العدد 24 -

السنة الثانية – العدد الثاني عشر – رمضان 1409هـ، الموافق نيسان 1989م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)

سُوَرةُ: البَقَرة

قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). (البقرة: 143).

في هذه الآية الكريمة ثلاث نقاط هامة الأولى (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).

والنقطة الثانية (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

أما النقطة الأولى فاختيار الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وجعلها في مركز الصدارة بين الأمم، حتى تتمكن من أداء الدور الذي أوكل إليها، أي الشهادة على الناس. ولا تعني الوسط هنا. الوقوف بين التطرف والاعتدال ولا تعني، ما يعنيه الغرب من قولهم بالحل الوسط، وهو أن يتنازل الخصمان عن جزءٍ مما يريان حق للوصول إلى تسوية. بل الوسط هنا. مركز الصدارة. وهو المركز الذي يمكن من جعل صاحبه يرى ما يحصل بين يديه ـ جاء في تفسير ابن كثير «والوسط هنا الخيار والأجود، كما يقال قريش أوسط العرب نسباً ودارا. أي خيرها. ويقال كان محمد رسول الله ﷺ وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً.

وجاء في تفسير مجمع البيان الطبرسي «أنه جعل أمة نبيه محمد ﷺ عدلاً ووسطاً بين الناس. وروى أن الإمام الباقر رضوان الله عليه «نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه» وجاء في تفسير النسفي والإمام القرطبي مثل ذلك، أي أن الوسط هو العدل.

وجاء في لسان العرب أن أوسط الشيء أفضله وخياره، وذلك في مثل قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي عدلاً. ومنه الحديث خيار الأمور أوساطها.

ولا يقال أنها الوسط بين الأولين والآخرين، لأنها آخر أمة أخرجت للناس. فكانت خير أمة أخرجت للناس. هذا من حيث النقطة الأولى.

أما النقطة الثانية (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).

إن هذا التكليف السامي لهذه الأمة الخيرة العادلة يحتم عليها أن تكون في مركز قيادة الأمم لتتمكن من القيام بمهمتها. وإقامة الحجة على الناس، إلا أن الناس كلمة عامة تشمل كل الناس من قبلها من الأمم ومن بعدها، وصريح الآية يجعل مهمتها شاملة لما قبلها وما بعدها من الأمم. فكيف يمكن لهذه الأمة أن تشهد على من قبلها، وهي لم تدركهم؟ وقد أجب رسول الله ﷺ على ذلك، وهو المبيّن للقرآن الكريم، فقد روى الإمام أحمد قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال. قال رسول الله ﷺ: «يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه، فيقال له، هل بلغتم؟ فيقولون ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد. فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول، محمد وأمته. قال فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليكم».

وجاء في تفسير ابن كثير عند تفسيره هذه الآية عن الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله ﷺ: «يجئ النبي ومعه الرجلان والثلاثة، فيدعى قومه، فيقال هل بلغكم هذا؟ فيقولون، لا. فيقال هل بلغت قومك؟ فيقول، نعم؟ فيقال، من يشهد لك؟ فيقول، محمد وأمته. فيقال لهم، هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون، نعم. فيقال وما علمكم؟ فيقولون، جاء نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا».

وجاء مثل ذلك في حديث ابن المبارك وفيه زيادة: «تقول الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا. فيقول الله سبحانه. كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا، بعث إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا. فيقول الله تعالى صدقوا».

هذا شأن هذه الأمة في الشهادة على من سبقها من الناس. فما شأنها في الشهادة على معاصريها. وكيف يتسنى لها أن تشهد، إن لم يكن لها مكانة مرموقة، وصوت يسمع؟ وهذا دليل قاطع على وجوب التبليغ على هذه الأمة للناس كافة. ولأجل ذلك لا بد أن تكون في مكان الصدارة. فصار الواجب عليها كذلك العمل لتكون في مكان الصدارة وقيادة الأمم حتى تقوم بما فرض الله عليها.

وأما النقطة الثالثة، وهي شهادة رسول الله ﷺ على هذه الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها وهل قامت بما بلغها به رسول الله ﷺ. هو من أشهد عليها مراراً. بقوله ﷺ: «اللهم هل بلغتُ؟ اللهم فاشهد». وشهادته ﷺ أنه بلغ هذه الأمة وأوجب عليها القيام بمسؤوليتها. وجعل هذا التبليغ، وهو موضوع الشهادة قائماً إلى يوم الدين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتابَ الله وسنتي». فكتاب الله بيننا يتلى كل يوم وسنّة رسول الله محفوظة في بطون الكتب. ولكن هل ران على قلوب الأمة ما كانت تكسب.

قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ…) وقد بكى رسول الله ﷺ حين سمع الصحابي يتلو قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا) وقال حسبك وكانت الدموع تترقرق في عينيه. وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقع ما ستؤول إليه حالنا. وسيُخجله الوضع الذي نحن فيه، وما أحدثنا من بعده.

فقد فقدنا مكانتنا المرموقة، وأصبحنا غير مؤهلين لأداء الشهادة على الناس. فكيف ستكون شهادته علينا؟ صلى الله عليك يا رسول الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *