العدد 22 -

السنة الثانية – العدد العاشر – رجب 1409هـ، الموافق شباط 1989م

أبحاث إسلامية: التأريخ للفكر من خلال الشهرستاني

بقلم: محمد محمد البقاش ـ تونس

دراسة التاريخ من الدراسات التي ثبتت الحلقات بين ماضي البشرية وبين حاضرها ومستقبلها. وقد عنى الإنسان بمعرفة الماضي عناية لم يشذ عنها صاحب ذاكرة كيفما وضعه ولو كان الأمر مقتصراً على الآباء الاقربين. والتاريخ من المعارف الإنسانية الضرورية لأبناء الحاضر كما أنه ضروري أيضاً لأبناء المستقبل حين يصير حاضرنا ماضياً لهم. ولم يتأَتَّ للإنسان إهماله أو نسيانه أو تناسيه ما دام يعيش السنين، لأن في عيشه هذا ولو كان لعقد واحد من الزمن ماضياً قد طواه وسجله في حافظته، وحين ينتقل للعقد الثاني فصاعداً ربما يسجله في قراطيس أو أوراق، ولا بد أن يذكره ويحرص على نقله إلى غيره ولو لم يتجاوز أبناءه. فالتاريخ في حق الفرد والجماعة والقوم والشعب والأمة والدولة هو كل ماض ولو كان لثوان أو دقائق. ويجب أن لا يغيب عن الذهن الأخطاء الشائعة فيما زعم أن للتاريخ أهمية كبرى في نهضة الأمم، وأن معرفة الماضي تفتح الطريق للمستقبل لا!  فهذا وهم وتخليط وقياس للحاضر المحسوس على الغائب المجهول، وقياس للقطعي اليقيني الذي نراه على الظني الذي نخبر عنه. والتأريخ للماضي سواء كان أحداثاً سياسية، أو وقائع اجتماعية، أو حوادث طبيعة أو معارف وثقافات وأفكاراً إنسانية وضعية أو غير وضعية لا يسار إليه كما يراد له، لأن في هذه الإرادة عدم المصداقية لما يصوره المؤرخ نظراً لتأثره بالبيئة والظروف السياسية التي يعيشها، ونظراً كذلك لاعتماده على إيديولوجية ينطلق منها، ولا أدل على ذلك من كتب التاريخ التي كتبت في عهد فاروق بمداد من الذهب، ثم لما جاء عبد الناصر كتبت بمداد من الماء الحار، وكذلك الشأن بالنسبة لعهد ستالين وعهد خروشوف وغيرهما. فلا بد من اعتماد قانون اجتماعي حتى يتأتى للإنسان أن ينظر للماضي كما هو لا كما يراد له. وقانون كتابة التاريخ يعتمد عناصر ثلاثة هي بمثابة مصادر له وهي: (1) الكتب التاريخية. (2) الآثار. (3) الرواية.

– أما الكتب فإنه إن جاز لها أن تكون من المصادر فلا بد أن تكون قد كتبت بطريق الرواية، أو بطريق الملاحظة المباشرة. ومعلوم أن أول ما عنى به المسلمون من التاريخ الإسلامي سيرة النبي ﷺ وما تبعها ن مغاز، وبالجملة أخباره ﷺ من ولادته إلى حين وفاته، وكان المحدث يجمع الأحاديث بطريق الرواية من غير ترتيب، فلما رتبت في الأبواب خرجت منها السير لتستقل بأبوابها، ثم انفصلت عن الحديث لتؤلف في كتب خاصة فكان في البخاري كتاب المغازي، وفي مسلم كتاب الجهاد والسير. وتناول السيرة كتاب كثيرون أولهم محمد بن اسحق بن يسار المتوفى سنة 153هـ من خلال كتابه المغازي وكان من أشهر من اتصل بالمغازي حتى قال عنه الشافعي «من أراد ن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن اسحق» وكان ثانيهم محمد بن عمر بن واقد الواقدي المتوفى سنة 209هـ وهكذا وجدت مؤلفات عديدة وضعها القدامى كتاريخ الطبري، وسيرة بن هشام، وفتوح الشام وغيره من كتب التاريخ. فهذه الكتب لا تخرج عن الملاحظة المباشرة والتي من خلالها عوينت أحداث ووقائع وآراء، وإذا لم تكن كذلك بالنسبة للحديث والسيرة نظراً لانعدام هذه الملاحظة المباشرة فإنها جميعا كتبت بطريق رواية الخبر عمن شاهده، أو رواية الكتاب عمن روى الخبر عمن شاهده. وهذه هي أصح طرق كتابة التاريخ. وأما الكتب الأخرى والتي تحكي أخبار الخلفاء والولاة، وتحكي أحوال الناس والمجتمع خصوصاً أخبار ما بعد القرن الرابع الهجري فإن المسلمين من كتاب هذه الأخبار لم يدققوا فيها تدقيقهم في السيرة والحديث، واعتمدوا على روايات ضعيفة، وحين كتبوا تاريخ الأمم الأخرى جرى معهم نفسن ما ذكر، ولكن هذه المرة كانوا يعتمدون على رواية أهل الأمم الأخرى فتضخم بالأساطير لبعد العهد بالرواة، ولعدم الدقة في النقل. إلا أن هذا الجانب لا يجب مقارنته بتاريخ الحوادث الإسلامية لأن هذه الأخيرة كانت أقل دقة من الحديث والسيرة فقط مما يغلب الظن على صحتها ويحتم إعادة النظر فيها من حيث الرواية والسند. ومن هنا يظهر جلياً أن الكتب التاريخية قد خضعت للظروف السياسية عبر العصور التي لم تعتمد الرواية، فجاء معظمها محشواً بالكذب ضد من كتبت عنهم، أو لصالح من كتبت لهم، أو في أيامهم. فحصل الخطأ حين حصل الاعتماد عليها، ومن جملة ذلك أنه لا يصح مطلقاً أخذ العصر الأموي من تاريخ يزيد مثلاً. ولا يصح أخذ تاريخ العصر العباسي من حوادث بعض خلفائه، ولا يصح أيضاً الحكم على نفس العصر من خلال كتاب الأغاني لأنه قد ألف لأخبار الشعراء والأدباء والمجان، ولا يصح كذلك الحكم على أي عصر من خلال كتب التصوف حتى تقول بأن العصر كان عصر زهد وانعزال، أو تقول عن سابقة بأنه عصر فسق وفجور.

– أما الآثار فإنها ليست سلسلة متواصلة الحلقات حتى يمكن الاعتماد عليها في معرفة التاريخ، ولكنها مع ذلك توصل إلى بعض الحقائق إذا درست بنزاهة من حيث دلالتها على ثبوت بعض الحوادث. ومن يتتبع الآثار في جميع البلاد الإسلامية في العمران والأدوات وغيرها مما يمكن اعتباره أثراً تاريخياً يجزم في أنه لم يوجد في العالم الإسلامي كله إلا الإسلام، ولم يطبق غير نظامه وأحكامه ولم تكن حياة المسلمين إلا إسلامية ليس غير.

– وأما الرواية فإنها إن استوفت شروطها وصحت وجب الاعتماد عليها كأسلوب لمعرفة التاريخ كما حصل مع رواية الحديث، ومن خلال هذا يتبين أن التأريخ للوقائع والحوادث والآراء والأفكار والمبادئ إذا أريد له الوصول إلى الحقائق لا بد من الاعتماد على الرواية في معظمه لأنه حتى ولو كتبت كتابات بطريق المشاهدة فإنها لن تغني إلا في نطاق ضيق هو حياة المؤرخ ضمن بيئة جغرافية معينة.

ومصيبة المسلمين اليوم اعتمادهم على أعدائهم في معرفة تاريخهم. فتجد منهم من يعتمد كتب المستشرقين، أو كتب جورجي زيدان أو غيره من الكتب التي يجب أن لا يلتفت إليها كنافذة مطلة على التاريخ، زد على ذلك أن معظم تاريخ المسلمين لم يكتب بعد، وإذا توهم أحد أنه قد كتب فعليه أن ينظر إلى أسلوب كتابته حتى يعرف أي الأساليب سِيْرَ عليها؟ ومن هم الذين كتبوه؟ وهل هم من أهل الثقة والعدل والضبط؟ وهل هم من المسلمين أم من غيرهم.

هذا فيما يتعلق بالتأريخ لكل تاريخ سواء كان فكراً أو حدثاً أو واقعة، إلا أن هذا الجانب لم يعد معتمداً من لدن المؤرخين، فكان أن ضلل الناس عن معرفة حقائق التاريخ. ولست أشك في صعوبة كتابة التاريخ القديم بطريق الرواية نظراً لبعدنا عن الرواة غير أن صعوبته لا تمنع من تحقيقه بالنظر إلى الرواية والسند من  خلال ما كتب عنه في الكتب التاريخية. ثم إن الاعتماد على الكتب لا بأس به ما دام تمحيصاً لها يسبق الاعتماد خصوصاً إذا كانت كتباً ألفها المدققون من أهل الضبط والعدل من المسلمين، ومن هنا أجزت لنفسي الاعتماد على الشهرستاني من خلال كتابه ـ الملل والنحل ـ (تحقيق الأستاذ: عبد العزيز محمد الوكيل) لمناقشة التأريخ للفكر من خلاله.

ولد محمد بن عبد الكريم بن أحمد المكنى أبو الفتح والمشهور بالشهرستاني نسبة إلى بلدة (شهرستان) مسقط رأسه ومثوى رفاته سنة 479هـ وتوفى في شعبان سنة 548هـ الموافق 1153م. وقد عاش 70 سنة، وكان في مذهبه شافعياً، وفي أصوله أشعرياً وعرف منزلته في كثير من علماء الشرق والغرب فقال عنه الإمام السبكي: «وكان لعلمه بلقب بالأفضل». وقال عنه ألفرد جيوم: «الشهرستاني كان رجلاً ديّناً إلى الأعماق، وإخلاصه للعقيدة لا يمكن أن يشك فيه أي إنسان قرأ مؤلفاته، التي تكفي بنفسها لدحض ادعاءات المنتقصين من شأنه… وهو جدير بأن ينظر إليه باعتباره ذا أصالة فكرية». ودرس علي يد صفوة من العلماء منهم: أبو الحسن بن حموية، والبيهقي، والإمام أبو منصور، وموفق الدين أحمد الليثي، وشهاب الدين الواعظ وغيرهم. وكتابه هذا ـ الملل والنحل ـ اعتبره الكثيرون كما اعتبره المحقق «فريداً في بابه، بل هو عمدة في هذا الموضوع فهو دائرة معارف مختصرة للأديان والمذاهب والفرق، بل للآراء والفلسفة». وشهرته بلغت الآفاق حتى قال عن السبكي: «وهو عندي خير كتاب صنف في هذا الباب». وقال عنه هابركر الألماني: «بواسطة الشهرستاني في كتابه ـ الملل والنحل ـ نستطيع أن نسد الثغرة التي في تاريخ الفلسفة بين القديم والحديث». وقال عنه الفرد جيوم: «إنه ظل المخلص الواقي الذي تبوب فيه الملل عدم اختلافها وخصائص ومميزات كل منها مما يجعله بحيث لا يمكن الاستغناء عنه في أي زمان». والشهرستاني في هذا الكتاب يؤرخ للمعتقدات والآراء الفلسفية والأفكار، وقد فعل ذلك بعد اطلاعه كما قال على: «مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل والوقوف على مصادرها واقتناص أوانسها وشواردها… عبرة لمن استبصر واستبصاراً لمن اعتبر«. بغض النظر عن الترتيب في تأريخه إذ أرخ للمذاهب والفرق الإسلامية قبل التأريخ لفرق اليهود والنصارى واليونان والمجوس وعبدة الكواكب والأصنام وغيرهم فإن هذا الرجل يعتبر مؤرخاً للأفكار والآراء والمعتقدات، وهو بحق أول من وضع هذه المعرفة (أي هذا العلم) إلا أن من جاؤوا بعده لم يدركوا أهمية التفريع وضرورة استقلال كل بحث غيره نظراً لضخامة هذه المعرفة إلا قليل منهم كما هو الشأن بالنسبة للتاريخ السياسي إذ كان أولى أن يؤرخ للأفكار الاجتماعية (أي الأفكار التي تعالج علاقة الرجل بالمرأة) والاقتصاد (أي الأفكار التي تعالج علاقة الناس في تبادل المصالح) والحكم (أي الأفكار التي بموجبها وجد شكل الدولة ودستورها وقواعدها) والقضاء والتعليم وغير ذلك. وقد يقال إن ذلك سِيْرَ إليه من جهات أخرى حتى وجد ما يسمى بالنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي ونظام الحكم… إلخ، فكان في ذلك، غنى لما ذكرت. والجواب على ذلك أن الأنظمة وإن كانت أفكاراً في أصلها فقد أضحت طريقة لتنفيذ الأفكار والمعالجات وهي طريقة دائمية لتنفيذ العمل وتتضمن أساليب، أي طرقاً دائمية، وإذا سلمنا أن التأريخ للفكر هو نفسه التأريخ للنظام ما دام هذا الأخير فكراً في أصله فإن هذا لا يعني أن المؤرخين حين أرّخوا للأنظمة قد ردوا كل فكرة من أفكار الأنظمة إلى صاحبها الأول من حيث التأريخ لمصادر الأفكار فأفكار النظام الماركسي وإن كانت منسوبة إلى كارل ماركس غير أن ماركس ما هو إلا مادي قد أخذ عن الماديين قبله بغض النظر عن بلورته لها بناء فكر آخر عليها، فأقواله (أي أفكاره) نجد لها مصادر أخرى في تاريخ الفكر الإنساني ولذلك يحسن بنا أن نرد الفكرة إلى مصدرها.

لا شك أن كلاً منا قرأ وعرف عن التاريخ الشيء الكثير، خصوصاً وأن هذا الجانب من المعارف الإنسانية يرتبط بحب الإنسان للاستطلاع، فيسير ببعض الناس نحو الاعتزاز بملامح الأجداد أو الأقوام، ويسير بالبعض الآخر نحو المعرفة مجرد معرفة، ويتناوله الكثيرون لاستخلاص تصورات جديدة لحياتهم تبنى على القديم وهكذا. غير أن الإنسانية لم تكد تلتف للتأريخ للفكر رغم أنها دونت الكثير منه دون اهتمام برده إلى أصله من حيث الانتساب لاعتبارات عديدة، منها أن الأفكار ليست حكراً على أحد، فللإنسان أن يتبنى ما شاء من فكر غيره، ذلك أن الفكر بعد صدوره من الشخص يحصل له التداول، وهذا التداول يصل إلى الاستقرار في أدمغة الكثيرين دون اهتمام بإرجاعه إلى أصله لمعرفة صاحبه الأول. ومنها أيضاً صعوبة مثل هذه الدراسة غير الموصلة في بعض الأحيان أو معظمها نظراً للتفريغ الكثير الذي حصل في فكر الإنسانية حتى أوصل في معظم الأحيان إن لم أقل كلها إلى الجهل بمصادرها، ومنها انعدام معرفة أحوال الأمم قبل كتابة التاريخ إلا ما كان في آثارهم التي خلفوها والتي لا توصل إلا إلى جزء من المعرفة بأحوالهم كذلك.

صحيح أن أي فكر يكفي الاقتناع به حتى يتبنى فيبعد العيب عمن أخذه إذا كان صادراً من غيره. فالفكر الماركسي مثلاً يقوم على القول بأزلية العالم وماديته فإذا أردنا التأريخ لهذه المقولة كفكرة نجد ماركس ليس مصدراً لها بل كانت موجودة فاعتمدها، فهي من مقولات فلاسفة اليونان أمثال هيراقليط فقد قال هذا الأخير بأن: «العالم لم يخلقه إله أو إنسان، وقد كان لا زال وسيظل شعلة حية تشتعل وتطفئ تبعاً لقوانين معينة» وعلق عليه لينين قائلاً: «يا له من تفسير رائع لمبادئ المادية الدياليكتيكية» هاتان المقولتان إذا أريد لهما التأريخ يكون ذلك ممكناً في حق التعليق، وأما بالنسبة للوقوف عند هيراقليط فإنه غير صحيح بل يجب تجاوزه والبحث عن غيره قبله أو في عصره فهو (أي هيراقليط) لم يبن فكره إلا على معلومات سابقة، والمعلومات في أصلها فكر يولد فكراً آخر ومن هنا لم يكن هيراقليط هو المبدع لهذه الفكرة بل سبقه إليها (ماني بن فاتك الحكيم) وربما سبق هذا الأخير أحد غيره، وبذلك يصل بنا الأمر للتأريخ لفكر أول إنسان وهذا لن يصير لانعدام صيرورته مادة للتفكير لأنه غير واقع إلا ما كان من أخباره من جهة القطعي الثبوت كالقرآن قطعياً والسنة المتواترة، لأن كون القطعي الثبوت قطعياً ثبت بالعقل وبني عليه، فيكون ما تضمناه من أخبار غيبية قطعية أيضاً، فإذا اعتمدناهما لمعرفة أول حدث قتل وقع في البشر لم نخطئه ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ @ لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ @ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ @ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ[ وإذا اعتمدناهما كذلك لمعرفة مصدر (الأنا) لم نخطئه ]… قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[. فإذا استعصى علينا التأريخ للفكر فعلى الأقل نؤرخ له بدءاً من وجوده عند شخص أو أشخاص في عمق تاريخ الإنسان الذي نطمئن إليه.

وأما التاريخ الحديث ففيه الكثير مما يحتاج إلى إعادة نظر، فالقول ببشرية القرآن مثلاً صدر عن المستشرقين وصدر عن غيرهم، فقد قال به (جيب) وجيب هذا ليس قائله الأوحد حتى يكون مصدراً له، وحتى يتأتى التأريخ لهذه الفكرة من شخصه، بل سبقه إليه من عاصروا محمداً رسول الله ﷺ، وعليه فإن محاولة التأريخ لهذه الفكرة لن يتجاوز التفكير فيما قبل البعثة المحمدية لأن القرآن الكريم ما كان قبلها ولذلك يكفي التفكير في زمن رسول الله ﷺ لمعرفة مصدر هذا القول حتى يتأتى التأريخ له من ذاك المنطلق سواء استقر الأمر في الغلام النصراني ـ جبر ـ أو تجاوزه إلى غيره ]وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[. إذا أخذنا الأفكار السياسية كفكرة تمتع اليهود بحماية عالمية وحق المواطنة في جميع الدول نجدها فكرة يهودية، وبالتحديد فكرة (لوشيان وولف)، فقد سجلها المؤرخ والديبلوماسي الإنجليزي الشهير (هارولد نيكولون) في مؤلفه الضخم (صنع السلام) 1919 ـ 1944 صفحته 244 حيث قال: «إن لوشيان وولف طلب إليه شخصياً أن يتبنى رأيه وهو أن (اليهود يجب أن يتمتعوا بحماية عالمية، وان يتمتعوا في الوقت نفسه بكل حقوق المواطنة في أية دولة…)». وإذا أخذنا معاهدة (فرساي) نجد أن (ويلسون) قد طلع فيها بأفكار مثالية في أول الأمر ولكنه يوم 28 آذار 1919 تلقى برقية من (يعقوب شيف) ممثل المرابين العالميين تتضمن رأي من يمثلهم في خمس قضايا عالمية: القضية الفلسطينية، والتعويضات الألمانية، سيسيليا العليا، منطقة السار، وممر دانزينغ الذي عرف بمشكلة ممر دانزينغ ومنطلقاً للحرب العظمى الثانية فيما بعد. هذه الآراء صرح بها من ليست له. وإذا أخذنا عصبة الأمم نجدها فكرة يهودية ليس غير وقد افتخر بها في المؤتمر الصهيوني يوم 28 آب 1952 رئيس اللجنة التنفيذية ـ ناحوم سوكولون ـ بقوله: «إن عصبة الأمم فكرة يهودية» وقد وضع هذا الكلام حرفياً في كتاب (اليد الخبيثة) للكولونيل أ. هـ. لين الأميركي في سياق تحذير الشعب الأميركي من الخطر الصهيوني. فإذا أخذنا أفكاراً من هنا وهناك للتأريخ لها نجد أن كثيراً من الخلط وطمس الحقائق وإضلال الناس قد نتج عن عدم رد الفكرة إلى أصلها لاتخاذ ونبني موقف محدد منها. فالمقصود بالتأريخ للأفكار بالإضافة للانطلاق من المصدر الأول أو المصادر المتعددة إذا تعسر رد الفكرة إلى مصدر واحد لإمكانية التقاء الناس في أفكارهم في زمن واحد وأمصار متعددة دون التقاء ذواتهم ودون العلم بذلك هو الإحاطة بمدى انتشار الفكرة في البلدان، وما بني عليها، وما تفرع عنها من فكر آخر لمعرفة انتقالها من حال إلى حال، ومعرفة الأساليب والطرق التي كانت تؤدي بها، واللغات التي كانت تصاغ بها، والصراع الذي أحاط بها، بل وكل شيء يتعلق بها.

ثم إن التأريخ للفكر قد يذهب نحو العموم فنقول تاريخ الفكر الإنسان ونكون بذلك قد سددنا باب التخصص وأضحى العمق في الدراسة عسيراً جداً إن لم يكن مستحيلاً، ولذلك فإن التأريخ للفكر يجب أن لا يذهب بنا نحو العموم، بل نخصص لكل فكر تاريخاً له نظراً لضخامة البحوث وتشعبها، حتى يمكن تكوين صورة مطمئنة عن الفروع التي هي تاريخ الفكر النفسي، وتاريخ الفكر الاجتماعي، وتاريخ الفكر السياسي، وتاريخ الفكر الاقتصادي، وتاريخ للفكر الأدبي فنخصص لكل فرع من فروعه باباً للتاريخ فنوجد تاريخ الفكر الشعري، وتاريخ الفكر الخطابي، وتاريخ الفكر القصصي، وتاريخ الفكر النثري… وبما وجدت امرأة تطالب بتقسيم الفكر الإنسان إلى فكر رجالي وفكر نسائي فتذهب مذهب الرجال وتبحث عن نتائج تفكير النساء في جميع الميادين وتؤرخ له كما يؤرخ لغيره من نتاج تفكير الرجال وهكذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *