العدد 18 -

السنة الثانية – العدد السادس – ربيع الأول 1409هـ، الموافق تشرين الأول 1988م

القتال وحمل الدعوة

قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

سورة البقرة: 190 ـ 195

سبب النزول:

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) قاله ابن عباس.

وروي أن المشركين قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فيه فنزلت هذه الآية (الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) قاله الحسن.

إقامة الدولة في المدينة وفرض الجهاد:

لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة إلى المدينة وإقامة الدولة فيها كان محظوراً على المسلمين بنصوص كثيرة في كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا) وأمثال هذه الآيات كثير تدل على أن المؤمنين كانوا منهيّين عن قتال أعدائهم، وهناك نص صريح بالكف عن القتال وهو قوله تعال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) الآية.

روى ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم  فقالوا: يا رسول الله كنّا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلّة! فقال عليه السلام: «إني أُمرتُ بالعفو فلا تقاتلوا»، فلما حوّله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا فأنزل الله تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ..) الآية (تفسير الطبري 8/549).

هل يباح القتال في الحرم؟

دل قوله تعالى: (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) على حرمة القتال في الحرم، إلا إذا بدأ المشركون بالعدوان، فيباح لنا قتالهم دفعاً لشرهم وإجرامهم، ولا يجوز لنا أن نبدأهم بالقتال عملاً بالآية الكريمة، وعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.

وقد روى عن مجاهد في قوله تعالى: (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أنه قال: «لا تقاتل في الحرم أبداً، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك». (جامع البيان للطبري ج 2/192).

قال القرطبي: «وللعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما أنها منسوخة، والثاني أنها محكمة.

قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل؛ وبه قال طاووس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه».

ويدل عليه ما روي في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  خطب يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» (رواه البخاري ومسلم، وانظر القرطبي ج 2/330).

المراد بالعدوان في الآية الكريمة:

حرّم الله عزّ وجل الاعتداء في قوله: (وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

فما هو المراد بالعدوان في هذه الآية:

كثيرٌ من المسلمين هذه الأيام يستدلون بهذه الآية لدعم قولهم بأنها تنهى المسلمين عن بدء الكفار بالقتال، وأن الجهاد في الإسلام هو حربُ دفاع فقط. وللردِّ على هذه الفردية نورد أولاً قول المفسِّرين في تفسير هذه الآية والمعنى المراد من «العدوان».

1- قال الحسن البصري، إن «العدوان» في هذه الآية هو ارتكاب المناهي من المُثْلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ، الذين لا قدرة لهم على القتال، ويدخل فيه قتل الرهبان، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة، فكل هذا داخلٌ في النهي (وَلاَ تَعْتَدُوا).

ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «أغزو بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، واغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع» (رواه مسلم وأحمد ـ أنظر تفسير ابن كثير ج 1/226).

قال القرطبي: «ويدل عليه من النظر أن قاتل (فَاعَلَ) لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشببهم، كالرهبان، والزّمْنَى، والشيوخ فلا يقتلون، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه (يزيد ابن أبي سفيان) حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، وللعلماء فيهم صور ست:

الأولى: النساء إن قاتلن قُتلن لعموم قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).

الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، لأنه لا تكليف عليهم.

الثالث: الرهبان لا يُقتلون ولا يُسترقون لقول أبي بكر (فذرهم وما حبسوا أنفسهم له).

الرابعة: الزّمنى إن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة.

الخامسة: الشيوخ قال مالك: لا يقتلون وهو قول جمهور الفقهاء إذا كان لا ينتفع بهم في رأي ولا مدافعة.

السادسة: العسفاء وهم الأجراء والفلاحون لقول عمر (اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب). (أنظر تفسير القرطبي ج 2/327 وأحكام القرآن للجحاص ج1/302).

ومن هنا يتبيّن لنا ما قاله جمهور المفسرين في تفسير كلمة (ولا تعتدوا) الواردة في هذه الآية. ولا مجال لأن يقول قائل بأنّ هذه الآية تنهى عن العدوان بمعنى مبادأة الكفار بالقتال، فهذا فهمٌ سقيم، وليسمعوا قول رسول الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام حين يقول: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسولُ الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذ فعلوا ذلك عصموا منّي دماءَ÷م وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله تعالى». (رواه البخاري ومسلم).

فإنما «الجهاد» قد شرَّع لإعلاء كلمة الله ونشر الدعوة الإسلامية، ولينظر هؤلاء إلى التاريخ الإسلامي، كيف فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام وكيف تصرَّف الخلفاء من بعده وفتحوا العالم ونشروا الإسلام. هل كان فتحهم لهذه البلاد دفاعاً عن النفس؟! عجباً ما يقولون!! والله إنها لفريدٌ ما أُؤيد بها إلا الطعن بذروة سنام هذا الدين ألا وهو «الجهاد».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *