بسم الله الرحمن الرحيم
صـَرخَـةٌ شـاميّة
عبد الرحمن المقدسي (تراب)- بيت المقدس
في وقتٍ زادَ فيهِ العَداءُ، وعَظُمَ البَلاءُ، وقلَّ فيهِ اليسيرُ، وشحَّ فيهِ النَّصير، نرفع صرخة مدوية من أرض رويت بدماء الشهداء الأبرار واحتضنت في ثراها أجساد الصحابة الأطهار، من أرض الشام عقر دار الإسلام، نرفع إليكم صرخة شاميّة:
مِنْ جنبِ أجسادِ أطفالٍ قُطِّعت حلاقيمُهم من الوريد إلى الوريد، وفعلت في أجسادهم سكاكين عدو الله بشار ظلماً وبطشاً، فمثّلت وبترت واقتلعت،
من جنب زفرة حرّة شاميّة مقهورة هُتك عرضها وانتزع طهرها نستصرخكم أيها المسلمون،
ومن جنب رؤوس قُطِّعت وأيادٍ بُترت وبطونٍ بُقرت واجتُثت أحشاؤها نستصرخكم أيها المسلمون،
من قهر شيوخٍ وكبارِ سنٍّ نُتِفت لحاهم وهدّمت على رؤوسهم منازلهم فاختلط لحمهم بعظامهم ليمتزج بتراب أرض الشام الطاهر،
من ها هنا… نستصرخكم أيها المسلمون!!
إني أنا المقتولُ رُغمَ ندائي في كلِّ قُطرٍ تستباحُ دِمائي
ذنبـي بأنّـي مسلـمٌ ومُوَحِّـدٌ «اللهُ ربـي» أغضَبَـتْ أعـدائـي
وبعدُ، أيها المسلمون:
قضيةٌ عَظُمَتْ والناسُ ثائرةٌ وَدَاؤُها مُعْضِلٌ والمعتدِيْ أَشِرُ
ما زال عدو الله بشار وشبيحته يَصِلون ليلهم بنهارهم في قتال أهلنا في سوريا وصدهم عن دين الله، على مرأى من العالم أجمع، وهم مع ذلك يرقصون رقصة المذبوح الذي بات يعدُّ الثواني لنهايته، فقد أوشكت حلقات العقد أن تكتمل، وأوشك الطاغية أن يُؤخذ بالنواصي والأَقدام، وفي هذا الوقت الذي اقترب فيه هلاكه تتسارع الصفقات، بل وتتزايد أحاديث التدخلات، فكلما وجدت أميركا وأحلافها أن حركة المسلمين هي الأقوى، وأن حكم الإسلام قادم إلى الشام عقر دار الإسلام، كلما بدأوا يبحثون عن ذرائع التدخل: تارة باسم التسوية السياسية من أجل التفاوض مع صنائعهم، وأخرى باسم فرض السلام في المنطقة لمنع استعمال أسلحة الدمار!
أيها المسلمون المؤمنون الصابرون في سوريا الشام:
لا يشك أحد منا بوجود مؤامرة دولية على الثورة ضدكم ولمصلحة السفاح، وهذا يفضح مدى فجور المجتمع الدولي ومدى إجرامه، وما السفاح بشار إلا أحد صنائعه، بل الكل يقطع بوجود تلك المؤامرة. ولا تظنوا أنكم غير مسؤولين أمام الله إذا لم تضعوا حداً لذلك. فأنتم من وقف في وجه السفاح بشار وقواته الأمنية المجرمة، وأنتم من ثُكِلتم، وأنتم من قدمتم وضحيتم بأغلى ما عندكم، فلا تسمحوا لأحد أن يخطف ثورتكم ويقطف ثمرتها، كائناً من كان، على حساب دينكم وتضحياتكم. ألم تعلنوا «قائدنا للأبد سيدنا محمد»؟، فسبيل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم معلوم، وقد فرض الله سبحانه وتعالى علينا اتباعه دون غيره، حيث قال: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ألم تعلنوا «يا الله ما لنا غيرك يا الله»؟، فكونوا صادقين مع دينكم وأنفسكم ولا تطلبوا العون إلا من الله وحده، فالله سبحانه وتعالى هو أغنى الشركاء عن شركه، وهو القائل عزَّ من قائل ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) . إن أقوى موقف تعلنونه الآن، هو أن تعلنوا جميعاً، وعلى قلب رجل واحد منكم، أنكم مع الله وحده قلباً وقالباً، قولاً وفعلاً، وأن تعلنوا أنكم مع دينكم في تحريم الاستعانة بالغرب الكافر وعملائه من حكام بلاد المسلمين، فهذا نبي الله ابراهيم عليه السلام لما أراد النمرود وقومه حرقه، جمعوا له الْحَطَبَ شَهْرًا ثُمَّ أَوْقَدُوهَا، وَاشْتَعَلَتْ وَاشْتَدَّتْ، حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّائِرُ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهَا فَيَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا. ثُمَّ قَيَّدُوا إِبْرَاهِيمَ وَوَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ مَغْلُولًا. فَضَجَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ وقالوا: رَبَّنَا !إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرَهُ، يُحَرَّقُ فِيكَ، فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إنِ اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ مِنْكُمْ أَوْ دَعَاهُ فَلْيَنْصُرْهُ، فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ» فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ، أَتَاهُ خُزَّانِ الْمَاءِ – وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ – فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنْ أَرَدْتَ أَخْمَدْنَا النَّارَ بِالْمَاءِ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمْ. وَأَتَاهُ مَلَكُ الرِّيحِ فَقَالَ: لَوْ شِئْتَ طَيَّرْتُ النَّارَ. فَقَالَ: لَا. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ، لَيْسَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ». رواه ابن اسحق في تفسير القرطبي
فيا الله، نلجأ إليك وحدك، أنت ركننا الشديد، نستنجد بك كما استنجد بك سيدنا إبراهيم عليه السلام… خاشعين متذللين ضارعين: ما إلنا غيرك يا الله.
أيها المسلمون المجاهدون الثائرون:
مطلوب أن تجبروا المعارضة الخارجية على قطع الصلة بالغرب، وإلا فإنها لا تمثلكم، بل هي لا تمثلكم، بل اعملوا على أن تكون المعارضة التي تمثلكم من جنسكم، بأن تلتزم الحل الإسلامي الذي تبنيتموه ووثقتم أغلظ الأيمان عليه، وهو إقامة الخلافة الراشدة، التي وعد الله بها من يعبده وحده، لا يشرك به شيئاً، وذلك بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
لكم الله يا أهلنا في سوريا، لقد حطمتم بإيمانكم وصبركم وتضحياتكم كل أطواق الخوف والجبن وقهر الرجال الذي مارسه النظام السوري البائس عليكم لأكثر من أربعين سنة، وفضحتم كل منافق وعميل حتى صار الناس إلى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لاَ نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لاَ إِيمَانَ فِيهِ. وسطَّرتم بثورتكم ما أحيا الأمل لدى الأمة جميعها بعودة دولة الخلافة وتاريخها المشرق… فهنيئاً لكم ما تفعلون، وبوركتم بكل ما يبارك الله به عباده المخلصين. وإن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم، أحياناً فيه حكمة عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل كما قال الإمام العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتاب إغاثة اللهفان:
-
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة .
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه .
-
إنهم لو كانوا دائماً منصورين، غالبين، قاهرين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد .
فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.