العدد 20 -

السنة الثانية – العدد الثامن – جمادى الأولى 1409هـ، الموافق كانون الأول 1988م

الانهزام النفسي أمام وجود دولة اليهود (جرثومة المرض)

 يقال في الطب للمرض جرثومة تسببه، ولن يستأصل المرض مع بقاء الجرثومة تنخر في الجسم. وكذلك الخَوَرُ واليأس الذي يصيب النفوس له جرثومة، والجرثومة هنا هي نوع من القناعات الهدامة والمفاهيم الانهزامية.

قطاع واسع من الشعب الفلسطيني سكت عن قبول المجلس الوطني بقراري مجلس الأمن 242 و338، وكذلك بقية الشعوب العربية والإسلامية، أي سكتوا عن تصرف منظمة التحرير والمجلس الوطني بتنازلهم عن أرض فلسطين لليهود وباعترافهم بدولة اليهود على أرض فلسطين.

هل كان السكوت يا ترى لأن أبواق الدعاوة استطاعت قلب الحقائق، فبلد أن يرى الناس اعتراف المجلس الفلسطيني بدولة إسرائيل رأوا اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية (المعلنة)؟ أو سكتوا لأنهم يرون في الأمر مجرد (تكتيك) عابر لإحراج اليهود؟

الواقع لا هذا ولا ذاك، فالناس يعرفون أن منظمة التحرير لا (تتكتك) بل هي جادة في الاعتراف بإسرائيل، بل ومتهالكة، وكل يوم تقدم دليلاً وتنازلاً. وأبواق الدعاوة مهما طبّلت وزمرّت وخادعت هي كورقة التين لا تستر عورة ولا تخفي سوْأة.

بيت الداء ليس هنا، وجرثومة المرض ليست بنتَ اليوم.

جرثومة المرض هذه ضربت جذوراً في أعماق النفوس، وانتشرت حتى بتنا نجد عدواها أصابت الناس إلا من رحم ربي.

ولنبدأ بتشخيص عوامل المرض:

1- يقولون: نحن لا نستطيع أن نزيل دولة إسرائيل بالحرب لأن إسرائيل تملك القنابل الذرية، فهي إذا أحست بالخطر الحقيقي على وجودها فإنها تلقي على كل عاصمة من العواصم العربية قنبلة نووية، وتحسم المعركة لصالحها بعد أن تكون حرقت الأخضر واليابس عند العرب.

2- يقولون: نحن لا نستطيع أن نزيل دولة إسرائيل حتى لو لم تستعمل أسلحتها النووية، فهي متفوقة على من حولها بالأسلحة التقليدية. وقد رأينا أنها خاضت حرباً سنة 48، وحرباً سنة 56، وحرباً سنة 67، وحرباً سنة 73، وحرباً سنة 82، ولم تستعمل إلا الأسلحة التقليدية، وفي كل مرة كانت تحسم المعركة لصالحها. وهي تتفوق على العرب مجتمعين كما حصل سنة 67 وليس على دولة عربية بمفردها. ونحن نراها بطيرانها المتفوق تخترق الأجواء العربية لتضرب المفاعل النووي في العراق، ولتضرب في تونس، ولتهدد بضرب الصواريخ في السعودية، ولتهدد بضرب المفاعل النووي في باكستان.

3- يقولون: نحن لا نستطيع أن نزيل دولة إسرائيل لأن دول العامل كلها تعترف بها ولا توافق على إزالتها ويستوي في ذلك الدول الغربية ودول الكتلة الشرقية. لنفرض أننا استطعنا أن نتفوق عليها في المعركة وصرنا على وشك أن نزيلها، فهل تسمح لنا دول العالم بذلك. لن يسمحوا لنا، وستتدخل بعض الدول الكبرى، مثل أميركا، فوراً لدعم إسرائيل عسكرياً، فإن كانت بحاجة إلى الذخائر والعتاد نصبت لها جسراً جوياً لإمدادها كما فعلت سنة 73، وإن كانت بحاجة إلى الدعم السياسي في المحافل الدولية دعمتها وضغطت علينا، وإن رأيتها بحاجة إلى دعم جيش خارجي زجت بأسطولها في المعركة لترجيح كفتها، وستتألب جميع دول العالم ضدنا، فتنقلب النتيجة ضدنا، هذا على فرض أنها كانت لمصلحتنا.

4- يقولون: إننا لا نستطيع إزالة دولة إسرائيل لأن الحكام في البلاد العربية والإسلامية لا يريدون في الحقيقة محاربة دولة إسرائيل، حتى لو كانت لديهم القدرة على محاربتها، ذلك لأنهم عملاء للدول الغربية التي أوجدت إسرائيل. وهذه الحكومات في البلاد العربية والإسلامية ليست على قبل رجل واحد، بل يكيد بعضها لبعض، وقد يصل الكيد إلى حد الوقوف بجانب إسرائيل من بعضهم ضد بعض. وها هي الدول العربية كلها موافقة على قراري مجلس الأمن 242 و338 وموافقة على مقررات فاس وكلها تشكل اعترافاً بدولة إسرائيل. وفوق ذلك فإن مصر عقدت صلحاً كاملاً مع دولة إسرائيل، وها هي الدول العربية التي قاطعت مصر بسبب هذا الصلح تعود عن هذه المقاطعة بدل أن تعود مصر عن هذا الصلح. إذاً فمن الذي سيحارب إسرائيل ليزيلها؟

يضيف هؤلاء القائلون: إن من يفهم هذه الأمور هل يبقى عنده أوهام، وهل يبقى مُصراً على إزالة إسرائيل؟ إن إزالة إسرائيل أمر مستحيل. ولا يقول به إلا الفاقدون للرؤية السياسية الواضحة، المدفوعون بالعاطفة العمياء. وهؤلاء العاطفيون توجد منهم فائدة للتذرع بهم عند التفاوض مع إسرائيل، شرط أن لا يستطيع هؤلاء العاطفيون أن يعرقلوا مسيرة الحل كما يقودها السياسيون الواقعيون.

هذه هي عوامل المرض وأصل الجرثومة.

إن من يتصور هذا التصور ويحمل هذه القناعة الملخصة في البنود الأربعة المذكورة أعلاه، هل يبقى عند ذرّة من الاندفاع لإزالة إسرائيل؟

الحكام في البلاد الإسلامية (ومنها العربية) عندهم هذا التصور وهذه القناعة. السياسيون والمفكرون والكتّاب وقادة الأحزاب عندهم هذا التصور وهذه القناعة. قادة الفلسطينيين عندهم هذا التصور وهذه القناعة. المقاتلون الفلسطينيون عندهم هذا التصور وهذه القناعة. الأتقياء والفسقة عندهم هذا التصور وهذه القناعة. إذاً فإن عامة الناس الذين لهم أثر في الموضوع عندهم هذا التصور وهذه القناة إلا من رحم ربي.

هذا التصور وهذه القناعة هما الجرثومة الخبيثة.

ولكن لنتكلّم بعقل وموضوعية: أليست العوامل الأربعة المذكورة أعلاه حقائق؟ فإن كانت حقائق، فلماذا نسميها جرثومة ومرضاً، ولماذا نحمل هذه الحملة الشعواء على من يبني نهجه السياسي عليها. لماذا نقول عنهم: خونة، ولا نقول عمن ينتقدهم: جهلة؟ ها قد مضت أربعون سنة ونيّفٌ منذ رفض العرب قرار تقسيم فلسطين، فلو كانوا حينئذٍ يفهمون الحقائق وقبلوا بالتقسيم، أليس كان أفضل لهم، وإلى متى يبقى الجاهلون بالحقائق، المنساقون بالعواطف يتطاولون على الساسة الواعين الواقعيين؟

كلا إنها ليست حقائق. إنها أنصاف حقائق، دُسَّ فيها السُّم بالدسم. وهذا شأن المضللين الذين يريدون أن ينجحوا في تضليلهم، فإنهم يمزجون خداعهم بشيء من الحقيقة، فيبرزون الجانب الصحيح ويخفون الكذب، لتمر هذه مع تلك. وقد انطلى الأمر على هؤلاء المغرورين الذين ظنوا أنفسهم حكماء زمانهم.

بالنسبة لما يقال من أن إسرائيل تملك القنابل النووية، وعلى فرض صحة هذا القول (نقول على فرض صحته لأنه ليس مؤكداً) فهل تستطيع إسرائيل تفجير الأسلحة النووية على حدود فلسطين. إذا كانت ستستعمل هذه الأسلحة فإنها لن تكون بمنجاة من ضررها حتى لو استعملت قنابل صغيرة الحجم، فما هي المسافة بين كل من دمشق وعمان وبيروت من جهة وقلب فلسطين من جهة أخرى، والمعروف أن الغبار الذري والإشعاع النووي لا يبقى محصوراً في بقعة صغيرة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن دول العالم لها مصالح ولها رعايا في الدول العربية المجاورة لفلسطين. وإذا تمكنت هذه الدول من إجلاء رعاياها فلا تتمكن من إجلاء مصالحها التي سيكون مصيرها الدمار. ومن هنا فإن إسرائيل إذا استعملت أسلحة نووية فإنها تكون قد أعلنت الحرب على العالم. واليهود في الحقيقة يفضلون الاستسلام على أن يدمروا أنفسهم مع جيرانهم.

ولذلك فإن الأمر المقطوع به بشكل جازم أن إسرائيل لن تستعمل سلاحاً نووياً ولو وصلت إلى حالة الاستسلام.

إن الرعب النووي ألغى فكرة استعمال السلاح النووي في العالم، وها هي روسيا وأميركا تسحبان الأسلحة النووية بالتدريج وتدمرانها.

إن فكرة وجود السلاح النووي عند إسرائيل وأنه جاهز للاستعمال ضد من يحاربها، هذه الفكرة هي سيف مُصْلَتٌ على رقاب الشعوب العربية والإسلامية من أجل أن لا تفكر بمحاربة إسرائيل. لقد لجأ حكام العرب إلى هذه الفكرة لترويض شعوبهم، وقد قال ياسر عرفات في مخيم عين الحلوة قبل حرب 82 في خطاب له بأن إسرائيل تملك عشرين قنبلة نووية. ولماذا يقول ذلك إلا من أجل تخويف الفلسطينيين كي يقبلوا بالاعتراف بإسرائيل.

أما عن تفوّق إسرائيل عسكرياً على العرب مجتمعين فهذه أكذوبة لا تنطلي إلا إلى بعض الناس. نعم إسرائيل تمتلك طيراناً متفوقاً على طيران بعض العرب. العرب لم يحاربوا ولا مرة لا مجتمعين ولا متفرقين. سنة 48 كانت هناك مؤامرة لتسليم اليهود قسم من فلسطين، وقد نفذ الحكام المؤامرة تحت غطاء من بعض المعارك. وسنة 56 الإنجليز والفرنسيون أشركوا إسرائيل في عدوانهم على مصر. وسنة 67 لم يكن العرب ينوون الدخول في حرب، ولم يتوقعوا هجوم إسرائيل، بل كانوا يظنون أن الأمر لن يزيد عن النواحي الاستعراضية. وسنة 73 كان الأمر متفقاً عليه بين مصر وسوريا وأميركا على أن لا يتجاوز حدوداً معينة. وسنة 82 إسرائيل هاجمت لبنان ووقف سائر العرب مكتوفين.

في حرب إسرائيل ضد لبنان سنة 82 ظهر ضعف إسرائيل وهزال قوتها، كما ظهر ضعفها وهزالها قبل ذلك في معركة الكرامة في الأردن سنة 68، وظهر ذلك عند عبور الجيش المصري قنال السويس وتحطيم خط بارليف سنة 73، وهو يظهر الآن أمام أطفال الحجارة في الضفة والقطاع. ومعروف عبر التاريخ أن اليهود جبناء وهم رجال مال وليسوا رجال قتال. وقد وصفهم القرآن بحرصهم على الحياة، أي حياة: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) وصوّر جبنهم بقوله: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)، وهل نسينا ما فعله رجل واحد هو رجُلُ الطائرة الشراعية من القتل والجرح ونشر الرعب في معسكر كامل للجيش الإسرائيلي قرب حدود لبنان من حوالي سنة؟

وأما ما يقال من أن حكام البلاد العربية والإسلامية لا يريدون في الحقيقة محاربة دولة إسرائيل، حتى لو كانت لديهم القدرة لأنهم عملاء، فهذا صحيح. ولكن ما هو علاج هذه الناحية، هل هو التكيّف معها والاستسلام لها؟ أو هو أن ينتفض الشعب ليسقط الحاكم العميل ويسلم مقدرات الحكم لرجل مخلص؟ وإذا كان هؤلاء الحكام ليسوا على قلب رجل واحد ويكيد بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم مع اليهود ضد بعض، فهل علاج هذا هو أن نحني رقابنا لليهود ونتنازل لهم عن فلسطين؟ أو هو أن يطاح بهؤلاء النواطير لتوحيد البلاد والعباد تحت راية حاكم واحد مخلص لشعبه ولعقيدته ولقرآنه؟ وليست الإطاحة بالحكام الخونة بالأمر المستحيل، ولا بالأمر الغريب، بل الغريب هو أن تبقى أمةٌ واحدةٌ ممزوقة إلى كيانات متعددة يحكمها عملاء يخونون أرضهم وشعبهم ودينهم.

أما القول بأن دول العالم كلها، من شرقية وغربية، تعترف بدولة إسرائيل، وأنها لا تسمح بإزالتها. فهذا كلام غير صحيح.

دول العالم كلها اليوم، من شرقية أو غربية، تبحث عن مصالحها. أنهم يقولون: لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل توجد مصالح دائمة، لأن مقياس أعمالهم هو النفعية.

الدول في العالم، من أميركا إلى روسيا إلى الإنجليز والفرنسيين وغيرهم يحافظون على دولة إسرائيل بقدر ما يجنون من ورائها من منافع، وهم مستعدون للتخلي عنها، بل وللمساعدة على قلعها بمقدار ما تجر عليهم من خسائر.

اليهود على مر التاريخ أثبتوا أنهم لا يحبون غير أنفسهم ولا يخلصون لغير اليهود. إنهم شعب يحتقر بقية الشعوب ويعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وهم شعب متقوقع على نفسه، هكذا كانوا في السابق وهكذا هم اليوم. فنرى اليهودي الروسي مثلاً لا يوالي روسيا وشعبها ودولتها، بل هو يحمل الولاء لليهود أينما كانوا ولدولة إسرائيل. وها هم يهود أميركا لا يحملون الولاء لأميركا وشعبها ودولتها، بل يشكلون من أنفسهم أداة ضغط (لوبي) لتسخير أميركا لإسرائيل. وهكذا جميع اليهود في جميع الدول. هذا ما يولّد الكراهية بين اليهود وغيرهم من الشعوب، فلا يبقى من دافع للدول والشعوب يدفعها للتعاطف مع اليهود غير المصالح. وفي حقل المصالح لا يقبل اليهودي إلا أن يستفيد هو أكثر مما يستفيد غيره من المعاملة. ولذلك فإن الذي يراهن على الاستفادة من اليهود سيكون مخطئاً (وليت الموارنة يفهمون هذه الحقيقة).

إذا لن تجني دول العالم أي نفع من اليهود إلا في حالات عابرة، فيكون القول بأن العالم لن يتخلى عن إسرائيل ولا يمكن أن يسمح بإزالتها هو كلام مبني على رمال.

ولو كان في المنطقة رجال لما كان اليهود حصلوا على ما حصلوا عليه. ولو قامت الآن في المنطقة دولة لها وزن لكانت خيّرت دول العالم بين إسرائيل وبيننا. وأية دولة في العالم تختار إسرائيل علينا ستفقد مصالحها عندنا وستبوء بعداوتنا، ولا نظن أن هناك دولة تفرط بمصالحها عند مائتي مليون عربي أو مليار مسلم لتفتش على مصالح عند ثلاثة ملايين يهودي.

نقول: لو كانت في المنقطة دولة محترمة لاستطاعت أن تجعل دول العالم تسحب اعترافها بإسرائيل ولاستطاعت عزلها دولياً، لحطمتها قبل أن تدخل الحرب معها.

فأهم نقطة هي أن تهزم عدوك نفسياً قبل أن تهزمه بالسلاح.

ولكن مع الأسف أن أمتنا الآن، في شرق البلاد وغربها، تعاني من الانهزام النفسي أمام وجود دولة اليهود، وتعيش حالة اليأس من إزالتها. وهذا هو المرض، وهذه هي جرثومته. ومن العبث أن نحاول إزالة المرض دون استئصال جرثومته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *