العدد 18 -

السنة الثانية – العدد السادس – ربيع الأول 1409هـ، الموافق تشرين الأول 1988م

قوة الشخصية

بقلم: عبد الهادي كريم ـ الكويت

إذا كانت عناصر بناء الشخصية هي مجموعة الأفكار والمقاييس والقناعات التي تشكل عقلية الإنسان ونفسيته فإن قوة شخصيته تنبع من قوة هذه العناصر. فإذا كانت أفكار شخص عميقة واضحة، وكانت مقاييسه وقناعاته كذلك، كانت شخصيته قوية مؤثرة، ولكنها لا تكون كذلك عندما تكون أو تصبح هذه العناصر سطحية غامضة، أو مستنيرة نافذة، فهي في الحالة الأولى تفتقد القوة والتأثير، وقد تصبح مهزوزة، وفي الحالة الثانية تمتلكها أكثر وأكثر.

لنوضح فنقول: إن المسلم الذي درج على أخذ إسلامه بالتقليد العامي دون معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها، فيعرف مثلاً أن الصلاة واجبة عليه خمس مرات في اليوم دون معرفة الأدلة على ذلك، ويعرف مثلاً أن نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة دون معرفة الأدلة في ذلك، ويعرف مثلاً أن للقوتين العظميين في العالم دوراً في مصائر الشعوب والأمم دون معرفة حقائق ذلك ولا متى يكبر هذا الدور أو يضعف أو يتلاشى.. هذا المسلم المقلد العامي لا يملك الشخصية القوية المؤثرة لا عند الحديث عن عناصر مكونات شخصيته ولا عند العمل بها، بينما نجده يصبح صاحب حضور قوي ومؤثراً سواء في حديثه أو عمله عندما ينتقل من دور التقليد العامي إلى دور التقليد بالدليل، أي بعد معرفة أدلة الأحكام والأفكار.. التي اتخذ منها عناصر لبناء عقليته وصياغة نفسيته.. ولكن صاحب هذا الحضور القوي المؤثر يزداد قوة إلى قوة، وتأثيراً إلى تأثير، عندما يتجاوز مرحلة التقليد بدوريها إلى مرحلة الاجتهاد بأدوارها الثلاثة، فيكون بقوة وتأثير أكبر من دور اجتهاد المسألة، وأكبر وأكبر مع دور اجتهاد المذهب، وأكبر وأكبر مع دور الاجتهاد المطلق.

ولكن ما صلة قوة الشخصية بالمزيد من العلم؟ وهل مجرد زيادة العلم كفيلة بزيادة قوة الشخصية؟ وهل بالضرورة أن يكون كل عالم قوي الشخصية أم أن قوة الشخصية مرتبطة بعلوم دون علوم، وبمؤثرات دون مؤثرات؟

لنسأل وقائع الحياة فلعل فيها ما يجيب على هذه التساؤلات.

ها هما جاريتان تجلسان في حضرة الرسول عليه السلام تضربان الدف، وتستمران في الضرب عند دخول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتتوقفان عن ذلك وتهربان من المجلس عند دخول عمر الفاروق رضي الله عنه واستنكاره لما يرى.. فهل شخصية عمر أقوى من شخصية أبي بكر، أو من شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل لما حدق صلة بزيادة العلم أو نقصانه لدى أي منهم، أم أن هناك أموراً أخرى تداخل العلم وتكتنفه حتى يكون صاحبه قوي الشخصية مثيرها؟

وها هو الرسول عليه السلام يسند الإمارة لمن هو أقل علماً أو مماثل العلم أبي ذر الغفاري بينما يرفض أن يسندها إليه قائلاً له: «إنك ضعيف..» فمن أين جاء هذا الضعف في شخصية أبي ذر بينما اشتهر عنه أنه كان يتحدى أقوى الولاة في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر الفاروق رضي الله عنه وذلك بتوجيه النقد لما يراه من عدم إنصاف الفقير أو المظلوم في ولايته، حتى أنه طلب من الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان أن يستدعيه ويبعده عن ولايته، ففعل، واضطر أن يبعده ثانية إلى الربذة بعد أن اشتد في توجيهه للنقد لما يظنه ويراه ليس عدلاً ولا مطابقاً للعدالة الإسلامية.. فهل مثل هذه الشخصية فيها ضعف مع هذا التحدي للمسؤولين الكبار، والتصدي لما يراه ظلماً، أم أن الضعف الذي رآه الرسول عليه الصلاة والسلام وقرره في شخصيته هذا الصحابي له أسباب وعوامل أخرى؟

لنسمع الرسول عليه السلام وهو يخاطب أبا ذر في مناسبة أخرى «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية».. أبو ذر فيه جاهلية؟ لماذا؟ وكيف؟ لقد سقط سقطة من لسانه عندما تهجم على مؤذن الرسول عليه السلام بلال رضي الله عنه قائلاً له: يا ابن السوداء! معيّراً ومحقّراً! فما كان من الرسول الكريم إلا أن نبهه إلى أن مثل هذه السقطة تدل على وجود بقايا من الجاهلية في نفسه.. فهل مثل هذا التسرع في التهجم على الآخرين بدون روّية أو استدلال هو سبب الضعف في شخصية أبي ذر حتى رفض الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستجيب لطلبه ويسند إليه الولاية، أم أن مجرد الطلب من أبي ذر فيه دلالة على تشوّق نفسه للدنيا ومغانمها مما يدل على ضعف في نفسه وخوف عليها من أن لا تحسن الإمارة؟

إن من أحداث حياة أبي ذر الإسلامية دلالات على عناصر قوة بناء الشخصية الإسلامية. فهي أولاً الإيمان الصلب، وثانياً وضوح الأفكار الإيمانية ومفاهيمها العملية، وثالثاً نقاء هذه الأفكار وصفاء النفس التي صاغتها هذه الأفكار من كل الشوائب التي لا تليق بها، ورابعاً الحرص على صلابة الإيمان ووضوح مفاهيمه ونقاء أفكاره وصفاء نفسيته بدوام المتابعة  والغربلة حتى لا يعلق بها ما ليس منها وحتى تستمر بل تزداد وضوحاً ونقاءً وبالتالي صلابة وقوة..

ثم لماذا نبتعد عن الخلفاء الراشدين المهديين الذين قال عنهم الرسول عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» ونحن نستنطق الأحداث الواجبة الاعتبار في حق كل مسلم يسعى لبناء شخصيته بقوة وتأثير؟

ها نحن مع الرسول عليه السلام وهو يقول: «وزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر»، فهل اختياره عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وعمر معاونين له في الحكم، لا في الرسالة بالطبع، إلا دليل على قوة شخصية كل منهما؟ ولكن السيرة النبوية، ثم سيرة كل منهما، تميّز بين شخصية كل منهما، فتنقل إلينا اللين والتسامح، في جانب أبي بكر، والعنف والتشدد، في جانب عمر، فهل مثل هذه الصفات المميزة لكل منهما عن الآخر تنقص من قوة الشخصية؟ لنسمع الرسول عليه السلام وهو يصر على أن يؤم أبو بكر بالناس في مرضه دون عمر رغم إلحاح عائشة رضي الله عنها بذلك، فهو عليه السلام لم يرد في لين أبي بكر ضعفاً ولم يرد في شدة عمر قوة.. ولنسمع الرسول عليه السلام وهو يقرر أن الشيطان لا يمكن أن يسلك طريقاً يسلكه عمر، وأنه عليه السلام يدعو ربه أن ينصر الإسلام بأحد العمرين، فاستجاب له ربه بعمر بن الخطاب، فلم ير عليه الصلاة والسلام، من جانب آخر، في شدة عمر ضعفاً، بل رآى أن الله استجاب لدعائه فنصر دعوته بإسلام عمر وشدته.. وها نحن مع الرسول عليه السلام وهو يغطي فخذه المكشوفة لدخول عثمان عليه ويقول بأنه يستحي ممن تستحي منه الملائكة بينما لم يفعل ذلك لغيره، وها هو عليه السلام يزوج ابنتين لابن عفان، ليكون ذا النورين، فهل محبة الرسول عليه السلام لعثمان لا تدل على قوة شخصية هذا الخليفة الراشد الثالث؟ ولكن التاريخ يلقي بأضوائه الباهتة بل بظلاله الثقيلة على سيرة هذا الصحابي الجيل فيحاول أن ينتقص من شخصيته وقوتها وصفائها تبعاً لهذا الكاتب أو ذلك، فهل أحداث ذاك التاريخ تستقيم مع تلك الشخصية الصحابية الفذة؟!  وها نحن مع سيف الله البتّار، والفدائي الأول في الإسلام، الذي يجد الرسول عليه السلام في محبته دليلاً على محبة الله ورسوله، إنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، كما يجد عليه السلام فيه القائد المحبوب من الله ورسوله الذي يفتح الله على يديه خيبر، والصحابي العالم بدقائق شريعة الله.. فهل مواقفه من تولّي الخلافة بعد الرسول عليه السلام، وطلبه لها، مما يلحق الضعف بشخصيته القوية الفذة؟ وهل موقفه من أحداث الفتنة التي انتهت باستشهاد ذي النورين، وبعد تنقيتها من شوائب الدس والافتراء، يصيب شخصيته هذه بأي ضعف؟ إن التاريخ مهما كان أميناً ليس من السهل الاعتماد عليه في إعطاء الصورة الحقة عن شخصية كبيرة ذات جوانب مبهرة، فكيف بمثل شخصية علي التي تمتاز بمثل هذه الجوانب كلها لا بعضها؟

فأين هي عناصر قوة الشخصية في هؤلاء الخلفاء الراشدين المهديين الأربعة؟ ولو أضفنا إليهم، كما يفرض الحق، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، رغم بُعد خلافته عنهم، بما امتازت به شخصيته، وبما تركت من آثار على الأمة والمجتمع طيلة عهده القصير، فهل نستطيع أن نحدد عناصر الشخصية القوية التي نطمح بل نطمع أن تكون لدى كل من يتصدى لشؤون المسلمين ورعايتهم سواء كان من العلماء أو الأمراء، كما نرجو ونأمل أن يحرص على توفرها كل من يهتم بأمر المسلمين من دعاة الإسلام وحملة دعوته؟

ها نحن من خلال هذه الوقفات السريعة، كتابة، وغيرها من حياة هؤلاء القمم من الصحابة، تذكراً، نستطيع أن نحدد العناصر التالية الشخصية الإسلامية القوية:

1- توفر الإيمان الكامل الصلب الواضح بكل أفكاره ومفاهيمه.

2- صياغة النفس لدى صاحبها صياغة تامة بذلك الإيمان.

3- الحرص على متابعة هذا الوضوح الفكري والنقاء النفسي لاستمرار النقاء وزيادة الوضوح والصفاء.

وهذا يعني أنه لو توفر لدى صاحب الشخصية عنصر دون عنصرين، أو عنصران دون الثالث، فالخطر من تدميرها أو لحاق الثغرات، صغيرها أو كبيرها، قائم. صحيح أن الشخصية الإسلامية مهما كانت قوية في عناصرها ومقوماتها هي شخصية إنسان، أي مُعرَّض للخطأ كما هو مُعرَّض للصواب مهما كان حريصاً، ولكن العبرة باستمرار هذا الحرص، وبقاء هذا الاستعداد للتخلص من الأخطاء والرجوع إلى الحق على أشده مهما كانت الظروف والأحوال.

هذا بالنسبة لقوة الشخصية الإسلامية وعناصرها، وأما الشخصية غير الإسلامية، فلها بالمقابل من عناصر معتقداتها، ومدى تأثير هذه المعتقدات على نفسيتها، وترجمة ذلك كله في الوقائع الحياتية، لها في ذلك كله عناصر البناء للشخصية وعناصر القوة في آن واحد.

ولكن أين لعناصر قوة الشخصية الإسلامية التي تجمع بين الجوانب المادية والمعنوية والروحية معاً، وتلك الخاصة بغير الإسلامية التي مهما قويت لا تتجاوز العنصرين المادي والمعنوي؟! هذا ناهيك عن صحة وسلامة كل عنصر منها!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *