العدد 120 -

السنة الحادية عشرة – محرم 1418 – أيار 1997م

فاصبر لحكم ربك

فاصبر لحكم ربك

ها هي أمم الكفر اللئيمة تداعى على الأمة الكريمة، وترميها عن قوس واحدة، وقد كانت جمرة الأمم، ولسنا نريد التغني بأمجاد بالماضي وإن حُقًّ لنا ذلك، ولكن لنؤكد أن أمةً ذلك ماضيها فَقَمِنّ بها أن تُنبت الرجالَ الذين يبنون مجد الحاضر، ويسهلن الدرب لبناء أمجاد المستقبل. فتعود أمتهم قائدة البشرية تخرجها من الظلمات إلى النور، وهذه مسؤولية كبيرة تحتاج إلى جهود جبارة وعزائم لا تلين، ومخزون روحي عظيم، ولا يصلح لها من كانت بضاعته مما سلف مزجاة. فالعباسيون احتاجوا لأكثر من ثلاثين عاماً لمجرد نقل الحكم إليهم من الأمويين. فقد بدأوا الدعوة على رأس المئة الأولى وتسلموا الحكم بعد اثنين وثلاثين عاماً، عملوا في أمة ناهضة فقهاؤها وافرون ودارها دار إسلام. والذي يعمل للتغيير اليوم يشغل في أمة تعيش أشد عصورها انحطاطاً, أمةٍ مهزومةٍ فكرياً وسياسياً وعسكرياً. قليل فقهاؤها كثير جهالها ومضللوها، غابت عنها دار الإسلام، وحوّلها أبناء الأيامى من الروم و الإفرنجة وأعوانُهم من المنافقين والمرتدّين إلى دار كفر. فالخطب جلل والمهمة شريفة صعبة، ويستحق المضطلع بها سلعة الله الغالية، ولا يُنتظر أن يكون التغيير سريعاً إلا أن يشاء الله، فمن شرّفه الله بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية يجب أن يوطّن نفسه على العمل الدؤوب الطويل، فالدرب وَعِرٌ والعقبة كؤود، ولا بد من التسلح بالصبر على التكذيب والاستهزاء والإيذاء، فهذه سنة الله في الرسل وأتباعهم (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ).

لقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوذي أصحابه حتى إن كان المشركون ليضربون أَحدَهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضرّ، وامتنع منهم نفر قليل، أما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) وكلنا نتساءل: متى نصر الله؟ فإن النفوس جُلِبَتْ عل استعجال النصر، ويكبر علينا إعراض الناس كما كَبُرَ على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له ربه: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فسنن الله لا تتخلف، ومنها نصرُه رسلَه والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقم الأشهاد، ولا مبدل لكلماته التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين كما قال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).

وينبغي لحامل الدعوة أن لا يغتر بكثرة الهالكين وقلة العاملين المخلصين فقلتهم من سنن الله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)، بل إن الخوف سيلازمهم بعد الاستخلاف حتى يحصل التمكين فإذا حصل التمكين استبدلوا بالخوف أمناً، عن أبي العالية قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده لا شريك له سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال فكانوا بها خائفين يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، و إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ ليس فيه حديده». وحتى يكون ذلك فنأمن كما أمنوا لا بد من الصبر عسى أن نكتب من الصابرين الذين يُوَفَّوْنَ أجورهم بغير حساب. فأعمال البد توزن، أما الصبر فإنه بغير حساب، فالله وحده يعلم مقدار أجر الصابرين, ويشبه الصبرُ الصومَ في هذا، إذ إنه لله وهو يجزي به. وانتظار الفرج بالصبر عبادة, كما روي عنه صلى الله عليه وسلم ، فليتصور حامل الدعوة جبال الحسنات التي توضع صابراً سنين طوالاً، ولعل أحدَنا يُمتحَن بالصبر غداً على أشد من انتظار الفرج كقتال الكفار فلا يدري أيصبر أم لا! فلماذا لا نستكثر من هذه الغنيمة؟ وعن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم قال: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً» والصبر من صفات أولي العزم من الرسل، ووعدَ سبحانه الذين صبروا أن يؤتيهم أجرهم مرتين وأنه سيجزهم بما صبروا جنة وحريراً، وقد أمر الله سبحانه نبينا محمداً صلى الله علي وآله وسلم بالصبر في آيات كثيرة، وهو الذي يأتيه الخبر من السماء.

  فهلاّ تواصينا بالصبر فإننا بحاجة إليه! ومما يساعد على الصبر والثبات قراءة سيرة الأنبياء والصالحين وهي كثيرة في أمهات كتب الثقافة الإسلامية، وقد ثبّت الله فؤاد رسوله بقصص الأنبياء مع أقوامهم، فحال الدعوة أحوج من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يثبت به فؤاده، واليأس وإن كان جائزاً من استجابة الأقوام إلا أنه لا يجوز اليأس مع نصر الله، ولا يجوز أن يكون مُقْعِداً عن العمل، فإن نصر الله قريب، وفي الحديث: «عَجِبَ ربك من قنوط عباده وقُرْب غَيْرِه (تحويله وتبديله). ينظر إليهم آزِلين قَنِطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب».

ثم إن حمل الدعوة هو أشرف الأعمال عل الإطلاق، كيف لا وهو عمل الرسل الكرام يرثهم في ذلك العلماء العاملون، وأفضله الفقهاء المجتهدون لأنهم هم وحدهم الذين يعرفون حلال الله وحرامه إذا نزلت بالناس نازلة، ويشاركهم في هذا الشرف من عمل مقلداً إياهم في اجتهادهم (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذه الآية ليست خاصة بالمؤذنين بل هي عامة فيهم وفي غيرهم، لأن «مَن» من ألفاظ العموم، بالإضافة إلى أن هذه الآية مكية والأذان إنما شرع بالمدينة. وحَمَلَة الدعوة اليوم في غياب النصير من البشر، وتداعي الكفر وأعوانه، ونطق الرويبضات، وقمع الفقهاء على قلتهم، وغلبة الشر على الخير، يرجون من الله أن يكون ثوابهم بثواب أربعين من الصحابة وشهادة أحدهم بأربعين منهم، فما يمنع المسلم القريب في هذا الزمان أن يسارع إلى أجر أعظم من أجر الصحابة مع أنه ليس خيراً منهم، فقد روى صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذٍ رجاء به رضي الله عنه، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقاً أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل اشر عشرة فقلنا يا رسول الله: هل من قوم أعظمُ منّا أجراً آمنا بك واتبعناك؟ قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين وأظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتابٌ من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً».

وينبغي لفت النظر إلى لفظ «ما» في قوله «ويعملون بما فيه» فإنه من ألفاظ العموم ويستفاد منه أن من شرط هؤلاء القوم أن يعملوا بكل ما هو مطلوب منهم في الكتاب لا ببعض المطلوب، كما يرجون أن يكونوا هم الطائفة المنصورة في هذا الزمان، إذ إن أحاديث الطائفة تفيد تكرار وجودها بتكرار الزمان. ويستفاد من طرقها المختلفة أنها تكون حيناً في الحكم وحيناً خارجه، فقد وصفت (أي الطائفة) مرة بأنهم يقاتلون وظاهرون ولكنهم دائماً على الحق ومرة قوامة على أمر الله وقائمة بأمر الله، فالقتال والظهور يكون لمن في الحكم، والقوامة تكون لمن في الحكم ولمن هو خارج الحكم، وفي بعض روايات هذا الحديث أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يكونون ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس كرواية مُرّة البهزي وأبي أمامة. وهذه الأحاديث (أحاديث الطائفة المنصورة) مرويّة عن خمسة عشر صحابياً على الأقل. كما يرجون أن يكونوا أعظم درجة من الذين يحملون الدعوة بعد النصر والاستخلاف والتمكين، قياساً على تفضيل من أنفق وقاتل قبل الفتح على الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فهنيئاً لمن كان الله ورسولُه في رأس سُلَّم أولوياته، وأخلصَ عمله لله, وقيّده بأحكامه المأخوذة باجتهاد صحيح، لأن من يعمل بغير اجتهاد صحيح يكون ما يفسد أكثر مما يصلح. وطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا أفسد الناس، عرفوا قدر الدنيا فعاملوها بما هي أهله، وعلموا أن العمر قصير وأن الموت حق، وأنه صائرون إلى بيت الدود في قعر مظلمة لا وساد فيها ولا مهاد، ثم يبعثون للحساب، فعملوا بما عملوا ولم يكن عملهم عليهم وبالاً، رضوا باليسير الذي يبلّغهم المقيل راجين رحمة الله الواسعة. جعلنا الله منهم.

عبد الرحمن العقبي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *