العدد 18 -

السنة الثانية – العدد السادس – ربيع الأول 1409هـ، الموافق تشرين الأول 1988م

مشكلة لبنان

 يقولون بأن مشكلة لبنان بدأت سنة 1975م. والواقع أن الجولة الأخيرة من هذه المشكلة هي التي بدأت سنة 1975. أما المشكلة نفسها فهي أقدم من ذلك، وقد مرت في جولات كثيرة قبل ذلك بدءاً بأحداث 1840 ثم 1860 مروراً بمشاكل تكبير لبنان سنة 1920 ثم إحصاء سنة 1932 ثم حرب 1958.

إن لبنان صيغ بشكل لا يؤمّن له الاستقرار. والاستقرار، في أي بلد، له شروط موضوعية إذا فُقِدتْ فُقِدَ الاستقرار. من أهم هذه الشروط هو الفئة التي يستند إليها الحكم في ذلك البلد.

إذا كان البلد خاضعاً لقوة خارجية فيجب أن تكون هذه القوة كافية لإخضاع سائر القوى التي تفكر في التشويش عليها سواء من الداخل أو من الخارج. فإذا كانت كذلك منعت الفوضى والتشويش وأمنت الاستقرار.

إذا كان البلد يحكم نفسه بنفسه، ويستند الحكم فيها إلى أهله فقط، وكان أهله على رأي واحد، فإنه يكون مستقراً. أما إذا كان أهله منقسمين في الرأي إلى فئات، فإن كل فئة تحاول أن تهيمن هي على الحكم في البلد لتسيير الدفة حسب رأيها. وهنا يقع الصراع على الحكم. والأمر الطبيعي هو أن تسيطر على الحكم الفئة الأقوى، وسيطرتها تُنهي الصراع وتُوجد الاستقرار. ولكن هذه الفئة الأقوى إذا صارت تجور تظلم الفئات الأخرى فإن الاستقرار سيهتَز، لأن النفوس تأبى الظلم وستلجأ إلى شتى الأسباب لدفعه.

أما إذا كانت هذه الفئات المختلفة في الرأي متقاربة في القوى، فإن الصراع سيطول، لأنه لا توجد فئة تستطيع أن تحسمه بسرعة. وغالباً ما يقوم أفراد، في مثل هذه الحال، من الفئات المتصارعة لإيجاد تفاهم لتوزيع السلطة بالتراضي. ولكن مثل هذا التفاهم يكون عارضاً ومؤقتاً لأنه ليس ناتجاً عن قناعة ووحدة في الرأي بل هو ناتج عن ظروف ضاغطة، فإذا استطاع طرف التملص من هذه الظروف فإنه سرعان ما يتخلى عن التفاهم وينقض المواثيق. وتبقى الفئات في حالة هدنة وليس في حالة عيش طبيعي. وأثناء هذه الهدنة تبحث كل فئة عن حلفاء خارج البلد لتستقوي بهم على الفئات الأخرى. ومن الصعب أن يحصل في البلد استقرار حقيقي في مثل هذه الحال.

وإذا عدنا إلى الوضع في لبنان نحد أن أهله لا يشكلون فئة واحدة. فهم يحملون أفكاراً مختلفة، وعندهم مشاعر متضاربة هناك تيار النصارى وهناك تيار المسلمين. وعند النصارى توجد أحزاب وتناقضات، وعند المسلمين توجد أحزاب وتناقضات. فهناك الشيوعيين والقوميين والسوريين والقوميون العرب، وهناك البعثيون والاشتراكيون وغيرهم. مما يجعل البلد يفقد اللون والطعم والرائحة، ويفقد الهوية الواضحة.

وحين تولت فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان رجحت كفة النصارى خاصة الموارنة فسلمتهم السلطة، وفصّلت الدستور بحيث يساعدهم على الاستمرار في السلطة. ولكن بعد ذهاب فرنسا لم يعد الموارنة هم الفئة الأقوى. وفي الواقع فإن المسلمين، وخاصة بعد دخول الفلسطينيين صاروا هم الفئة الأقوى. وليس من الطبيعي أن تبقى الفئة الأضعف تهيمن على الحكم وتستأثر بكافة الامتيازات، بينما الفئة الأقوى محرومة من السلطة ومحرومة من الحقوق.

صار النصارى يحاولون الاستعانة بفرنسا من جديد وبالفاتيكان وبسائر الدول الغربية. وصاروا يحاولون الاستعانة بإسرائيل. وصار المسلمون يحاولون الاستعانة مرة بمصر (أيام عبد الناصر) ومرة بسوريا. وبذلك بقي هناك شيء من توازن القوى مع شيء من التحريض الخارجي. وهذا ما يمنع حصول التفاهم ويمنع غلبة طرف على طرف مما يمد في عمر المشكلة.

مشكلة لبنان بدأت منذ حاولوا جعل لبنان كياناً مستقلاً. لبنان لا يملك مقومات الدولة ولا مقومات الاستقلال. الطفل لا يجوز دفعه إلى الاستقلال عن والديه قبل بلوغ سن الرشد. والبنت ليس لها الاستقلال فيه تنتقل من ولاية أبيها إلى ولاية زوجها. وهناك بلدان مثل البنات لا يوجد عندها مقومات الاستقلال. ولبنان هو من هذا النوع من البلدان.

وهذا لا يعني أننا نشجع البلدان التي تملك المقومات على الاستقلال أن تستقل عن إخوانها. الأصل هو الوحدة والترابط والمصير الواحد. الأصل أن يعيش المرء مع جماعته يؤازرها وتؤازره، يدافع عنها وتدافع عنه. ولا يسعى المرء للاستقلال إلا إذا كان مستَعْمَراً أو مظلوماً. والعلاج في هذه الحالة هو رفع الاستعمار ورفع الظلم وليس الانفصال، لأن الاستقلال هو نوع من الفُرقة والتجزئة والانفصال، وهذه تشكل عوامل ضعفٍ وانهزام..

البلاد العربية الآن تشكل اثنتين وعشرين دولة، مستقلاً بعضها عن بعض، أي هي مفتتة إلى اثنتين وعشرين قطعة. ودولة اليهود في فلسطين لا تزيد عن قطعة صغيرة من هذه القطع وهي تتحدى الجميع وتدوس رقاب الجميع. وأهم سبب لذلك أنهم متفرقون. وحين سئل أحد العرب سنة 48: «كيف غلبتكم إسرائيل وأنتم سبع دول»؟ أجاب: «غلبتنا لأننا سبع دول». والآن زادت البركة فأصبحوا اثنتين وعشرين ودولة!

وها هم جزأوا لبنان لأنهم رأوه كبيراً جداً!

فرنسا تقترح أن يجري انتخاب الرئاسة بإشراف قوات الأمم المتحدة. النصارى كانوا قد وكلوا أميركا والمسلمون وكلوا سوريا. واتفقت أميركا وسوريا نيابة عن أهل لبنان. فهل في لبنان دولة أو مقومات دولة؟

مشكلة لبنا تكمن في محاولة إبقاء كيان مستقل اسمه لبنان. حل مشكلة لبنا هي في توحيد لبنان مع أصله: بلاد الشام، وبذلك يزول الصراع على السلطة بين المسلمين والنصارى، وتنتهي الامتيازات الطائفية.

وهذا لا يعني أن يُظلم النصارى أو تُهضم حقوقهم أو ينتقص من كرامتهم. فهذه البلاد العربية كلاها والبلاد الإسلامية كلها فيها نصارى وهم معززون مكرمون ولا يشكون من شيء. والآن صار هؤلاء النصارى في البلاد العربية والإسلامية يحسبون ألف حساب لسوء تصرف إخوانهم نصارى لبنان وخاصة الموارنة، لأن سوء تصرف هؤلاء سيجر على أنفسهم وعلى إخوانهم عواقب وخيمة.

الموارنة اليوم يريدون أن يعيشوا في ظروف وفي عقلية سنة 1920 حين انتهت الحرب العالمية الأولى وحين وضعت فرنسا يدها على سوريا ولبنان بموجب اتفاقية (سايكس ـ بيكو). وليتهم يدركون أن الظروف الآن تغيرت وليتهم يعودون عن العناد العبثي فيوفِّروا على أنفسهم وعلى من حولهم هذه المشاكل. وليتهم يدركون أن دولة اليهود في فلسطين هي خصم لهم كما هي خصم للمسلمين، وأنها إن ساعدتهم مرة ضد المسلمين فإنما أرادت أن تورطهم وتعمق خصومتهم مع المسلمين.

نحن نعلم أنه يوجد بين النصارى عقلاء ويوجد بين الموارنة عقلاء، ولكن لا يكفي وجود هؤلاء بل لا بد أن يكونوا هم أهل الحل والعقد، وأصحاب الأمر والنهي عند الموارنة، كي يضعوا الأمور في نصابها.

أرض لبنان جزء من الشرق وليست جزءاً من الغرب، ونصارى لبنان بمن فيهم الموارنة جزء من شعوب هذه البلاد وليسوا جزءاً من شعوب الغرب. جيرانكم مسلمون ولبنان الذي تعيشون فيه جزء من البلاد الإسلامية، وقدركم أنكم جزء من هذه الشعوب وهذه البلاد. وهذه الشعوب الإسلامية تحترمكم وتحترم عقيدتكم ولا يجادلونكم إلا بالتي هي أحسن كما أوصى القرآن الكريم: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وقد وصف القرآن الكريم العلاقة بين المسلمين وغيرهم بقوله: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).

فاتركوا التطلع إلى اليهود، واتركوا التطلع إلى الغرب، واصلحوا حالكم مع المسلمين، وانتقلوا من عقلية 1920 وتصرفوا بناء على ظروف الواقع في هذه الأيام. فإن فعلتم ذلك تكونوا قد أحسنتم لأنفسكم ولجيرانكم وساهمتم في حل مشكلة لبنان

أسرة «الوعي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *