العدد 317 -

السنة السابعة والعشرون جمادى الآخرة 1434هـ – نيسان 2013م

أبو هريرة الدوسي

بسم الله الرحمن الرحيم

أبو هريرة الدوسي

«حفظ أبو هريرة لأمة الإسلام

ما يزيد على ألف وستمائة حديث

من أحاديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم »

[المؤرخون]

 

لا ريب أنك تعرف هذا النجم المتألق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل في أمة الإسلام أحد لا يعرف أبا هريرة؟. لقد كان الناس يدعونه في الجاهلية (عبد شمس)، فلما أكرمه الله بالإسلام وشرَّفه بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال له : (ما اسمك)؟، فقال: عبد شمس، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل عبد الرحمن) .  فقال: نعم عبد الرحمن، بأبي أنت وأمي يا رسول الله .
أما تكنيته بأبي هريرة فسببها أنه كانت له في طفولته هرة صغيرة يلعب بها، فجعل لِدَاته (المماثلون له في السن) ينادونه أبا هريرة، وشاع ذلك وذاع حتى غلب على اسمه .فلما اتصلت أسبابه بأسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يناديه كثيراً بـ (أبي هر) إيناساً له وتحبباً، فصار يُؤثِر (أبا هر) على (أبي هريرة) ويقول: ناداني بها حبيبي رسول الله،
والهر ذكر، والهريرة أنثى، والذكر خير من الأنثى …
أسلم أبو هريرة على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، وظل في أرض قومه دوس إلى ما بعد الهجرة بست سنين
حيث وفد مع جموع من قومه على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بالمدينة. وقد انقطع الفتى الدوسي لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصُحبَتِه، فاتخذ المسجد مقاماً، والنبي معلماً وإماماً، إذ لم يكن له في حياة النبي زوج
ولا ولد، وإنما كانت له أم عجوز أصرَّت على الشرك فكان لا يفتأ يدعوها إلى الإسلام إشفاقاً عليها وبراً بها؛ فتنفر منه وتصده، فيتركها والحزن عليها يفري فؤاده فرياً. وذات يوم دعاها إلى الإيمان بالله ورسوله فقالت في النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أحزنه وأَمَضًه (أوجعه)، فمضى إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو يبكي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ما يبكيك يا هريرة؟!)  فقال: إني كنت لا أفتر عن دعوة أمي إلى الإسلام فتأبى علي، وقد دعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يُميل قلب أم أبي هريرة للإسلام،
فدعا لها النبي صلوات الله وسلامه عليه.قال أبو هريرة، فمضيت إلى البيت، فإذا الباب قد رُدً، وسمعت خضخضة الماء فلما هممت بالدخول، قالت أمي: مكانك يا أبا هريرة، ثم لبست ثوبها وقالت: ادخلْ، فدخلت، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

فعدت إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وأنا أبكي من الفرح كما بكيت قبل ساعة من الحزن وقلت: أبشر يا رسول الله، فقد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة إلى الإسلام.
وقد أحب أبو هريرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه حباً خالط لحمه ودمه، فكان لا يشبع من النظر إليه  ويقول :ما رأيت أملح ولا أصبح من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  حتى لكأن الشمس تجري في وجهه، وكان يحمد الله تبارك وتعالى على أن منَّ عليه بصحبة نبيِّه واتِّباع دينه فيقول :الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام …
الحمد لله الذي علًم أبا هريرة القرآن …الحمد لله الذي منً على أبي هريرة بصحبة محمد  صلى الله عليه وسلم .
وكما أولع أبو هريرة برسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقد أولع بالعلم وجعله ديدنه وغاية ما يتمناه. حدًث زيد بن ثابت قال: بينما أنا وأبو هريرة وصاحب لي في المسجد ندعو الله ونذكره، إذ طلع علينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وأقبل نحونا حتى جلس بيننا، فسكتنا، فقال: (عودوا إلى ما كنتم فيه)، فدعوت الله أنا وصاحبي -قبل أبي هريرة- وجعل الرسول يؤمن على دعائنا .ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي، وأسألك علماً لا ينسى .فقال عليه الصلاة والسلام: (آمين). فقلنا: ونحن نسأل الله علماً لا ينسى،فقال  صلى الله عليه وسلم : (سبقكم بها الغلام الدوسي).

وكما أحب أبو هريرة العلم لنفسه فقد أحبه لغيره .ومن ذلك أنه مرَّ ذات يوم بسوق المدينة فهاله انشغال الناس بالدنيا، واستغراقهم في البيع والشراء والأخذ والعطاء، فوقف عليهم وقال: ما أعجزكم يا أهل المدينة!
فقالوا : وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة؟! قال: ميراث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يُقَسًم وأنتم ها هنا!، ألا تذهبون وتأخذون نصيبكم؟ !قالوا: وأين هو يا أبا هريرة ؟ !قال: في المسجد .فخرجوا سراعاً ،ووقف لهم أبو هريرة حتى رجعوا، فلما رأوه قالوا: يا أبا هريرة، لقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نرَ شيئا يُقَسًم .فقال لهم: أوما رأيتم في المسجد أحداً؟ !قالوا: بلى، رأينا قوماً يُصلُون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون في الحلال والحرام… فقال : ويحكم، ذلك ميراث محمد  صلى الله عليه وسلم .
وقد عانى أبو هريرة بسبب انصرافه للعلم ، وانقطاعه لمجالس رسول الله ما لم يعانِه أحد من الجوع وخشونة العيش، روى عن نفسه فقال: إنه كان يشتد بي الجوع حتى إني كنت أسأل الرجل من أصحاب رسول الله عن الآية من القرآن وأنا أعلمها – كي يصحبني معه إلى بيته، فيطعمني. وقد اشتد بي الجوع ذات يوم حتى شددت على بطني حجراً ، فقعدت في طريق الصحابة، فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله، وما سألته إلا ليدعوني فما دعاني. ثم مرَّ بي عمر بن الخطاب فسألته عن آية، فلم يدعُني أيضاً، حتى مرَّ بي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فعرف ما بي من الجوع فقال :

(أبو هريرة؟!). قلت: لبيك يا رسول الله، وتبعته فدخلت معه البيت فوجد قدحاً فيه لبن، فقال لأهله: (من أين لكم هذا؟) قالوا: أرسل به فلان إليك، فقال: (يا أبا هريرة، انطلق إلى الصفة، فادعهم) فساءني إرساله إيَّاي لدعوتهم، وقلت في نفسي :ما يفعل هذا اللبن مع أهل الصفة؟ !وكنت أرجو أن أنال منه شربة أتقوَّى بها، ثم أذهب إليهم، فأتيت أهل الصفة ودعوتهم، فأقبلوا فلما جلسوا عند رسول الله قال :(خذ يا أبا هريرة فأعطهم) فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى إلى أن شربوا جميعاً، فناولت القدح لرسول الله  صلى الله عليه وسلم ، فرفع رأسه إلي مبتسماً وقال: (بقيتُ أنا وأنت) قلت: صدقت يا رسول الله، قال: (فاشرب)، فشربت، ثم قال (اشرب)، فشربت… وما زال يقول: (اشرب)، فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق، لا أجد له مساغاً (لاأستطيع ابتلاعه) فأخذ الإناء وشرب من الفضلة .
لم يمضِ زمن طويل على ذلك حتى فاضت الخيرات على المسلمين وتدفقت عليهم غنائم الفتح، فصار لأبي هريرة مال ومنزل ومتاع، وزوج وولد. غير أن ذلك كله لم يغيِّر من نفسه الكريمة شيئاً، ولم يُنسهِ أيامه الخالية،  فكثيراً ما كان يقول :نشأت يتيماً، وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لِبُسَرَةَ بنت غزوان بطعام بطني، فكنت أخدم القوم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا، فزوَّجنيها الله .فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً وصيَّر أبا هريرة إماماً .
وقد ولي أبو هريرة المدينة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة، فلم تُبَدِّل الولاية من سماحة طبعه، وخفة ظله شيئاً. فقد مرً بأحد طرق المدينة – وهو والٍ عليها- وكان يحمل الحطب على ظهره لأهل بيته، فَمرِّ بثعلبةَ بن مالك فقال له: أَوسع الطريق للأمير يابن مالك، فقال له: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله؟! فقال له: أَوسع الطريق للأمير وللحزمة التي على ظهره .

وقد جمع أبو هريرة إلى وفرة علمه وسماحة نفسه التُّـقى والورع، فكان يصوم النهار، ويقوم ثلث الليل، ثم يوقظ زوجته فتقوم ثلثه الثاني، ثم توقظ هذه ابنتها فتقوم ثلثه الأخير، فكانت العبادة لا تنقطع في بيته طوال الليل. وكانت ابنته تقول له: يا أبتِ إن البنات يُعَيِّرنَنِي فيقلن: لم لا يُحَلٍيكِ أبوكِ بالذهب؟! فيقول: يابنية، قولي لهن: إن أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب. ولم يكن امتناع أبي هريرة عن تحلية ابنته ضنًا بالمال أو حرصاً عليه، إذ كان جواداً سَخِيَّ اليد في سبيل الله، فقد بعث إليه مروان بن الحكم مائة دينار ذهباً، فلما كان الغد أرسل إليه يقول: إن خادمي غلط فأعطاك الدنانير، وأنا لم أُرِدكَ بها، وإنما أردت غيرك، فَسُقِطَ في يد أبي هريرة وقال: أخرجتها في سبيل الله، ولم يَبِت عندي منها دينار، فإذا خرج عطائي (حقي في بيت المال) فخذ منها، وإنما فعل ذلك مروان ليختبره، فلما تحرَّى الأمر وجده صحيحاً .
وقد ظل أبو هريرة -ما امتدت به الحياة- براً بأمه، فكان كلما أراد الخروج من البيت وقف على باب حجرتها وقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يابُني ورحمة الله وبركاته،
فيقول: رحمك الله كما ربَّيتِني صغيراً. فتقول: ورحمك الله كما بَررتَنِي كبيراً، ثم إذا عاد إلى بيته فعل مثل ذلك، وقد كان أبو هريرة يحرص أشد الحرص على دعوة الناس إلى بر آبائهم، وصلة أرحامهم. فقد رأى ذات يوم رجلين أحدهما أَسَنُّ من الآخر يمشيان معاً، فقال لأصغرهما: ما يكون هذا الرجل منك؟ قال: أبي، فقال له: لا تُسَمِّه باسمِه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله .
ولما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى .فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة ؟! فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكنني أبكي لِبعد السفر وقلة الزاد.لقد وقفت في نهاية طريق يُفضي بي إلى الجنة أو النار، ولا أدري في أيِّهما أكون !!
وقد عاده مروان بن الحكم فقال له: شفاك الله يا أبا هريرة، فقال: اللهم إني أُحِب لقاءك، فأحِبَّ لقائي وعجِّل لي فيه .فما كاد يغادر مروان داره حتى فارق الحياة .
رَحِمَ الله أبا هريرة رحمة واسعة، فقد حَفِظَ للمسلمين ما يزيد على ألفٍ وستِّمائةٍ وتسعةٍ من أحاديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *