسة قرون غير أربعة نصوص ضئيلة الأهمية في الدلالة على وجود ما يسمى بدولة داوود وسليمان على أرض فلسطين. وهي: حجر «مؤاب» ونقش «يوتاح» وسطران من رسالة تأولها اولبرايت، ونحت آشوري يصور وفود الأمم المغلوبة تجوز الذين قرأوا اسم مقدح الجزية فيه وصنفوه على أنه ابن «عومري»! وأظهرت إعادة القراءة أن معرفة باللغة العربية وبفقه اللغات السامية وبالجغرافية الطبيعية للمنطقة، هي خير دليل لاستنطاق هذه النصوص وفهمها. وبالتالي إزاحة كل الافتراضات المسبقة التي أجبرت معها الألواح القديمة على قول ما لم يخطر ببال أصحابها. والمدهش أنه مع التمسك بهذه النصوص الربعة تم إهمال آلاف النصوص والنقوش التي لا تقول شيئاً يخص أحداث التوراة ورواياتها أن يمكن أن تخصها بكل بساطة.

ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: كيف تتقبل العقلية الغربية مثل هذا المنهج وعلى نطاق واسع؟ أليس هذا أمراً يدعو إلى الاستغراب؟

أنه يدعو إلى الاستغراب فعلاً، ولكن سرّ القبول به لا يدعو إلى الدهشة. فقبول ما يأتي به الباحثون الموجهون لاكتشاف ما يدعم الفرضيات المسبقة نابع من أنهم يستندون إلى ما يعتبر «كتاباً مقدساً» في الغرب، وبخاصة في الثقافة الشعبية الشائعة. ولم تجد الشكوك والثغرات العلمية ومناهجها مكاناً وسط هذا التيار العريض، أضف إلى ذلك أن الارتباط الذي تستشعره الثقافة الشعبية الغربية بهذا الكتاب ورواياته هو ارتباط لا يوازيه ولا ينافسه ارتباط آخر، وبخاصة إذا كان عربياً أو شرقياً بشكل عام. ولا شك في أن للصراع السياسي الدائر منذ أكثر من قرن في ما يسمونه الشرق الأدنى أثره في جعل التفكير الغربي ينتصر لما هو مصلحة عسكرية واقتصادية وسياسية على ما هو حقيقة.

ومن هنا نشأ في الثقافة الغربية تاريخ خاص للعالم الغربي وبخاصة لجناحه الشرقي يمتاز بالذاتية المطلقة، فهو ليس حقيقة التاريخ الذي حدث بشواهده وحقائقه بل التاريخ المعادة صياغته بما ينسجم مع التعقيدات الغربية واتجاهات السياسة الغربية المعاصرة وأهدافها.

ولم يتوقف الأمر عند جانب واحد من جوانب هذا التاريخ بل امتد ليشمل معظم جوانبه إن لم يكن كلها على صعيد تكوين الشعوب والثقافات والفنون والأديان والتراكيب الاجتماعية والاقتصادية، وبهذا يقدم العالم العربي كلوحة فريدة من نوعها هي من صنع الغرب نفسه وليست من صنع التاريخ.

ويتجلى هذا «المنبع» بأكمله في علم الآثار الفلسطيني. فالباحث في هذا الحقل يمتلك حقيقة مطلقة لا شك فيها هي روايات التوراة، وعلى الوقائع والمكتشفات أن تؤيدها أو تزول من الوجود أو يلقى بها في زاوية مهملة أو توضع موضع تساؤل واستنكار بدل أن يحدث العكس.

تقول كينون في ضوء تنقيباتها عن أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد: «أن مجيء أو استيطان شعب إسرائيل إلى فلسطين غير ثابت بواسطة البحث الأثري».وحين تنقب في الطبقات الأرضية لبعض المواقع مثل أريحا أو تل مرسيم أو بيت شمس، تلك التي تتوافق مع القرن العاشر ق.م الذي تقول التوراة أن مملكتها نشأت فيه واستمرت 75 عاماً، لا تجد دليلاً أثرياً واحداً على قيام هذه المملكة فتقول حرفياً: «أن هذه الآثار ضئيلة إلى درجة العدم»! وتمضي إلى أبعد من ذلك وبصراحة متناهية ترفض كل ما راكمه التوراتيون من مقولات حول بيت شمس فتقول: «أن آثار بيت شمس تعود للفلسطينيين رغم حكايات التوراة». ومع ذلك، ورغم كل هذه الشواهد فإن الباحثة تمزج بين أعمال التنقيب ورؤية سطور من التوراة وكان أحدها يؤيد الآخر، وهو ما تنفيه نفسها في مناسبات عدة، وكذلك حين تجئ إلى استخلاص نتائج الحفريات.

ويستطيع قارئ نتائج هذه التنقيبات الخلوص إلى أنه لولا الفكرة الثابتة في ذهن كينون عن جغرافية التوراة وعلاقاتها بفلسطين أي ذكر لإسرائيل ومملكة سليمان وانقسامها… وما إلى ذلك. أي أن هذا الحديث ما هو إلا نوع من التداعي الذاتي الذي يتدخل ليشوه البحث أو يلي عليه غموضاً، أو يشوه دلالات كان يمكن أن تظهر لولا هذا التداعي الذاتي.

وتشعر الباحثة أحياناً بحاجتها إلى الاعتذار لأفكار ومطلقات العقلية الغربية، فتعتذر عن عدم عثورها على آثار إسرائيلية استوطنوا الهضاب، أما سبب العثور على آثار الكنعانيين فهو سكناهم السهول!

وأسلوب الباحثة في كتابها واضح، فهو من جهة رواية قصة التنقيبات بأمانة ثم إضافة النص التوراتي إلى النص الأثري في محاولة لدمجهما معاً. وتحلل المكتشفات الأثرية ثم تقطع التحليل لتشرد قصص التوراة، ثم تعود إلى التحليل لتسرد قصص التوراة، ثم تعود إلى تحليل المكتشفات من دون أن تشعر أنه ليس هنالك من سبب يدعو إلى هذا التنقل، فهو لا يعدو كونه تنقلاً بين تحليل للآثار الفرعونية مثلاً ثم قطعه وسرد شيء من روايات عن أناس هبطوا من الفضاء وأقاموا الحضارة الفرعونية!

لقد ركزنا على كتاب كينون لأنها تواصل طبعة وتنقيحه منذ أن صدر في العام 1960، وكانت آخر طبعة في العام 1987، فهو بهذا المعنى يقدم خلاصة التنقيبات الأثرية في فلسطين طوال القرون الأربعة الماضية.

ونجد التداعيات الذاتية عند كينون لدى باحث آخر هو الإيطالي موسكاتي الذي يسرد تاريخ ما يسميه «الشعوب السامية» من واقع الآثار والمدونات القديمة، إلا أنه حين يأتي إلى سرد ما يسميه تاريخ الشعب العبري لا يجد ما يستند إليه غير حكايات التوراة الملتبسة لغة وجغرافية، ولا يكاد يشعر أنه استخدم منهجين مختلفين.

اصطدم الباحثون الغربيون ولا زالوا يصطدمون بشكوك عميقة في حقيقة ما تذهب إليه التفسيرات والقراءات التقليدية للتوراة، ولكنهم بدل تغيير أداة القراءة والاستدلال اتجهوا على تحليلات عجيبة، إلى درجة أن أحدهم يعلل عدم إشارة الآثار الفلسطينية إلى وجود إسرائيل ومملكتها بأن الإسرائيليين حين غزوا فلسطين اندمجوا بسكانها، وتبنوا لغتهم وأزياءهم وعقائدهم وآدابهم… أي أن الكنعانيين في النهاية يظهرون كإسرائيليين، ويا ليها من براعة في التعليل!¨

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *