العدد 29 -

السنة الثالثة – العدد 29 – صفر 1410هـ، الموافق أيلول 1989م

الإصلاح

إن التمييز وعدم الخلط بين ما هو من مقومات الفرد، وما هو من مقومات المجتمع، وما هو من مقومات الكتلة، جمعية أو حزب، هو الخطوة الأساسية الأولى في السير في الطريق المحقق للغاية أو الهدف. والتمييز وعدم الخلط لا يتأتى إلا بمعرفة مكونات ومقومات كل من الفرد والمجتمع والكتلة، ولهذا كان لا بد من إدراك واقع كل منها، ومعرفة هذا الواقع معرفة تسهل أمامنا معرفة ما يُراد تقويمه.

 صلاح الفرد. * صلاح المجتمع.  *صلاح الكتلة العاملة للإصلاح* .

إصلاح الفرد:

ونتناول أولاً الفرد باعتباره اللبنة الأولى في الجماعة والمجتمع، فما هو واقع الفرد؟ وما الذي نريد إصلاحه فيه؟ إن البحث في الصلاح أو الإصلاح في هذا الموضوع لا يتناول طبعاً التكوين الخَلقي للفرد، ولا يتناول التركيب العضوي له، ولا الغرائز المفطورة فيه، فهذه الأمور فطرية فيه، ولا نملك تغييرها أو إلغاءها، وعملية الإصلاح فيها أن حدث فيها خلل، فهي مهمة ذوي الاختصاص من الأطباء والجراحين، إلا أن هذه الأشياء الفطرية، والتكوين الخلقي أوجد فيه طاقة حيوية، تدفعه للقيام بأعمال بشبع بها جوعاته العضوية، أو رغباته الغريزية. إن هذا الاندفاع في إشباع هذه الجوعات وتلبية هذه الرغبات والكيفية التي يتم بها ذلك الإشباع الحتمي هو الذي يوصف بالصلاح أو الفساد.

فما من إنسان إلا يأكل ويشرب وينام ويقضي الحاجة. فكيفية قيامه بالأكل أو الشرب وحصوله على ما يؤكل ويشرب هو الذي ينظر إليه في صلاح والفساد.

وما من إنسان إلا وفيه الرغبة بالمحافظة على سلالته ونوعه، وإشباع هذه الرغبة وكيفية إشباعها، بالزواج أو غيره هو الذي ينظر إليه بالصلاح أو الفساد.

وما من إنسان إلا وفيه حبّ التملك والسعي إلى الحصول على كل شيء من مال أو غيره. وما من أسنان إلا وفيه ظاهرة الخوف على نفسه أو ماله أو غير ذلك. فالنظر إلى كيفية حصوله على المال أو إنفاقه للمال أو حماية نفسه أو حماية الآخرين هي التي تحدد صلاحه أو فساده.

وتقديسه للخالق وإشباع غريزة التدين المفطورة فيه وكيفية إشباعها هي التي تحدد صلاحه أو فساده.

ومن هنا نقول أن ما يحدد صلاح الإنسان وفساده ليس شكله أو حجم جسمه أو لونه أو نسبه وإنما الأعمال التي يقوم بها حين يقوم لإشباع جوعاته وتلبية رغباته، فإن كانت هذه الأعمال صالحة وصفناه بالصلاح وإن كانت فاسدة وصفناه بالفساد.

ولما كان الإنسان يختلف عن غيره من الكائنات الحية بما اختصه الله به وهو العقل والإدراك وهو الأداة المكونة لمفاهيم الإنسان المسيرة لسلوكه في كافة أعماله. وأن هذه المفاهيم لا بد أن تكون منبثقة من قاعدة في الشخصية السوية، لذا فإن الأساس في صلاح هذا الإنسان وفساده هو القاعدة الأساسية التي تنبثق عنها مجموعة المفاهيم المسيرة له في الحياة، وهذه القاعدة الأساسية هي العقيدة، فإن كانت هذه العقيدة صالحة كان حاملها صالحاً. وكان هذا هو الأساس في صلاحه وفساده.

وحين يلتزم ينبثق عن هذه العقيدة من مفاهيم وتنظيم علاقته بربه لإشباع غريزة التدين في نفسه أي بالعبادات، أو حين يلتزم بما ينبثق عن هذه العقيدة في تنظيم علاقته بنفسه في المطعومات والملبوسات أي بالأخلاق، أو حين يلتزم بما ينبثق عن هذه العقيدة في تنظيم علاقته بالآخرين أي في المعاملات، نقول: أن هذا الشخص له شخصية سوية متجانسة، وهو أسنان صالح لصلاح عقيدته وصلاح ما انبثق عنها من تنظيم لعبادته وأخلاقه ومعاملاته.

هذا بالنظر للإنسان من حيث هو إنسان. فالمسلم الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيماناً يقينياً راسخاً. ويباشر العبادة بانتظام فلا ينتقص فريضة، ويلتزم الخلق الحسن فلا يقرب فاحش القول ولا يضيع أمانة، ويلتزم بالحلال والحرام كمقياس لكل أعماله، فإن هذا ولا شك فرد صالح، ويمكن تنمية هذه الشخصية بحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والحرص على السنن والنوافل وجميع المندوبات في العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج. وكذلك بزيادة معلوماته الشرعية في الحلال والحرام وهكذا حتى يصبح إسلاماً يمشي على الأرض، لا تأخذه في الله لومة لائم.

هذا هو الفرد، والفرد المسلم ومقوماته وكيفية إصلاحه وتقويمه والسمو به إنما تكون بالوصول بالعقيدة حد اليقين، والتعبد في الفروض والسنن والنوافل وفهمها فوفهم أدلتها وأقوال الفقهاء فيها. والالتزام بالحلال والحرام مع معرفة الأدلة. وكيفية الاستدلال وأقوال الفقهاء وغير ذلك. هذه هي طريقة صلاح الفرد. وأما الإصلاح في التركيب العضوي، فبالرياضة كالسباحة والرماية وأن يثبت على الخيل وثباً.

وبكلمة أخيرة أوجز ما قلت بشأن الفرد: أن إصلاح التركيب العضوي للفرد إن نشأ فيه خلل فتلك مهمة الأطباء وأصحاب الاختصاص في هذا الشأن بملاحقة هذا الخلل ومعرفة هذا المرض والبحث عن العلاجات المناسبة لشفائه، أو العمليات الفنية لاستئصاله، أو اتباع الأساليب الفنية في الوقاية منه قبل وقوعه.

أما إصلاح سلوكه في الحياة وتنظيم علاقاته فذلك شأن آخر. وكيفية معالجته وإصلاحه تكون ابتداءً بإصلاح القاعدة الأساسية التي تنبثق منها مفاهيمه المسيرة لسلوكه في الحياة وأعني بذلك العقيدة. فإذا ما تم تثبيت هذه القاعدة في نفسه وكانت الأساس في عقليته وفهمه للأمور. انطلق منها لتقويم علاقاته الثلاث بموجب ما ينبثق عن هذه العقيدة من مفاهيم عن الحياة فتنظيم علاقته بربه بالعبادات، وتنتظم علاقته بنفسه بالمطعومات والملبوسات والأخلاق، أي الصفات الفاضلة، والخلال الحميدة. وتنتظم علاقته بغيره من الناس في المعاملات حين يجعل مقياس أعماله الحلال والحرام.

ويتدرج مثل هذا العبد الصالح في سلم الرقي حين يبدأ التفكير في إصلاح المجتمع حتى يصل بتفكيره قمة ما يجب عليه وهو شعوره بالمسؤولية عن ألف مليون مسلم وإيجاد الإسلام في حياتهم، ومسؤوليته عن العالم بأسره ليقيم الشاهدة عليهم ويحاول إخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. أو بعبارة أخرى حين تخطى بتفكيره ذاته، ويرتقي بذلك التفكير حتى يشمل رعاية الإنسان من حيث هو إنسان فأرقى الفكر هو الفكر السياسي وأرقى ما في الفكر السياسي هو الفكر المتعلق بالإنسان ورعاية الإنسان وكما نظرنا للفرد بهذا التفصيل عن صلاحه ومقوماته، فلا بد أن ننظر إلى المجتمع كذلك بنفس النظرة فلاكهما واقع محسوس ويستطيع العقل أن يحكم على مكونات كل منهما وبالتالي يعرف الوصول إلى مقوماته.

فما هي مكونات المجتمع ومقوماته؟

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *