العدد 19 -

السنة الثانية – العدد السابع – ربيع الثاني 1409هـ، الموافق تشرين الثاني 1988م

أبحاث إسلامية: السببية

تتمة البحث المنشور في العدد السابق «الوعي ـ العدد 18»

هذه هي الأمور الأربعةُ التي تحدد دورَ العقل في إنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف، أما ما يتعلق بالإرادة فإنه ينحصر في ثلاثة أمور هي:

أولاً: توفر الإرادة وثباتها وبقاؤُها على الدوام:

ذّكرنا أن الإرادة هي التصميمُ على العمل؛ ويلاحظ أن هذا التصميمَ يزيدُ وينقصُ من إنسان لآخر؛ فمثلاً يتفاوت تصميمُ حملة الدعوة في عملهم لإقامة الدولة الإسلامية، ويختلف تصميمُ الواحد منهم في بداية حملة الدعوة عنه بعد تمرسه في حملها سنين طويلة؛ كما وتتفاوت الإرادة اللازمة لإنجاز العمل قوةً وضعفاً حسب نوع العمل المطلوب إنجازه بساطةً وتعقيداً، فالأعمال البسيطة لا تحتاجُ لأكثر من الإرادة البسيطة والأعمال الصعبة لا تحتاج أقوى منها والأعمال غيرُ العادية تحتاجُ لإرادة حديدية غير عادية وهكذا. أما ما يؤثر في قوة وضعف الإرادة في الإنسان الواحد وما يؤثر في ثبات واستمرار هذه الإرادة فهي القوى التي يملكها هذا الإنسان من مادية أو معنوية أو روحية. فمثلاًً القوى الروحية التي يملكها المجاهد في سبيل الله، حيث يؤمن بأن مصيره الجنة وفي مرتبة الصديقين والشهداء، وخوفهُ من الخلود من نار جهنم إذا تولى يوم الزحف، كل ذلك يجعل إرادة القتال عنده أقوى من الحديد وأثبت من الجبال الراسية. والذي يجعل هذه القوى تؤثر في إرادة الإنسان هي مفاهيمه عن الحياة، فالرأسمالي مثلاً حين يرى فُرَصَ وإمكانيات الربح المادي تزداد قُواه المعنوية فيسعى باندفاع وبإرادة قوية، والشيوعي حين يعي على قوانين المادة والطبيعة يندفع بإرادة قوية من أجل تطوير المجتمع. أما المسلم حين يؤمن بأن الأجل من عند الله والرزق من عند الله وحين يتوكل على الله حق التوكل ويتضح لديه مفهوم القضاء والقدر، حين يعي على هذه المفاهيم وغيرها يمتلك الإرادة الحديدية لتحقيق عظائم الأمور؛ ولذلك نرى تفاوتاً كبيراً بين الإرادة التي يملكها المسلم حامل الدعوة نبين الإرادة التي يملكها الرأسمالي أو الشيوعي أو الإنسان غير المبدئي نظراً لاختلاف القوى التي تؤثر في كل منهم روحية كانت أو مادية أو معنوية. ونظراً لاختلاف المفاهيم التي تدفع هذه الإرادة وتوجهها. من كل ذلك نرى أن توقر الإرادة أي التصميم على العمل وثبات هذه الإرادة واستمرار بقائها ومناسبتها للعمل قوةً وضعفاً كل ذلك لا بد منه لإنجاز الهدف أو العمل.

ثانياً – توفر الإحساس بالحاجة إلى العمل:

أننا نلاحظ أهمية دور الإحساس في إنجاز العمل من سلوك الإنسان في الحياة، فنلاحظ مثلاً بأن الذي يحسُّ بحكم الكفر وطغيانه ويعي على مكائده ومؤامراته لا يملك إرادة تغيير الواقع عن طريق العمل لإيجاد الخلافة؛ كما ونلاحظ بأن الإنسان الذي أحسّ بمرارة الفشل يملك إرادة تختلف عن الذي لم يجرب القيام بالعمل: فالإرادة وليدةُ الإحساس أي أنه بدون هذا الإحساس لا تتولد الإرادة، وبوجود الإحساس تتولد الإرادة؛ فالإحساس بالجوع يولد إرادة الحصول على مادة الإشباع، والإحساس بظلم الكفر يولد إرادة الخلاص منه. ولكن حتى نضمن صحة النتائج وتحقيق الهدف المطلوب لا بد أن يكون الإحساس في النفس فيجعله مرهفاً وهو الذي يضبطه فيجعله منتجاً. وقيام الإنسان بالعمل بعد الإحساس مباشرة وبدون فكرن أي التصرف برد الفعل لا يمكن أن يوصل للنتائج المطلوبة فضلاً عن أنه ينتكس بالإنسان إلى درك الحيوان لما فيه من تعطيل لقوى العقل والفكر. فالإحساس هو الذي يولد الإرادة، والفكر هو الذي يجعلها صادقة ومنتجة.

ثالثاً – مساواة الحوافز والطموحات لدى الإنسان بالقدرات والإمكانات:

الإنسان بفطرته عنده من الحوافز والطموحات ويمتلك من القدرات والإمكانات التي يسخرها من أجل الوصول إلى هذه الطموحات. وحتى تبقى قاعدة تحقيق الأهداف صالحة يجب أن لا تقل هذه القدرات عن الحوافز والطموحات، ويجب أن يظل التوازن قائماً بينهما. فإذا كانت الطموحات كبيرة والقدرات قليلة فإن ذلك يولد اليأس والقنوط. وإذا كانت الطموحات قليلة والقدرات على تحقيقها كبيرة فإن هذا يولد التهور أحياناً. وحتى لا يحصل اليأس أو التهور يجب أن يكون هناك توازن بين الحوافز والطموحات من جهة وبين القدرات والإمكانات من جهة أخرى. فالذي يطمح مثلاً لإمامة المسلمين في المسجد لا يحتاج لأكثر من حفظ فاتحة الكتاب والذي يطمح لإمامة المسلمين في الدنيا كلها يجب أن تكون قدراته وإمكاناته بهذا الطموح وأقلها أن يكون فقيهاً من أهل السياسة؛ ومن العبث أن يعمل شابُ الحزب لأن يكون قائداً سياسياً بدون وعيه على الأحداث ومتابعتها وفهمها. فمساواة القدرات بالحوافز والطموحات وتحقيق التوازن بينها أمر لا يستغنى عنه في تحقيق الهدف.

وهكذا فحين قيامنا بتحقيق الأهداف عن طريق ربط الأسباب بمسبباتها لا يصح أن نُهمل جانب الإرادة ودورها في تحقيق الهدف. فقد يقوم العقلُ بتحديد الهدف وبتحديد السباب المفضية لتحقيقه وبربطها ربطاً صحيحاً، ولكن لا يتمُّ تحقيقُ الهدف بسبب الإرادة وعدم كفايتها لتحقيقه؛ فقد يقرر العقلُ القيام بمنجز ضخم كالصعود إلى القمر أو إقامة الخلافة في هذا العصر المظلم من سيطرة الكفر وتسلطه بقواه الجبارة الهائلة على رقاب المسلمين، ولكن إزاء هذا العمل الضخم ولكثرة الصعوبات والعقبات في الطريق قد يصاب الإنسان بإحباط الإرادة أي باليأس والقُنوط، فعندها يستحيل عليه تحقيق الهدف مهما كان الطريق أمامه واضحاً مستقيماً. فحتى تكون الأعمال مثمرة يجب أن يتوفر فيها أمران من الناحية الإنسانية وهما الجانب العقلي والجانب الحسي؛ فالعقل هو الذي يرسم ويخطط بربط الأسباب بمسبباتها والحسُ الفكري هو الذي يولد الإرادة الصادقة ويشعلها ويبقيها ملتهبة على الدوام ويضمن إنتاجها. فارتباط العقل بالإرادة في قاعدة السببية لتحقيق الأهداف وإنجاز الأعمال أمر لا بد منه سواء أكانت الأعمال والأهداف فردية أو جماعية. فعقل الفرد لوحده لا يكفي بل لا بد من اقترانه بالإرادة الكافية اللازمة من أجل تحقيق أهداف الفرد؛ وكذلك الحال بالنسبة للجماعة فإن الإرادة لا تكفي بل لا بد من اقترانها بالعقل، فالعمال في المصنع مثلاً قد يُحسون بظلم رب العمل ومنه يتولد لديهم إرادة التغيير، وحتى يحصل التغيير بالفعل تتولى الجانب العقلي فيهم قيادتهم المتمثلة بالنقابات في النظام الرأسمالي، أي تتولى تنظيمهم للقيام بأعمال جماعية معينة هادفة تؤدي إلى إنصافهم من رب العمل. وكذلك نشاهد ونلمس أن المسلمين اليوم يتشوقون لعودة الإسلام ويُحسون بظلم الحاكم ومن ورائه سيطرة الكفر وطغيانهن فإرادة التغيير متوفرة لديهم وعندهم الاستعداد للعمل، فإذا وجدت القيادة وهي بمثابة العقل لهذه الجماهير الإسلامية التي لا تملك القدرة على التفكير، بسبب طبيعة تكوينها، هذا مع توفر الإرادة لديها، فإذا وجدت القيادة قامت برسم الطريق وحققت الأهداف. ويلاحظ من دراسة الجماعات البشرية المختلفة أن أرقاها هي الجماعات الحزبية لأنها تملك الإرادة والعقل معاً على النطاق الفردي والجماعي؛ فالحزبيُّ حين يسير مع الحزب يسير بحسِّه وعقله معاً، فالفرد في الحزب يمثل الحزب عقلاً وحساً، والحزب يمثل الفرد عقلاً وحساً، ولذلك ما قيل بأن الحزب كلٌّ فكريٌ شعوريٌ قول صحيح. فلدى الحزب بإجماعه التصميم على تحقيق أهدافه أي يملك الإرادة لذلك الهدف كما ولديه العقل المدبر المتمثل في قيادته لرسم الأعمال والتخطيط لها بربط الأسباب بمسبباتها. ولذلك نرى أن العمل الحزبي يحقق أضعاف أضعاف ما يحققه أي عمل فردي أو جماعي غير حزبي. فالعقل والإرادة لازمان لا يفترقان لتحقيق الأهداف الفردية والجماعية عن طريق السببية أي عن طريق ربط الأسباب بمسبباتها المادية. فمن أجل تحقيق هدف معين لا بد من توفر الإرادة لتحقيقه ولا بد من معرفة جميع الأسباب المؤدية ثم ربطها فيه ربطاً صحيحاً، وعندها نقول أننا أخذنا بالسببية فيتحقق العمل جزماً ضمن مقاييسنا المادية، أما إذا حالت دائرة القضاء دون تحقيق هذا الهدف فهو أمر طارئ وحالة خاصة لا حالة عامة في حياة الإنسان، ولا يجوز للإنسان الذي يسعى لتحقيق الأهداف أن يضع ذلك نصْبَ عينيه قبل أو حين مباشرته تحقق الهدف. والواقع أن السببية قانون من قوانين الحياة وسنة من سنن الكون من أجل تحقيق الأهداف في الحياة الدنيا وبدونها لا تتحققُ هذه الأهداف، حتى أن معجزات السماء التي أتى بها الأنبياء إن هي إلا أخذٌ بقاعدة السببية، فحين نزلت معجزة سيدنا موسى بتحدي سحرة فرعون ومعجزة سيدنا عيسى بإحياء الموتى ومعجزة سيدنا محمد بالقرآن الكريم، كل ذلك أخذٌ بالأسباب لحمل الناس على الإيمان بنبوتهم وبرسالتهم.

والحقيقة أن البحث في السببية أي في ربط الأسباب بمسبباتها هو بحث في الوسائل والأساليب والطرق المادية وعلاقتها بالمقاصد أو الأهداف المادية. ففي واقع الحياة يستعمل الإنسان وسائل وأساليب وطرقاً ماديةً من أجل الوصول إلى أهداف أو مقاصد محددة معينة للوصل بالتالي إلى أهداف أبعدَ منها وهي الغايات. أما الوسائل فهي الأدوات المادية التي تستعمل للقيام بالأعمال، والأسلوب هو الكيفية غير الدائمة التي بها يُقام بالعمل ويقرره نوعُ العمل ويختلف باختلاف العمل فهو شكل استعمال الوسيلة أو الهيئة التي يجري فيها استعمال الوسيلة، فعند التفكير بالأسلوب يجب أن يفكر في نوع العمل الذي يراد استخدام الأسلوب للقيام به. أما الطريقة فهي كيفيةٌ (دائمة) للقيام بالعمل. وهي لا تختلف مطلقاً، ولا تتغير، ويقام بها وسائل وأساليب متعددةٍ ومتغيرةٍ. والمقاصد والأهداف هي بمعنى واحد وهي التي من أجلها يقوم الإنسان بالعمل اليومي أي في المدى القريب؛ أما الغاية فهي الهدف البعيد ومن أجلها يتم تحقيق الأهداف، فالإنسان في حياته اليومية يستعمل الوسائل والأساليب والطرق من أجل الوصول إلى مقاصده وأهدافه وبالتالي لغاياته. ومن استقراء هذه الوسائل والأساليب والطرق استقراء علاقتها بالأهداف والمقاصد والغايات نجد أن هناك علاقتين لا ثالث لهما. الأولى هي العلاقة السببية المجردة، فإذا أوصلت الوسيلة أو الأسلوب أو الطريق إلى الهدف حتماً بحيث لا يتحقق الهدف بغيرها فنقول أن العلاقة القائمة بينها علاقة سببية؛ والثانية إذا تحقق الهدف أحياناً ولم يتحقق أحياناً كما أنه يتحقق بغير هذه الوسيلة فإن العلاقة القائمة هي علاقة خاصة بملابسات خاصة وهي ما تسمى بالحالة. فنقول مثلاً أن السكين سبب في القطع أو النار سبب في الإحراق، فالإنسان حين استعمل السكين للقطع إنما استعمل الإدارة أو الوسيلة التي توصل إلى القطع أي استعمل السبب للوصول إلى المسبَّب. والتاجرُ حين يفتح متجراً بقصد الربح نجد أنه يربح أحياناً ويخسر أحياناً أخرى، فالتجارة لا تأتي بالمسبِّب وهو الربح بشكل حتمي وإنما تأتي به وتأتي بغيره، فالعلاقة القائمة بين التجارة والربح لا يمكن وصفها بالسببية المجردة بل يمكن أن تكون سببيةَ لولا تدخل دائرة القضاء. فعلاقة السببية القائمة بين الأشياء المادية في الحياة لا تختلف إلا بمعجزة من السماء وهي لا تكون إلا للأنبياء والرسل كتوقف النار عن الإحراق أو السكين عن القطع مثلاً. أما السببية القائمة في مظاهر الحياة الأخرى فهي تتخلف بفعل القضاء، فوسائلها توصل إلى الهدف ولكن تختلف في بعض الأحيان بفعل دائرة القضاء فيوقف فعلها. فالإنسان في حياته أثناء عمله لتحقيق أهدافه يصادف هاتين الحالتين فقط وهما السببيةُ المجردة والثانية السببية المقيدة بتدخل دائرة القضاء والتي سميناها ظرفاً خاصاً بملابسات خاصة أي الحالة. وعلى كل حال فإن قيام الإنسان في الحالتين هو أخذٌ بقاعدة الأسباب لأنه لا يجوز له أن يلاحظ فعل دائرة القضاء قبل أو حين قيامه بالعمل إذ لا تظهر نتيجتُهُ إلا بعد وقوع الفعل، كما لا شأن للعقيدة حين القيام بالفعل؛ إذ الفعل يطلبه الحكم الشرعي وليس العقيدة.

التتمة في العدد القادم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *